قصة قصيرة
تعشير البقرة
تأليف:رضا الهجرسى
أذا أردت أن..
تفتح طريقا فى الصخر..
برأسك..
ستفتح الطريق...ولكن..
فى رأسك..
............
فرض السؤال نفسه على رأس إسلام فى الحاح عجيب وهو غارق فى حيرته وأفكاره المتلاطمة..
هل الإنسان قادر على تغيير ما ترسب فى أعماق عقله الباطن من معتقدات
وتقاليد من طفولته؟!وقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصيته و كيانه ؟!!!
أم هو كمن يريد أن يفتح طريقا فى الصخر برأسه؟..
ألح هذا السؤال على إسلام وهو يتفرس فى وجه زوجته الحبيبة الرقيقة ندى وهى غارقة فى سبات عميق أثر تعرضها لصدمة عصبية شديدة ..
ارتمى على أقرب كرسى وعاد برأسه للخلف مغمضا عينيه مادا يده الى صدره
وأخرج حجابا ملفوفا حول رقبته هذا الحجاب الذى لم يفارقه منذ طفولته المبكرة ..وقبض عليه بكفه بشده طالبا منه الإحساس بالأمان الذى طالما وهبه له كلما مر بأزمة أو كارثه خلال مشوار حياته..حتى بعد أن أصبح الدكتور إسلام المرشح لأعلى المناصب القيادية داخل الجامعة لم يفارقه هذا الشعور بالأمان طالما هذا الحجاب ملفوفا حول رقبته ..
تزاحمت ذكريات طفولته فى رأسه كأمواج متلاطمة متداخلة ثم أخذت تنتظم فى ترتيب زمني متتالي واضح الصورة والملامح .كشريط سينمائي له بداية ووسط ونهاية.وكأن عقله وضميره يبحثون عن مواقف الضعف التى تسلل من خلالها غول الجهل والتخلف الى حياته وابتلع زوجته ورفيقة عمره أمام عينيه دون أن يحرك ساكنا لإنقاذها قبل حدوث الطامة الكبرى.ووقوعها فريسة سهلة لهذا الغول القبيح و كان كمن يسرد لها قصته من البداية فقد تجد له عذرا وتغفر له غفلته..
ولد إسلام فى إحدى قرى الريف الأصيل بمحافظة الشرقية لأب يعد من أثرياء
القرية ووجهائها وصاحب كلمة مسموعة فيها.أنعم الله عليه بزينة الحياة الدنيا من مال وولد.له من الأولاد خمس ومن البنات ست.وزوجة ذات شخصية مسيطرة تقبض على بيتها بيدا من حديد.وكان إسلام أخر العنقود والسكر المعقود كما كانت تردد دائما على مسامعه.كانت هذه العبارة تسعده كثيرا. تسللت أمه الى كيانه ودمه منذ طفولته المبكرة..عشقها بجنون.وأستمد من سلطتها وسطوتها. قوته وسطوته على جميع أشقائه.فلا يجرؤ أحدا منهم على ضربه أو لومه وإذا تجرأ أحدا منهم وفعلها فلا يجد مهربا من عود الحطب الذى يتكسر على رأسه وجسده لأنه تجرأ وأغضب آخر العنقود وسكرها المعقود.
أرتبط إسلام مع أمه فى علاقة حميمة لا ينافسه فيها ألا هذة البقرة .. مسعدة... التى تشاركه أهتمام وحب أمه. كانت الغيرة تنهش قلبه عندما يرى أهتمامها بها وتدليلها بكلمات الحب فتناديها تارة..بوجة السعد..وتارة أخرى..بوجة الخير..وكانت البقرة مسعدة لا تأكل الا من يديها.
بدأت كراهيته لمسعدة.. ووسوس له شيطانه الصغير بالتخلص من مسعدة حتى يخلص له قلب أمه....
فقرر أن يضع فى طعامها المبيد الحشري..
ورسم خطته بأن يتسلل ليلا الى حظيرة البهائم وينفذ خطته ..
لكن القدر كان رحيما بالبقرة مسعدة..فعندما اقترب منها برز له فجأة وحشا أسود اللون ضخم الجثة ذو قرنين كبيرين يزمجر فى هياج شديد..
فأرتد إسلام الى الوراء بسرعة مذهلة مذعورا مرعوبا يصرخ صراخا عاليا متواصلا ولم يهدأ الا وهو فى أحضان أمه ..
وعلم منها ان هذا الوحش ما هو الا ثورا .أحضرته أمه ليعشر مسعده بالإيجار.
