كان راعياً للغنم ولم يلتحق بمدرسة حتى بلوغه سن الخمسين، وعمل خفيراً بجامعة ام درمان الإسلامية، ثم –يا للعجب– دخلها أستاذاً وعيناه تنظران بكل فخر وإعزاز الى كرسي الخفير الذي رفعه الى مقام الأستاذية. انها قصة نجاح باهرة ونادرة لهذا الشاعر المسن صاحب الذهن المتقد والطموح اللامحدود. وقبل أن نتعرض لهذه القصة المعجزة وهذا النجاح المدهش لهذا الشاعر الذي طرق أبواب المستحيل طرقاً عنيفاً وأحاله إلى واقع ملموس يلهم العبر و الدروس، نود أن نذكر أن لهذا الخفير قصة نجاح أخرى وفذة حققها قبل أن يحقق معجزته هذه. فقد كان وما زال هذا الرجل ملهماً وصاحب مواهب متعددة وملكة شعرية كبيرة، ولم يقف عمله الشاق حجر عثرة أمامه، ولم يكن ليشعر أبداً وهو العامل البسيط بين طلاب العلم بعقدة الدونية إنما أسلمه تصميمه لأحاسيس الندية والتفوق، فأخذ ينقب في خياله ويستوحي الصور فيحيلها إلى قصص رائعة سرعان ما تلقفتها الإذاعة السودانية لتجعل منها مسلسلات ذاع صيتها وجذبت المستمعين وبقيت في وجداننا لآمادِ طويلة ولم تزل ذكراها تجلجل في ذاكرتنا إلى الآن.. فمن منا لا يذكر مسلسلات (حظ أم زين) و(الهمباتة) و(عشا البايتات) و(غرام زينوبة) و(أنا أمك يا سند) و(البراق) و(عقدة الثأر) و(الخمجان (و(عودة الخمجان). هذه المسلسلات التسعة التي ألفها قِرَيِّبْ هذا العامل البسيط وبثتها الإذاعة صاحبتها أشعار صاغها هذا الخفير المجتهد، فمن منا لم يستمتع بها، ومن منا لم يهز رأسه إعجاباً بها، وقد اتخذ اللغة العامية والمفردة البدوية أداةً لهذا الإبداع الشعري والدوبيت إطاراً لتراكيبه وأساليبه الفنية مستفيداً من معاصرته لشعراء الدوبيت المتقدمين، حينما بلغ الدوبيت كمال نضجه الفني, واستزاد من فهمه لشؤون البادية وطبائع الأعراب فيها بفضل نبوغه واستيعابه العالي لتجارب الآخرين. ومن يقرأ أشعاره التي صاحبت بعض مسلسلاته ويتملاها ربما انتابه شعور بأن الرجل قد مارس أعمال الهمبتة..! فقد صاغ قريب تلك الأشعار بصور أفصحت لنا عن جوانب مهمة من حياة الهمباتة وأوضحت لنا الكثير من سلوكهم وقيمهم.. يقول على لسان الهمباتي المحترف
عوض الله احد أبطال مسلسله (حظ أم زين):
بَعدَ مَا قُمْتَ مِنْ بَيتُهمْ نَوَيتْ المَرْقه
عَليْ حَظْ الجَميلَة وتابْره مِي منحَرْقه
شُفتَ الخُصلة في اكتافا سَابله وزَرْقه
ضمِنت الرَجْعَة كَسْبَانْ كَانْ قَلِعْ كَانْ سَرْقه
وفي ذات المسلسل يقول على لسان عوض الله وهو يخاطب جمعه الذي يتدرب على أعمال الهمبتة على يديه:
دَيلَكْ نُوقْ هُمَّل يا ربْ نصِيبْ أم زَينْ
أَرَحْ يا جُمْعَه مَنِّعْ لي قُرَانِنْ زَينْ
نكاوشنْ عليْ الدَومَاتُو دَفَقَّنْ عَينْ
نكافِيبنْ طمَعْ طيبه ونَحِلّ الدَينْ
والناظر لهذه الأشعار لا بد انه واجد فيها روح الطيب ود ضحوية وطه الضرير وأساطين الهمباتة وشعرائهم الأوائل، وهذا الاستصحاب الروحي يؤكده مربعه الشهير الذي جاء أيضا في المسلسل المذكور على لسان عوض الله لما فيه من فتوة وفخر وحماسة.. يقول:
الهَمْبَاتَه نِحْنَا أَصْلَنَا مَعْرُوفينْ
بَلا حَقْ الرجال مَا عِنْدَنَا تعْيينْ
ما بنْدبّى ليٌهُو بِنْسُوقُو حُمْرَةْ عَينْ
بيْ مَوتْ بيْ حَيَاه لازِم نَرضي أمُ زَين
وشاعرنا قِرَيِّبْ الذي كان يرعى الأغنام في بوادي كردفان بدت على نفسه مع ثقافته الأولى محبة عميقة للبادية بكل عناصرها لذا نجح عندما عبر بأشعاره عن طريق ابطال مسلسلاته عن مشاعر الفراق والحب والأشواق ووصف الحبيبة عن طريق الثلاثية الخالدة في شعر الدوبيت وأقانيمها هي الشاعر والحبائب والمطايا، ساعده في ذلك إدراكاته العميقة و خبراته المتراكمة. وكان قريب أذكى من أن يحصر أهدافه الشعرية فيما سقناه، فعندما شرفني بإهدائه لي مشروع ديوانه مخطوطاً (الجذور الأصل) لم أجد باباً في الشعر إلا وطرقه، وقد قال قريب في مقدمة الديوان المذكور إن للشعر دوافع لخصها شعراً احد الشعراء يقول:
ثمانية تجري على المرء دائماً
وكل امرئِّ لا بُدَّ يلقى الثمانية
سرورٌ وأحزان واجتماعٌ وفرقةٌ
وعسرٌ ويسرٌ ثم سقم وعافية
وقد وجدناه قد عبر في مشروع ديوانه عن هذه الثمانية التي لقيها في حياته الممتدة –بإذن الله- تعبيراً ملؤه الجودة والقوة.
