قراءة في المشهد السياسي
يا .. مُشرع الحلم الفسيـــــــــــح ...
بقلم: د. الشــــــــــــــــــــــــــــفيع خضر سعيد
(1)
تونس....في 17 ديسمبر من العام 2010. حتى بعد ذلك التاريخ، لم يكن أحد فى تونس أو في كل بلدان العالم الأخرى، يتوقع أن يكون ذلك التاريخ هو بداية نهاية بن علي الحاكم فى تونس. ولكن شرارة الثورة التونسية إندلعت في ذلك اليوم عندما أضرم الشاب الشهيد محمد البوعزيزى النار فى جسده إحتجاجا على عسف السلطات، وضحى بحياته، ليس فى مواجهة الظلم فقط، وإنما أشعل نار الغضب، التي تحولت لهيبا التهمت نيرانه الطغيان الحاكم فى تونس، ودفعت بالطاغية إلى الهروب تحت جنح الظلام، فارا من غضب الشعب بعد 23 عاما قضاها متحكما فى رقاب أهل تونس. ترى، ما الذي دفع شاب العشريات اليافع لذلك التصرف؟ هل كان مدركا وواعيا أنه بذلك يقدح الزناد في وقود الثورة المتراكم؟ ربما الإجابة هي لا..، ولكن المؤكد أن الشهيد البوعزيزي كتب بمداد شرايينه رسالة رافضة للحياة اللاإنسانية المفروضة عليه وعلى جيله وعلى سائر ابناء الشعب التونسي. ولعل النقطة التي يصمم عندها المرء على رفض الحياة المنافية للإنسانية والمفروضة عليه فرضا، هي نقطة إلتقاطه لمعنى التضحية والفداء، غض النظر عن درجة وعيه وعمق إدراكه لهذا المعنى. ولكن حالة الإدراك هذه عند الشهيد البوعزيزي، ربما تختلف عنها عند الصديق المناضل س.س الذي أرسل لي عبر الهاتف الجوال رسالة تقول: "أنا على إستعداد أن أقدم نفسي قربانا بحرقها في ميدان جاكسون لإشعال نار التغيير". وانا على يقين تام من أن المناضل س.س يعي تماما أن التضحية بتقديم النفس قربانا لا يعني بالضرورة، وأوتوماتيكيا، إندلاع الثورة، وأن الواقع في تونس يختلف عنه في السودان ومصر مثلا. لذلك كتب لي في رسالة لاحقة: "أنا أنظر إلى ثورة تونس كدرس للذين يشيعون اليأس ويشككون في الحركة الجماهيرية، ليعلموا أن التغيير قانون وليس مجرد رغبة ذاتية". لكن من حق الجميع أن يحلموا، ولسان حال حلمهم ينادي يا مشرع الحلم الفسيح،
علمنا دايماً كلما
نبذر على أرضك شهيد
يطلع شمس .. يبهر بأنوارو السما
ولعل القاسم المشترك الأعظم عند كليهما، البوعزيزي التونسي و س.س السوداني، بإدراك واع أو بدونه، هو التضحية لأجل التخلص من الحياة المفروضة، لأجل حياة إنسانية حقة. يقال، أن سبارتاكوس سئل ذات مرة إن كان يخاف الموت، فأجاب: "ليس كما خوفي من وقت ولادتي الذي لا يعطي وعد حياة إنسانية للعبيد، وإنما يعطي حياة العبيد للإنسان".
(2)
سجن "كوبر"... في 17 يناير من العام 1985. كان السجان طيبا، يسمح بحرية الحركة بين الأقسام المختلفة داخل السجن.. وكان الشيخ في قسم "زنازين الغربيات". قضيت معه كل صباح الخميس وبعضا من الظهيرة...إستقبلني بإبتسامة جميلة تنضح بالحياة....كان ممتلئا حيوية وثقة بالنفس، وكان جميلا بهيا وهو في جلبابه الأبيض. جلسنا فوق "البرش"، وقدم لي البلح والشاي. حدثني: عن الهوس الديني وتشويه الإسلام، عن سرقة قوت الفقراء بإسم الله، عن أن "النميري" مطية غبية لتجار الدين، عن صراعه المحتدم والمستمر مع جماعة الهوس، عن رفضه الثابت لقوانين سبتمبر (1983)، وأنه لن يتنازل أبدا حتى ولو كلفه ذلك حياته!.. وحدثني عن الثورة..!! قال لي بالحرف الواحد: "حال البلد هذه الأيام أشبه بحالها في الأيام الأخيرة قبل ثورة أكتوبر 1964....الشعب في حالة غليان وسينفجر ويطيح بالهوس...إني أرى الخضرة في كل شيئ....وأراها قريبا جدا". ثم أخرج من جيبه ورقة أعطاني إياها قائلا: " هذا منشور من جماعتكم، أصدروه صباح اليوم". كانت الورقة بيانا من الحزب الشيوعي السوداني بعنوان "أرفعوا أيديكم عن محمود محمد طه"
وواصلت الإستمتاع بالإستماع إليه والحديث معه. تحدثنا في كل شيئ..، إلا الموت وحكم الإعدام. وفجأة جاءني السجان الطيب مسرعا ومشفقا يطلب مني سرعة الرجوع إلى (عنبري) في قسم "المديرية" (أحد اقسام السجن). ودعت الشيخ ووعدته بالحضور إليه صباح الجمعة .... وأنا لا أدري...