لم يستوعب فىحينها كلام أمه.وكيف يعشر هذا الوحش مسعده؟!!!
وما الفائدة المرجوة من أن تعشرمسعدة أولاتعشر.لم يعلم الإجابة على تساؤلاته المحيرة الاعندما ولدت مسعدة عجلا..عندها أحب اسلام مسعدة ووليدها وأخذ يشارك فى العناية بهم ويقدم لهم الطعام بيديه ويجرهم خلفه الى الترعة ليسقيهم ويقوم بتنظيف أجسادهم بالماء
ويمر عامان على هذا المنوال ويزداد وعيه وفهمه للحياة المحيطة به.ويبرز نبوغه و تفوقه مبكرا على أقرانه عند دخوله كتاب القرية وحفظه للقرآن الكريم وتفهمه لمعانيه وبدأ الصلاة مبكرا.و فى هذه الأثناء تزوجت جميع أخواته البنات الواحده تلو الاخرى.. وأنهى أخوته دراستهم المتوسطة فالأب لا يسمح لأولاده بإكمال تعليمهم حتى لا يتركوه ويفقد زينة الحياة الدنيا .كان مبدأه أن من يكمل دراسته المتوسطة من أولاده يتزوج فورا ومبكرا وينجب له أحفادا يزيدون من زينة الحياة الدنيا من حوله وتسير أيامه على هذا المنوال الى أن علم أن أمه قد أرسلت فى طلب الثور لاعادة تعشير مسعدة.كانت مساهمته هذه المرة كبيرة فى رعاية مسعدة والثور فى أكلهم وشربهم منتظرا خبر تعشيرها .
ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن...
ووقعت الكارثة لم تقبل مسعدة التعشير.. وغادر الثور دون إتمام مهمته وكانت المرة الأولى التى يرى فيها إسلام وجه أمه صارما..غاضبا..عصبية المزاج وكان يشاركها صمتها بالجلوس بجوارها حزينا.. وفجأة قفزت أمه واقفة فى غضب شديد وتناولت أقرب حزمة من أعواد الحطب . وأتجهت ناحيةالحظيرة وتبعها إسلام فى فضول صبياني.ولأول مرة يشعر بالخوف الشديد ينسل الى روحه وكيانه من أمه عندما رآها تضرب مسعدة بأعواد الحطب فى قسوة ووحشية.. والبقرة تتحرك يمينا ويسارا لتتفادى ضربات الأم الموجعة..... تجمد فى مكانة كتمثال جرانيتى والدموع تنهال من عينيه وهو يرى القسوة و الوحشية المرتسمة على وجه أمه والسباب و الشتائم بأفظع الألفاظ و الدموع تتساقط من عينيها كشلال غزير.وهى تصرخ بالبقرة و تهددها بالموت لأنها أصبحت عجوزا شمطاء لا تستحق الحياة.فلم تعد هناك فائدة ترجى من حياتها
غادرت الأم الزريبة فى خطوات مسرعة وتبعها إسلام كالمسحور.. صرخت بأعلى صوتها منادية أبنها البكرو لبى الابن نداءها على الفور طلبت منه فى لهجة لا تقبل الجدل أو المراجعة أن يذهب فورا ويحضر جزار القرية ليذبح مسعدة وقف الأبن مذهولا لا يتحرك..حركته لطمة شديدة على وجهه جعلته يغادر البيت مسرعا لتنفيذ أوامر أمه..
منذ هذا اليوم ترسبت شخصية أمه الى اللاوعي و اختلطت المشاعر بداخله بين حب أوديبى وخوف ورهبة من جبروتها وقسوتها.
ومرت السنوات الأولى من طفولته بإنهاء دراسته الابتدائية وحصوله على المركز الأول بالمحافظة.كانت سعادته كبيرة عندما رأى أبيه يصافح المحافظ ويتسلم جائزته فخورا بأبنه وعلى الرغم من سعادته كانت بداخله لهفة وشوق فى لقاء أمه ليرى علامات الرضا عنه مرتسمة على وجهها والأستمتاع بحضنها الدافئ الحنون ولم تخيب الأم رجاءه استقبلته استقبال الفاتحين .. الأبطال بالزغاريد والطبل والزمر وأخوته وأخواته ينثرون الحلوى على الأطفال والمهنئين.
خطفته أمه فى أحضانها ولفت ذراعيها من حوله .وأسرعت بكنزها الثمين الى غرفتها وأغلقتها بإحكام ..وبدأت طقوسها الخاصة .
