يختلف الناس ويتفقون مع الشيخ الأستاذ المهندس والزعيم السياسي عبد الله أحمد الريح عبد الباقي المشهور بأزرق طيبة، ولكنه رجل يلتف حوله ويريده ويحبه البسطاء والمرموقون من الناس، في ذات الوقت الذي يهابه ويتحاشاه فيه كثير من ذوي السلطان ويترصده بالخصومة والبغضاء أصحاب الأجندات الخاصة والمنكفئة والعنصرية، جدير بأن يجعلك تتوقف ألف مرة قبل أن تحاول إعمال ضوء كاشف على سيرته واختياراته السياسية في مختلف المحطات التي مر بها ومرت به .
وتقول صحيفة إنجازات الرجل – على كل حال - إنه أعاد تجديد خلوات القرآن الكريم وزاد رقعة المسيد بطيبة وزاد مساحة المسجد من الجهة الغربية بمساحة قدرها 330 متر مربع وهو الذي كانت مساحته 1000 متر مربع . كما أنه أعاد بناء مسيد آبائه بأبي حراز وعمل على تسوير مسجدها وزاد من مساحته وأسس المدرسة الثانوية بطيبة، كذلك أقام مجمعاً إسلامياً بمدينة كوستي وزوايا للقادرية بالمسلمية والكريبة وسنار والقضارف وكسلا والرصيرص وحلفا وبورتسودان وشندي وغيرها، وامتدت رقعة دعوته لتشمل تلاميذ في السعودية ومصر والشام وتركيا وألمانيا واندونيسيا ودول غرب أفريقيا وغيرها ونشر الدعوة بجنوب السودان وله خلاوى هناك ظلت نيرانها تضئ حتى في زمن الحرب الأهلية والتمرد . حاول الشيخ عبد الله أن يجمع بين التأصيل والتحديث في تنظيم أحبابه ومريديه فأسس روابط أبناء الطريق القادري للجنسين كل على حدة بالمدن والأحياء والجامعات والمصالح الحكومية واجتهد في نفي ما ينسب للمتصوفة والسالكين من السلبية والتبطل، فجعل العلم وطلبه أو العمل الصالح أساساً للطريقة القادرية فتدافع إليه أساتذة الجامعات وطلابها والأطباء وأهل العلم والمعرفة والسياسة ليستمعوا إلى نصحه الهين ( بمراقبة الله ومجالسة الكرماء ومخالطة الحكماء ومساءلة العلماء وأن الخير في العقل الدال وإخوان الطريق المرشدين وعليكم بالعلم فإنه أساس طريقتنا هذه فإن تعلُّمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه صدقة).
(2)
تكاد تكون سيرة مولانا الشيخ عبد الله أزرق طيبة نسخة مكررة من سيرة جده الشيخ عبد الباقي بن الشيخ حمد النيل الذي يعتبر المؤسس الثاني لطيبة بعد جده الشيخ يوسف أبو شرا. فكأنما سار الحفيد عبد الله على خطى الجد عبد الباقي سواء من حيث الاهتمام بتجديد وإعمار المسيد أو من حيث الاهتمام بالعلم والتعليم ونشرهما أو من حيث الجرأة على (كلمة الحق في وجه السلطان الجائر) دون أن تعني هذه الجرأة تعريض مصالح عامة الناس للضياع . وتقول سيرة الجد إنه ولد سنة 1848م ووالدته هي السيدة فاطمة بنت الشيخ عبد الباقي بن الشيخ يوسف أبو شرا، درس القرآن الكريم وختمه ثلاث مرات حفظاً وأتقن العلوم الإسلامية ومذهب الإمام مالك. آلت إليه الخلافة عام 1900م فأعاد بناء خلوات القرآن بالطوب واهتم بالتعليم المدرسي فأسس مدرسة من أوائل المدارس في السودان عام 1906م وكان يرسل إلى زعماء العشائر وأهل القرى المجاورة وأولياء الأمور لضرورة إرسال أبنائهم إلى طيبة لإلحاقهم بالمدرسة الأولية، كما أهتم بتعليم البنات بتأسيس مدرسة أولية عام 1942م، وكان الشيخ عبد الباقي ينفق على المدارس من حر ماله يطعمهم ويسقيهم ويكسوهم ويسكنهم في منازله تلاميذ ومعلمين، كما اهتم بالمجال الصحي فأسس الشفخانة الصحية وكان له من ملامح حفيده المناضل أيضاً وقفات حق سجلها له التاريخ أمام مفتشي الإنجليز لرفضه ظلمهم الأهالي ورفضه أن يكون جاسوساً على أبناء المسلمين .