في الطريق إلى العنبر كان السجان الطيب مهموما.. سألته فقال لي: "السجن مليان جيش..ويظهر في حاجة بطالة حتحصل...". دخلت إلى العنبر لأجد زملائي المعتقلين متجمعين حول التلفاز يستمعون إلى فحيح السفاح "نميري" وهو يؤيد حكم الإعدام.. وجم السجن، وإزدادت جدرانه وجوما. كان الصمت مطبقا إلا من نبضات الحزن والغضب المكبوت....
أتجه أبوبكر الأمين، زميلي في المعتقل، إلى الجدار الفاصل بين قسمنا وساحة الإعدام...اسمها " ساحة العدالة الناجزة"!! وبدأ أبوبكر يحفر في الحائط .... قضى الليل كله، ونحن معه، يحفر ونحفر، بكل ما هو متاح: بقية من "علبة صلصة"، قطعة زجاج، مشبك حزام بنطال...ونصل مخبًأ.!! حتى زحزحنا الحجر الضخم / الصخرة الصغيرة...وأصبحنا نرى قبح المشنقة بكل وضوح..
أطل الصباح الشتوي الحزين...الجمعة 18 يناير 1985. رفضنا إستلام الغذاءات وأعلنا إضرابا عن الطعام في كل أقسام السجن. بدأت جموع المرجفين ترد إلى ساحة الإعدام وهم يهتفون ويتصايحون.... كانوا في حالة لا توصف من الهيستريا والهوس المجنون... وكان بعضهم يرقص...!!! ونحن ننظر من خلال تلك الكوة السرية، مجموعة تلو الأخرى في تنظيم وترتيب دقيق، صامت ومتوتر.
ثم جاءوا بالشيخ مكبلا ومغطى الرأس حتى العنق....كان يمشي بثبات وبطولة... لم، وأعتقد لن، أرى خطوة ثابتة وقوية مثل تلك الخطوات التي كانت تتجه، مدركة، إلى السكون الأبدي... كانت الخطوات تكتب على أرض ساحة الإعدام: نعم، أشهد أني أنقله من الشيخ القوي إلى الشيخ الشهيد...لكنه الشيخ الثابت على المبدأ... الشيخ المنتصر... الشيخ الملهم......
تعالت صيحات الهيستريا والهوس المجنون...وتضاعفت...كانوا كثر...أتوا ليروا هزيمتهم...ولكن هل يروا؟ كان الجلاد حزينا وهو يلف حبل المشنقة حول عنق الشهيد....بعد تلك اللحظة تخلى عن "مهنته" إلى الأبد!. وفجأة أمر القاضي بكشف الغطاء عن وجه الشهيد قائلا بتلذذ عجيب: " ليرى الزنديق كيف ينبذه الناس"... وكشف عن وجه الشهيد....يا للروعة ويا للعظمة...كان مبتسما وهادئا وساخرا... ما أجمل ذلك..شجاعة وصمود وبسالة وإيمان...وإزدراء للموت...لم، وأعتقد لن، أرى مثل ذلك قط..! ومع كشف وجه الشيخ أخرست كل عواءات الهوس...وأطبق صمت رهيب..رهيب إلا من أصوات إرتجافاتهم...والشيخ ينظر إليهم في إبتسامة خالدة...إبتسامة تجهيل ورثاء..! ما أقوى أن ترد الحقد بالرثاء حتى وهو يقتلك!!
ونحن، كنا ننظر في صمت وخشوع ورهبة....لحظة لا تملك أي قدرة على وصفها....فهي غشتنا لمرة واحدة فقط...لكنها فعلت الكثير في دواخلنا وأنسجة مشاعرنا وعقولنا....فعلت ما لم تستطع فعله سنوات الدراسة والتجربة والعمل....تغذينا بلحظة الموت تلك ما لم تستطع أن تغذينا به لحظات الحياة.....!!
وفي لحظة السكون تلك..قررنا نحن أن يسمعنا الشيخ قبل استشهاده....فهتفت كل أقسام السجن في لحظة واحدة وبنغم واحد، رددته معنا السماء والجدران: شهيد...شهيد يا محمود، فاشي...فاشي يا كباشي، سفاح
سفاح...سفاح يا نميري، مجرم نازي يا....، وسمع الشيخ الهتاف، وإزدان وجهه بإبتسامة أجمل..! وسرى الرعب في كل المهووسين وإزداد بؤسهم صمتا...وسمعنا حشرجة القاضي يأمر الجلاد بالتنفيذ....سريعا غطى الوجه المبتسم....وتدلى جسد الشيخ النحيل....لا صوت إلا هتاف المعتقلين.. يشق عنان السماء مصاحبا لروح الشيخ الشهيد.....