أشعلت البخور حتى امتلأت الغرفة برائحته الذكية النفاذة وأخذت تلف المبخرة حول رأسه وهى تردد الآيات القرآنية لدرأ العين الحسود التى رأته ولم تصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخذت تنثر من حوله مياه طاهرة وهى تردد أدعية تبطل بها أى أعمال شريرة .
ثم كان اللقاء الأول بينه وبين الحجاب عندما لفته أمه حول رقبته وأوصته ألا يخلعه فى نومه أوصحوه ففيه نجاته من أى شر وان هذا الحجاب به آيات قرآنية معزم عليها تعزيمات سحرية لتحفظه من شياطين الجان وعفاريت الأرض السفلية...وتحفظه من عيون الحاسدين التى فلقت الحجر وهذه أوامر وتعليمات صانع الحجاب.. الشيخ عزام خادم مقام الشيخ أبو حطب والوسيط بين نساء القرية والشيخ أبو حطب لتنفيذ طلباتهم وحل مشاكلهم . فهذه عاقر ترجو الولد.. وتلك عانس تحلم بالزواج.. وأخرى تريد صنع حجاب للمحبة لزوجها وكان الشيخ عزام يطمئن الجميع بتحقيق طلباتهم .
عشق إسلام هذه الطقوس.التى يشعر معها أنه محور حياة أمه ومن يومها أصبح هو والحجاب كيانا واحدا .
وتمر الأعوام عاما وراء عام..
يتكرر التفوق والنجاح..وتتكرر الطقوس..
حتى حدثت المواجهة التى كان يخشاها إسلام..فعلى الرغم من تفوقه وحصوله كعادته على المركز الأول للمحافظة بشهادة الثانوية.قرر أباه إيقاف تعليمه مساواة باخوته..
استسلم إسلام لطقوس أمه فاقدا لحماسه المعتاد بعد أن ألقى به أبيه الظالم فى أحضان الاكتئاب والحزن والإحباط.. وكأنها جهاز أستقبال راداري استقبلت أمه كامل مشاعره وأحاسيسه من نظرتها الأولى فى وجهه أوقفت طقوسها أحتضنته فى حنان بالغ مع أبتسامة مطمئنة.. رد عليها بأبتسامة باهتة مجاملة لها.تركته متجهه الى غرفة أبيه..وكانت المرة الأولى والأخيرة اللذى سمع فيها صوت أمه يعلوأمام أبيه.. أجتمعت كل حواس إسلام فى أذنيه الفضوليتين المتلهفتين لمعرفة القرار الأخير لهذا الصراع الرهيب الدائر خلف باب غرفة أبيه أغمض عينيه فى أرتياح شديد عندما سمع زغرودة أمه المجلجلة تعلن بها موافقة أبيه.
وكعاشقين يريدان أن يهربا الى مخبأهماالسرىمن عين المتلصصين والحاسدين أغلقا عليهما غرفتهما وبدءا طقوسهما.
دخل إسلام عالمه الجديد مصطحبا معه حجابه الملفوف حول رقبته وقد ترك علامة واضحة على جلد صدره.
كان يوم دخوله من بوابة الجامعة متجها الى مبنى كلية العلوم يوما من أسعد أيام عمره لم يستغرق وقتا طويلا ليلفت أنظار الجميع الى تفوقه ونبوغه.. وخاصة الدكتور حاتم فقد توسم فى إسلام نبوغ وأستيعاب للعلوم الحديثة .
أجتاز إسلام سنوات دراسته الجامعية بتفوق وكان الأول دائما بمساعدة أستاذه الدكتور حاتم ورعاية أمه التى شملته فى مسكنه وأكله ومعيشته الاجتماعية لم يعكر صفو هذه الفترة الزمنية الا وفاة والدة قبل حصوله على درجة البكالوريوس بتفوق ومع مرتبة الشرف الأولى وتعيينه معيدا بالجامعة وقد أشرف الدكتور حاتم على رسالة الماجستير الخاصة به وسمح له بالاطلاع على مراجعه العلمية الخاصة الموجودة فى مكتبة منزله...
وجاء اللقاء الذى فقد فيه عذرية مشاعره ..
دخلت عليه ندى فجأة وبدون مقدمات وكان مستغرقا فى مراجعة أحد المراجع العلمية منفصلا عن العالم الخارجي بكامل كيانه..
أخذ كلا منهما يحدق فى الآخر فى فضول وأرتباك لم ينقذهما ألا ظهور الدكتور حاتم وتقديم كلا منهما للآخر.