كما كان للشيخ الحفيد عبد الله من ملامح جده المجاهد وقفات سجلها له التاريخ بأحرف من نور، فكان في مقدمة الطلاب الذين رفضوا الظلم والطغيان النوفمبري في 1964 حتى أصابته رصاصة في جبهته آنذاك. أما عن مواجهته مع الانقاذيين فما كان عهدهم في أوله وآخره إلا مجاهدة ونضالاً مستمرين من الشيخ الحفيد ضد كل ما رآه عسفا وجوراً بدءاً من قضايا المفصولين تعسفياً من الخدمة المدنية والعسكرية وانتهاء بقضايا مشروع الجزيرة مروراً بكل "نقطة" مظلمة في سياسات الانقاذ. ورغم اختلافه مع سياستهم فقد أهدى (الجد) حكومة الإنجليز الأراضي التي أقيمت فيها مدرسة حنتوب الثانوية ـ كلية التربية جامعة الجزيرة حالياً ـ أهداهم الأراضي بمزارعها وجنائنها لوجه الله. كما كانت أراضى شيخ عبد الباقي تمثل اللبنات الأولى لمشروع الجزيرة الزراعي فحينما فكر الإنجليز في إنشاء المشروع كانت طيبة محط أنظارهم ويعتبر مكتب طيبة الزراعي الذي أقيم على أراضى الشيخ عبد الباقي أول المكاتب الزراعية بمشروع الجزيرة. فتأمل كيف كان مشروع الجزيرة، الثدي الذي رضع منه السودان الحديث كامل كينونته، كيف كان في بدايته يقوم على سخاء الشيخ الجد وكيف كان في نهاياته يقوم بمجاهدات ومدافعات الشيخ الحفيد.؟ ورغم اختلافه مع سياستهم فإن (الحفيد) يتعامل مع حكومة الإنقاذ بإصداراتها المتتالية باعتبارها ولي أمر ولا يمانع من الأخذ والرد معها وشرطه الوحيد هو الجلوس إلى ولي الأمر فيها بلا حاضر ثالث !
(3)
(الشيخ صاحب موقف سياسي واضح، ولكن حتى وإن كان هناك ظل سياسي لما حدث، فإني أميل لإبعاده لأن تداعيات ذلك ستكون على درجة من الخطورة وستكون خارج السيطرة وليس من مصلحة الوطن في شيء) بهذه الكلمات لخص رئيس الحزب الوطني الاتحادي يوسف محمد زين الموقف الرسمي للحزب الذي ينتمي إليه ويرعاه الشيخ عبد الله ازرق طيبة من حادثة محاولة اغتيال الشيخ وهو بهذه الكلمات يلخص الموقف الرسمي للشيخ نفسه ولمريديه وأتباعه بطول وعرض السودان والعالم.
وربما كانت هذه الكلمات نفسها تحوي بلا جدال ملخص النهج الذي يتعاطى به الشيخ وأسلافه ومريدوه مع أحوال ساس يسوس ودهاليزها العجيبة: استبعاد وإلغاء كل ما هو شخصي وذاتي وخاص في سبيل سلامة الموقف الوطني العام وهذا هو بالضبط عكس ما يعمل به الآخرون أو (آخرون كثيرون) على الأقل وربما كان هذا هو النهج الذي عن طريقه استطاع (القوم) المساهمة في إحراز أكبر الأشياء التي نفعت ولا تزال تنفع السودانيين (مشروع الجزيرة على سبيل المثال لا الحصر) دون أن يبنوا في موازاة ذلك مجداً خاصاً نظرياً أو مادياً
ملامح تناسخ السيرة العجيبة تطل برأسها من جديد فقد تعرض الجد أيضاً – كما تقول سيرته العطرة – لطعنة من قبل أحد المعتوهين واسمه محمود، ولم يزد هذا المسكين إلا أن لوث سيرته هو في المنطقة فصار الناس زمناً يذمونه (محمود التليفة.. اتلومت انت طعنت الخليفة) وشاءت عناية الله أن تستمر حياة الشيخ الجد رحمه الله عشرين سنة بعد هذه الحادثة، ربما، لاستكمال ما كان لابد من استكماله من خدمة الحق والخلق والدين والوطن.