يا صنوج الإعلان.......يا طبول الشهادة
دقي...رددي.........دقي
للشيخ الذي كان يدري
أن يضحك.....ولا يبكي
للحياة.....الباطن والظاهر
صمت الجميع....إلا صوت الشارع في المدن الحبلى بالثورة. وتحدث الصمود، تفجر المخزون المكبوت،
وإلتقت روح الشيخ الشهيد بروح حفيدته "مشاعر"، وكانت إنتفاضة الشعب في مارس / أبريل 1985.
(3)
الدوحة....في 17 يناير 1996، رحل صوت المغني حزينا. كان رحيل مصطفى سيد أحمد تراجيديا خاصة، أتقنت إحكامها حشود الشباب التي هبت لإستقباله دون التردد لحظة، رغم يقينها بأن القمع والتنكيل ملاقيها لا محالة. وأغانيه التي إخترقت الحصار لتوزع نشيد الحرية والثورة، تماما كالمنشورات السرية. وحمى النشاط الغريب التي انتابته لحظة أدرك إنه قريبا سيرحل في الليل وحيدا..! صار قوته الكلمات التي تحكي أوضاع البؤساء والمحرومين والمهمشين وأوجاع المثقفين، يصدح بها مساهما في تعبيد طريق الخلاص. سألته صديقة: "ألا يقارقك هذا الحزن لحظة؟". فجاء رده: "ما بشبع روحنا فرح زائف..، لو كان نتناسى وتتاسي". وهكذا، رغم المرض وتحذيرات الأطباء، ظل مصطفى يغني كأنما إختار أن يقدم روحه قربانا للحظة التي ينهار فيها جدار الخوف وتهب الجماهير في الشوارع..، كان معه الثائر كما الأزرق الدفَاق، أزهري محمد علي، يغردان:
يا مشرع الحلم الفسيح
يومنا النـّهِـبْ .. أسلِبنا خوفنا
كبـِّرنا قدرك .. مرتين
وطـِّول قدر كتفك .. كتوفنا
يا غضبة الرعد البيسكن .. فى غناوينا وحروفنا
ضوِّى الدساكر والضفاف
عبِّى الحناجر بالهتاف
سدِّد مسامات الرِّعاف
نوِّر مغاراتنا وكهوفنا
********
مادام هناك دائما أشخاص مستعدون للموت والتضحية بذاتهم في سبيل قضية أوفكرة، وكتعبير عن الغضب والرفض لما يعيشونه من أوضاع مزرية، فلن تستطيع أي قوة عرقلتهم أو سد الطريق أمام انتصار تلك القضية أو نشر ذلك الفكر، مهما إستطال الزمن. وما برزت وترسخت القيم والأفكار الإنسانية العظيمة، إلا بفضل وجود أناس أوصلوا الفكر إلى حالة قضية تدفع المرء إلى الاستشهاد بروح فدائية من أجلها. ولولا تضحية أولئك الذين جادوا بأنفسهم من أجل الحرية والديمقراطية وسائر القيم الجميلة في الحياة، ومن أجل حياة أفضل لمستقبل قادم لم يشترطوا أن يعيشوه، لما وصلت الإنسانية إلى الوضع الحالي، ولما اتصرت ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل في السودان.
ورغم أن أكثر ما نعرفه عن أقدارنا ومصائرنا هو الموت، لكن ذلك لم يجعله أبدا حدثا عاديا. فهو الموجع الدائم، وحياتنا كلها نعمل على تفاديه. أما جريمة القتل فهي من أبشع الجرائم، ولكن أبشع جرائم القتل على الإطلاق هي تلك التي بسبب الفكر أو الرأي أو الخصومة السياسية، ويستوي في ذلك قتل المحتجين بسبب المطالب الحياتية، مثل المتظاهرين ضد الغلاء. فإذا كانت روح الشهيد، لا تعبأ بأن تنجح الثورة بعد عام أو شهر أو ساعة، لأنها تحررت من حساب الثواني، فالباقون على الأرض معنيون تماما بالحد من الطغيان، والحفاظ على سلامة الأرواح، والعيش الكريم، وكل ما يحقق أحلام الشهداء.
نحن في السودان، ظللنا نعيش متلازمة الموت السياسي منذ فجر الإستقلال، سواء في المركز أو الأطراف. ومستقبل الوطن يصرخ: لقد آن اوان هزيمة الموت وبسط السلام والحرية، ولا سبيل لذلك إلا بهزيمة الطغيان، وبوضع مطالب الشعب في موضح الحقائق المجسدة الملموسة.
وهكذا.... دائما بين الناس، هنالك من يختار "النار الضلها بيحرق".
سودانايل ملحوظة: الصور مضافة من قبلي ومأخوذة من مواقع متفرقة