وعلم إسلام أن ندى هى وحيدة الدكتور حاتم والتى وهبها حياته وهى فى السنة النهائية بكلية الخدمة الاجتماعية.
هائما...سارحا...متيما...يحدق فى مراجعه دون أن يستوعب أويعى أى شيء.يختلق الأعذار لزيارة الدكتور حاتم فى منزله.. يسير فى الشوارع كالمسحور لا يدرى أين هو؟ أو الى أين يتجه؟؟.
كان يستنجد بحجابه ويقبض عليه بكفه بقوة ليهدئ من ضربات قلبه المتلاحقة
لكن لا فائده..
وكالمسحور أتجه الى محطة القطار وأستقل القطار الى قريته بحث عن أمه كالمجنون وأرتمى فى أحضانها منهارا باكيا أخذت أمه تربت عليه فى حنان حتى أستغرق فى نوم عميق تركته نائما وأسرعت الى الشيخ عزام لتعرف ما حدث لولدها وكنزها الثمين.. طلبت منه أن يسأل الشيخ أبو حطب عما حدث لأسلام.طمئنها الشيخ أبو عزام وأن ما حدث لولدها ما هو الا بعض عكوسات وان هناك عين رصدته وحسدته وأنه فى أحتياج الى حجاب جديد وطلب منها أن تذبح الذبائح للشيخ أبو حطب وتوزعها على الفقراء حتى يرضى عنها ويطرد الأرواح المعاكسة والشريرة ويحفظ لها ولدها وكنزها من كل شر.
على الفور نفذت الأم كل ما أمر به الشيخ عزام خادم المقام وأستيقظ العاشق الولهان من نومه العميق على رائحة البخور الذكية وأمه تلف بالمبخره حول سريره وتطلب من الأرواح الشريرة والعين الحسودة أن تبعد عن ولدها ..
ومدت يدها الى صدره لتخلع الحجاب ولكنه قبض عليه فى ذعر ولكنها طمأنته أنها أحضرت حجابا جديدا أقوى وأشد من هذا الحجاب فأستسلم لها وهى تبدل له الحجاب.. وشعر بارتياح شديد بعد أن لفت الحجاب الجديد حول رقبته.
وأجلسها بجانبه فى عطف وحب وحنان وبدأ فى سرد قصته مع ندى وشعوره المتدفق تجاهها.
أنتابت الأم مشاعر متضاربة أثناء سرده لقصة غرامه الملتهبة لندى أحست بالغيرة تجاه هذه الدخيلة التى تشاركها فى قلب ولدها وكنزها الثمين ثم تعود الفرحة تغمر قلبها بفرخها الصغير فقد كبر و أصبح ديكا.. وبقبلة حنونة على خده تعلن مباركتها لهذا الزواج.
أكتملت سعادة إسلام عندما وافقت ندى والدكتور حاتم على إتمام مراسم الزواج بعد حصوله على درجة الماجستير وانتهاء ندى من إتمام دراستها.
وكانت المواجهة الأولى بين إسلام وأمه والتي لم يحسب لها إسلام حسابا كانت عندما بدأ الدكتور حاتم فى إجراء ترتيبات الزواج وحجز قاعة أفراح فى أرقى فنادق القاهرة .وسافر إسلام الى قريته ليرتب مع أمه وأخوته مواعيد سفرهم للقاهرة.وقتلت أمه فرحته فى مهدها عندما ألقت بقنبلتها فى ساحته فى قسوة ووحشية عندما أصرت على أن يتم زفافه فى القرية ووسط أهله وعشيرته ليتأكد الجميع من شرف زوجته عندما يخرج المنديل الأبيض الملطخ بدم شرف زوجته ويرفع رأسه أمام أهله وعشيرته.
أرتجت الأرض تحت أقدام إسلام ومناديل شرف أخواته البنات وزوجات أخوته تمر أمام عينيه.
جثم الحزن والهم على صدر إسلام وكاد الفكر أن يقتله الى أن أزاح الدكتور حاتم الغمة من على صدر إسلام عند علمه بطلب أمه وموافقته على الفور فهو أيضا من أصل ريفى ويطلب هو الآخر منديل ابنته الأبيض الملطخ بدم شرفها
ومرت المواجهة الأولى على خير.