(4)
ليس سهلاً مطلقاً (رواية) ملحمة لم تكتمل فصولها بعد ولكن (أفلام) هؤلاء الرجال معادة مكرورة باختلاف طفيف في التفاصيل والاكسسوارات ولون الإضاء ة، ربما، ولا نملك إحاطة بتفاصيل إهانات وجهها بعض معاصري الشيخ الجد نتيجة لمواقفه التي لابد أن تكون ناصعة غير متلونة إلا بلون التقوى التي قال عنها الإمام الجنيد رحمه الله (هي أن تكون مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس) إلا أن مواقف الشيخ الحفيد جلبت له فيما جلبت شيئاً من أذى حيث كتب الطيب مصطفى فيما كتب في حق الشيخ الحفيد (لم نستغرب أن يزور باقان وعرمان أزرق طيبة الذي عُرف بانتمائه الشيوعي منذ أيام الدراسة الجامعية وبتبادله الرسائل مع زعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد مما كشفت عنه الصحف وأثبتته الوثائق ولم يدهشنا إلباس باقان أموم وشاح الطريقة العركية في طيبة الشيخ عبد الباقي واجتماعه الطويل مع ذلك (الشيخ) والإعلان عقب الاجتماع عن تطابق وجهة نظر (الشيخين) باقان وعبد الله أزرق طيبة لكننا دُهشنا بحق أن يتوشح باقان بوشاح الطريقة العركية بقبة الشيخ حمد النيل بأم درمان ويُطلق عليه الشيخ محمد الخليفة الشيخ الريح لقب الشيخ باقان)، ولكن قيض الله ، فيما قيض، قلم الراحل الأستاذ نجم الدين محمد نصر الدين ليقول كلمة حق في حق هذا الشيخ ويكتب في الزميلة "الصحافة" رداً على الطيب مصطفى ما نصه: (رغم معرفتي به من على البعد إلا أن مظهر(الشيخ أزرق طيبة) يدل على تواضعه وزهده، وهو شيخ الطريقة القادرية العركية بالسودان وهو يتفاعل مع القضايا العامة وله مواقفه ورؤاه في ما يدور في الساحة تحملها الصحف أحياناً وإننا نتفق معه أحياناً ونختلف مع رؤيته في أحيان أخرى، ولا أريد الخوض هنا في التفاصيل، ولكنه يجد منا كل الاحترام والتقدير والتوقير، وهو من أهل المقامات السامية وأنا جد شاكر ومقدّر لمتابعته لمساهماتي المتواضعة وشاكر لبعض مريديه لدعوتهم الكريمة لي لزيارته وإذا شاءت الظروف والتقينا بسماحة الشيخ فإننا نكتفي بالاستماع إليه والصمت في حضرته تأدباً له.