شهد العام 1920م مولد شاعرنا قِرَيِّبْ محمد راجع بقرية مجهولة من قرى ريفي مدينة بارا بإقليم كردفان التي ارتاد مكاتيبها كخلوة الشيخ عوض وحلقات العلم بمسجدها ثم خلوة الشيخ تاج الدين بقرية أم دايوقة بعد أن هتف له هاتف من أعماق نفسه يدعوه لمغادرة قريته (معافى). وعندما توفي والده وجد هذا الصبي الصغير نفسه أمام مسؤولية حقيقية وهي إعالة أسرته الفقيرة، وكانت هذه المسؤولية سبباً إضافياً لمغادرته قريته (معافى) بحثاً عن سبل كسب العيش، وقد وقعنا على مربع شعري لقِرَيِّبْ يفصح لنا عن حقيقتين أولاهما الفقر الذي كان يقبض بتلابيبه، وثانيتهما انه عمل شرطيا لفترة قصيرة تحت إمرة المدعو ود صديق. يقول:
الفَوَّتْني البَلَدْ يَا سِتْ العُرُوض مَا هَيِّنْ
لا عِنْدي حُمَارْ ولا عنْزَاً ضَرِعْهَا مَحَيِّنْ
الخَلانيِ تِحِت وَدْ صِديقْ العَوَضْ متْْعَيِّنْ
نبيتْ القَوَا ونَصْبحْ مِنْ جَبَانْ مِدَيِّنْ
انتقل قِرَيِّبْ ليعمل صبي تاجر في حانوت صغير وبأجرة لم تتعد الخمسة قروش بمدينة بارا، وقد اكسبه هذا العمل المزيد من المعرفة والخبرة بالكتابة والقراءة، إذ كان يحصر كتابه ما يرد إلى الحانوت وما يخرج منه من أصناف البضائع المختلفة، على انه لم ينس قريته (معافى) التي لم يكن وقع مغادرتها سهلاً على نفسه، فهي مرتع طفولته ومثوى أهله وأحبابه، وكان دائم الحنين إليها وكم بكت قوافيه وهو يذكرها، ولم تكن هجرته القسرية منها إلا لدوافع قوية فقد استشعر المسؤولية وانصاع لطموحاته التي امتلأت بها نفسه، غير انه كان يعلم أنه سليل أصل طيب وينحدر من أرومة كريمة مما يجعله محل احترام في قريته، إلا أن ذلك لم يغره بالبقاء فيها فقد كان يبحث بقوة عن مجد لا بد انه مصيبة فجعل أشعار الفخر بقومه تنويها في البقاء في قلوب أهله. يقول في قصيدته (الجذور الأصل) التي جاء عليها اسم مشروع ديوانه الشعري:
جذُورْنَا فَزَارَه وفَرعْنَاَ جُهَينَه
وحامِدْ جَدَّنَا مَا هُو دَهَمَبَّه ولا هُو وضَينَه
مِنْجامِل الرَفِيقْ ومَانَا طُلاَّبْ شَينَه
والفَايتَ الحِدُودْ أَصْبَعْنَا بِقْلَعْ عَينَه
ويقول في القصيدة ذاتها:
نْحنَا أَهل السَيَفْ والعِلِمْ ونحنْا أَهلْ الحِجَّه
أهلْ جلحة ام قرون وِنحنَا أهل أم قُجَّه
البحاولْ يكيدْنا ضَلّ ومَرَقْ بي الفجَّه
زيَ الشَاله مشهابْ وكوابُو الُلجَّه