ومر عامان على زواجهما فى سعادة غامرة وقد حصل فى خلالهما على درجة الدكتوراه فكان لا ينغص حياتهما الا محاولات ندى المستمرة فى تخليصه من هذا الحجاب الملتصق بجلده والملتف حول رقبته وذهبت كل محاولاتها سدي.. وكانوا يترددون على القرية على فترات شبه منتظمة فى الأعياد و المناسبات.
ولكن فى إحدى هذه الزيارات.. حدثت المواجهة الثانية بينه وبين أمه عندما فاجأته ندى بسؤالها عن البقرة مسعدة أخترق السؤال أذنه وتسلل منها الى اللاوعي عائدا الى طفولته المبكرة وصورة مسعدة وهى تذبح أمام عينيه عندما أصبحت عاقرا فسألها فزعا.. وما أدرا كي انت بالبقرة مسعدة؟!
فأخبرته ندى بأن أمه تلح عليها منذ فترة كبيرة لتقوم بزيارة مقام الشيخ أبو حطب ليراها الشيخ عزام ويعرف سبب تأخر إنجابها حتى الآن ويزيل أى عكوسات أو أعمال سحرية قد عملت لها.. وظهرت علامات الغضب الشديد على وجه إسلام وصمم على عدم ذهابها ولكن عند سماعه لصوت أمه تنادى على زوجته طلب من ندى أن تساير أمه.. وتعتبرها زيارة لأحد أولياء الله الصالحين وتقرأ له الفاتحة وأصرت ندى على أن يأتى معها لإنهاء هذا الموقف السخيف. وأتجهت القافلة الى مقام الشيخ أبو حطب الواقع على الطرف الآخر من القرية وهو مقام اسطوانى الشكل مبنى من الطوب اللبني له باب فى اتجاه الطريق الزراعي وشباكان على جانبية .. ووصل الركب وكان فى استقباله الشيخ عزام والغول يلف من حولهم وهو يرقص فرحا بمريديه وأتباعه.وسحب الشيخ عزام ندى من يدها فى قوة متجاهلا الجميع وفتح لها باب المقام ولقنها ما ستطلبه من الشيخ أبو حطب وأن تتوسل اليه ليهب لها الولد وتفعل كل هذا وهى تلف حول قبره ذات الكسوة الخضراء.ثم دفعها الى داخل المقام فى قسوة وأغلق الباب خلفها أنفطر قلب إسلام عندما رأى وجه ندى شاحبا فى أصفرار وجسدها النحيل يرتجف تلقاها فى أحضانه محاولا تهدئتها .. وأتجه الشيخ عزام الى الأم ثم أخذ يهمس فى أذنها ثم ناولها كيس من القماش. تحرك موكب التعشير عائدا بفريسته.. لم تدعها الأم تلتقط أنفاسها. أقتحمت عليهما الغرفة ومعها ابنتها الكبرى وطلبت من إسلام مغادرة الغرفة . وأغلقت الأم الباب خلفه وأنفردت بفريستها هى وابنتها الكبرى جلست الأم القرفصاء فوق سرير ندى وجلس بجانبها الغول يراقب فى فرحة غامرة ما سيحدث لفريسته المستسلمة ناولت الأم الكيس القماشى الذى أعطاها لها الشيخ عزام الى الأخت الكبرى التى فردته على الأرض و أخذت ترص ما بداخله فى اهتمام بالغ.وسألتها ندى عندما رأت ما بداخل الكيس وهو عبارة عن مقص ومشط وماكينة حلاقة وموسى كبيرة
.وأجابتها الأم .بأن ما تراه هو أدوات حلاق القرية وطلبت من ندى أن تمر فوقها سبع مرات قامت الأم بالعد بصوت عالى حتى أكتملت السبع.ثم أجلست ندى بجانبها فى حنان بالغ وشرحت لها فى أستاذية أن أوامر الشيخ عزام أن يتم الجماع الليلة مع إسلام وقبل آذان الفجر وكررت طلبها هذا لأسلام وأصرت أن يتم الجماع الليلة حتى يتم المراد ويرزقه الله بالولد الصالح ولكن عندما رأى إسلام وجه ندى الشاحب وجسدها المرتجف فى خوف تعلل لأمه بأن الجامعة تطلبه فورا.وأصطحب زوجته المنهارة وغادر القرية فورا وقد قرر فى تصميم قاطع ألا يعرض زوجته الرقيقة لمثل هذه المواقف البشعة مرة أخرى والتي لا تتفق مع دين أو علم.
لم يكن يعلم أن الغول يرتب له الكارثة الكبرى.
ومرت عدة شهور واسلام يختلق الأعذار و الحجج لعدم إحضار ندى معه الى القرية لزيارة أمه.