وقبل فترة شُنت حملة منظمة ضد الشيخ عبد الله أزرق طيبة بدعوى أنه كتب رسالة للأستاذ نقد، وبالطبع، فإن من حقه أن يكتب لمن يشاء دون استئذان من أحد ومن حقه أن يستقبل من يشاء ويزور من يشاء، ولكن بعد هذه الزوبعة المفتعلة استقبلت الإنقاذ مؤخراً الأستاذ نقد ومعه بعض أعضاء حزبه وأحسن السيد رئيس الجمهورية ورئيس حزب المؤتمر الوطني وبعض معاونيه استقبالهم وتبادلوا الأنس والقفشات وكوّنوا لجنة سداسية للتفاوض بين الطرفين واحتفت أجهزة الإعلام الرسمية التي تهيمن عليها الدولة بهذا اللقاء الإسلامي الإنقاذي الشيوعي.. ولماذا تكون مقابلة نقد وجماعته حلالاً على الحكومة وحراماً على غيرها... أليس في هذا كيلاً بمكيالين؟إن السيد باقان أموم هو الأمين العام للحركة الشعبية، وكنا نحمل عليه تطرّفه ومغالاته وهو الآن رجل دولة يحتل موقعاً يخص الشماليين والجنوبيين على حدٍّ سواء وقد سجّل قبل أسابيع قليلة زيارة للشيخ عبد الله أزرق طيبة ويمكن أن يسجّل زيارات لمدن وقرى شمالية أخرى ومثل هذه الزيارات تسهم في إزالة الاحتقانات والمرارات، وقد قابل بعض الإنقاذيين هذه الزيارة بالتنكيت والتبكيت، ونسي هؤلاء أن السلطة استقبلت بابا الفاتيكان استقبالاً خرافياً تحدّثت عنه كل الدنيا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وزار الرئيس بابا الفاتيكان في عقر داره في أول يوم في شهر رمضان المعظّم وأن كثيراً من المسؤولين يذهبون للكنائس في المناسبات وظل قادة النظام يحضرون إفطاراً يقيمه لهم الأقباط في ناديهم سنوياً، وفي تقديري أن في هذا تسامحاً دينياً ينبغي أن يحرص عليه الجميع، ولكن لماذا يتم الكيل بمكيالين؟!
إن الشيخ عبد الله أزرق طيبة لم يحمل سلاحاً ضد الدولة ولم يشترك في أي عمل تخريبي ولا يطمح في موقع سيادي أو تنفيذي أو تشريعي، ولكن له رؤاه وعلاقاته الواسعة الممتدة وبهذا فإن له رمزيته.. وفي تقدير الكثيرين أنه على قيادة النظام أن تسعى لمدّ الجسور معه باللين والحسنى واللطف، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ..!)
(5)
كان الشيخ عبد الباقي الجد، مثلما هو الشيخ عبد الله الحفيد اليوم، متواضعاً يجلس بكتابه مع طلبة العلم في المسجد ويقوم بخدمة ضيوفه بنفسه ويساعد في صنع الطعام بيديه، ولعل هذه هي الثغرة التي استغلها من حاول قتل الشيخ عبد الله إبان المعركة الانتخابية الأخيرة في الولوج إلى حيث يقف وجهاً لوجه أمامه بلا حرس ولا أمن ولا بروتوكولات، ولكن عناية المعبود المقصود بهذه البساطة أرادت أن لا يتم مراد الذين أرادوا غياب الشيخ عبد الله عن مسرح طلابه ومريديه وأعبائه الدينية والوطنية. وقد كان الشيخ عبد الباقي زاهداً كريماً سمحاً حتى لقب بأسماء كثيرة أشهرها أزرق طيبة ـ أبو طِرقه ـ أبوخلقاً رضيه ـ الغوث ـ الشايب ـ أبو الطلاب ـ أبو الضيوف ـ أبو الأيتام ـ ود الطريفى . أسرجت له المطايا من كل أصقاع وفيافي وعتامير وربوع السودان ومن خارجه ملأت شهرته الآفاق، قال عنه الشيخ العبيد ود بدر عند زيارته للشيخ حمد النيل بطيبة قال: (خيبة هذه الشيبة لو ما الأمانة رجعت طيبة ). وكان الشيخ المكاشفى يزوره كثيراً كذلك الشريف يوسف الهندي الذي كان يطلب عصيدة التكية وملاح الشيخ الذي يساعد في صنعه. كما كان السيد الزعيم إسماعيل الأزهري يأتيه كثيراً منذ أن كان معلماً بمدرسة حنتوب وقد قال عنه الشيخ عبد الباقي وقتها: ( هذا الرجل فيه خير كثير لأهل السودان ). كذلك السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي كانا يأتيانه بطيبة (مثلما كان يزور باقان وعرمان الشيخ الحفيد !) وحضرا وضع حجر أساس مسجده عام 1948م والذي يعتبر من أكبر المساجد في السودان .