(( اجلس على مقعدك المريح. وامدد بصرك ملياً. ستكتشف ما فعله هاشم، في حملته الرشيقة ضد الملل والاعتياد: حملة تحرير النص اليومي، من لوازم الظرفيات، ووضعه في مقام الخلود.
الأعمدة الصحفية سريعة التلف. تمضي عليها ساعات اليوم، فتخصم من حيويتها، وتسحب من مخزون دهشتها، وفي مرات أكثر، تصبح للرتابة أقرب!
ما فعله هاشم كرار- وما تستطيع أن تكتشفه، وأنت تقلب صفحات كتابه الجديد (طق..توقف الزمبرك) هو أن الرجل، قام بحقن أعمدته الصحفية اليومية، بمحلول سري، من زمن الفراعنة، بل ربما، قبل ذلك بكثير. حقنها بمحلول، جعل لهذه الكتابات الصحفية، التي تتفاعل مع اليومي والعابر والطريف، مقدرة الإمساك بشفرة الخلود، بالوصول إلى ماهو إنساني خالص، مقاوم للحظيات الزمان والمكان، ومضاد للأكسدة والتسطح!
المدهش في هاشم كرار، وهو يتعاطى منوعات الدنيا، وأخبارها، أنك تجده في كل (حدث عام) تتسابق عليه الأقلام، يدخل على قرائه بباب خاص به. يدخل باسم الوجه، وسيم الفكرة، سديد القول، ويجلس على مقعده هو، ولا يعنيه أين يضع أبوحنيفة رجليه، وبهدوء "النطاسين" وبراعة "الصاغة" يلتقط جوهر المعاني!
كثير من الكتاب، تتسع المسافة بينهم وما يكتبون، من حيث الطعم، والرائحة، والمذاق.
أعرف من الكتاب، من تجد في كتاباتهم روعة، ونضارة، وعبق لا تجده في شخوصهم.
وأعرف آخرون، على العكس من ذلك، تماماً.
ولكن كتابات هاشم كرار، ذات العطر العبق، تختلط فيها رائحة (التبغ بالقهوة التركش)، برائحة أزقة، وشوارع الحصاحيصا، تلك المدينة الحبيبة لود كرار، التي تجلس في مواجهة حميمة مع النيل الأزر ق، ويجلس هاشم- هنا- بين صفحاته، ينسج لأفكاره أزياء تعبيرية، يصعب أن تجد لها مثيلاً، أو مشابه!
بنفس القاص، ومن مغامرات الليل، وكدح النهار، استطاع هاشم كرار، أن يرسل للقراء، بالحبر السري، ملخصات تجاربه في الحياة، ومع الناس.
هاشم، لا يفعل ذلك عبر كتل نصية مباشرة، ولكنها سطوة العطر، .. تتسرب دون أن يكون بمقدورنا، الإمساك بماهيتها العينية!
بتلك التجارب والخبرات، يستطيع هاشم كرار، أن يجيب على سؤال قمئ، متى تخون الأنثى، ومتى يغدر الرجل.. يستطيع أن يقدم تفسيراً تحليلياً رفيعاً، لتعابير الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، من خلال تسجيل ملاحظات بقلم الرصاص، على صورة صحفية التقطت له، يجد هاشم في زمة شفتي "الرجل" الرقم السري للدخول إلى عوالمه النفسية!
من هذا الكتاب، نتعلم قيمة قول (آسف أو سوري). نتعلم أن الاعتذار ليس فعلاً مجانياً، نلقي به على طاولات المواقف، ثم نهرب سريعاً للبحث عن فرص، وغنائم أخرى!
الاعتذار أن تقول (آسف) ولكن بعد تسديد كل ما عليك، من فواتير. وقد يكون مقابل ذلك، أن تغادر موقع الخطأ، بكل ما فيه من امتيازات...!
ومن إرشيفه الشخصي، يستطيع هاشم كرار، أن يضع يده على المقومات التي تجعل شخصاً مثل "كارلوس" يلقي القبض على قلب محاميته الباريسية، ايزابيل كوتان بير، التي تسعى لإخراجه من السجن، وإذا بها تقع أسيرة حب رجل إرهابي، يجيد القتل والعشق معاً!
وعبر (مارغريت حسن ودكتور تروب) سيتعلم ناشئة الكتاب، وكبارهم كذلك، كيف تكون مساهمة الكاتب، في توعية مجتمعه، عبر انتباهات صغيرة، تنتهي إلى ماهو إنساني، وعام، وعابر للحدود، وراسخ في الوجدان.
هذا الدرس الأخير، هو سر روعة هذا الكتاب.. هذاالكتاب الشهي!)).
مع هاشم كرار..للقصة بقية!
ضياء الدين بلال