ولكنه فوجئ بطلب ندىبالسفرالى القرية لقضاء أجازه العيد مع أمه.ولم يكتشف وقتها ما تمر به ندى من ضعف أنثوي كإحساس أيا من بنات حواء على وجه البسيطة بعدم أكتمال أنوثتها الا بالإنجاب ومع إحساس ندى المتصاعد باليأس من علاج الأطباء دون نتيجة ملموسة أتجهت بجميع آمالها وحلمها بالإنجاب الى الأم والشيخ عزام خادم المقام.وأمام إصرارها وافق إسلام على قضاء إجازة العيد وأصطحابها معه الى القرية وهو فى حالة من الذهول والدهشة لهذا الإصرار العجيب من ندى.وعندما نظرت الأم فى عينيها شعرت بما فى أغوارها من أنكسار وأستسلام.
وعلى الفور أرسلت فى طلب الشيخ عزام خادم المقام....
ومع أول أيام العيد استيقظ إسلام مبكرا ليؤدى صلاة العيد مع أخوته وأهله وعند عودته للبيت فوجئ بندى مرتديه ملابس أمه السوداء وتتجهز للخروج مع أمه وأخوته البنات لزيارة المقابر.وفى أندهاش نظر الى ندى فهو يعلم تماما خوفها من زيارة المقابر.ولم يأخذ فرصته للأعتراض فقد غادر الركب المتشح بالسواد المنزل قبل أن ينطق إسلام حرفا واحدا.
تحرك ركب التعشير فى أتجاه المقابر والغول يرقص طربا وفرحا وهو فى قمة سعادته وأنتصاره وفريسته تتوسط الركب محاطه بأخوات إسلام ومتشبثة فى ذراع الأم تستمد منها الشجاعة والعزم.وقد بدأت ندى تشعر برجفة فى جسدها النحيل تزداد كلما أقترب الركب من المقابر.ووصل ركب التعشير الى محطته أمام إحدى المقابر المفتوحة ووضعتها الأم فى مواجهة باب المقبرة وأحاط بها باقى الركب فى نصف دائرة والجميع يحدقون محملقين فى اتجاه باب المقبرة وفجأة وبدون مقدمات برز الشيخ عزام من فتحة القبر حاملا على يديه جثة طفل ملفوف فى كفنه وأخذ يصعد فى بطأ قاتل سلالم المقبرة وهو يحملق فى عيني ندى بعينيه الجاحظتين والتي زرعت الرعب والفزع فى نفس ندى وازدادت رعشة جسدها الرقيق كلما أقترب منها ولم تعد قدميها قادرة على حملها.
وقف الشيخ عزام أمامها ومد يده بجثة الطفل وطلب منها أن تحمله بين يديها وحاولت الأم أن ترفع يديها لتتناول الجثة من الشيخ عزام وتفتح الكفن وتقبل الجثة.. مادت الأرض تحت أقدام ندى.وبدأت تلف من حولها فى دوائر.... متسارعة وتداخلت صور الأشياء واختلطت أمام عينها.. ثم سقطت مغشيا عليها فاقدة النطق والوعى.
بعد أن اطمأن الدكتور إسلام على زوجته تركها مستغرقة فى نومها تحت تأثير الحقنة المهدئة التى أعطاها لها الطبيب نتيجة الصدمة العصبية التى تعرضت لها جلس مصدوما أمام أمه وأخواته البنات وهم يقصون عليه ما حدث بالمقابر وهم يضحكون مستهزأين بضعف قلب زوجته الرقيقة.
وفى هذه اللحظة المصيرية أنار الله بصيرته ورأى بأم عينيه الغول متجسدا أمام ناظريه جالسا القرفصاء بجانب أمه واضعا فمه فى أذنها ليلقنها ما تنطق به.ثم ينتقل الى الأخت الكبرى..فالأصغر..فالأصغر..
ثم ينظر اليه ويخرج له لسانه..غيظا..وشماتة..وكيدا.
أحس إسلام بفداحة خطأه وفظاعة جريمته وغفلته التى تسلل من خلالها الغول الى عقر داره وأخذ يعيث فسادا فيها وكاد أن يقضى على زوجته..
ومد يده الى صدره وأمسك الحجاب الملفوف حول رقبته وشده بقوة وعزم وألقى به فى وجه الغول وهو يصرخ من أعماق روحه.وكيانه.
أن الله لا يغير ما بقوم..حتى يغيروا ما بأنفسهم.
النهاية