مقاطع من كتابي Horn of Africa The Revolution and the Illusionالتاريخ الزائف/الجغرافيا المضللةكثيرا ما تعرضت الأوضاع الاجتماعية السائدة بين الشعوب في منطقة القرن الإفريقي إلي الأزمات والمحن، علي مستوى الشعب الواحد في وطنه القومي، أو علي مستوى العلاقات الإقليمية القائمة بين هذه الشعوب، علي مر الحقب التاريخية.
وكثيرا ما تعرضت إلي السياسات التحكمية التي كان الحكام يفرضونها خدمة لمصالحهم الذاتية، وليس لمصلحة تلك الشعوب كل علي حـده أو لمصلحة التقـارب بينها. بل أن الحكام عبر الحـقب التاريخية التي مـر بها القرن الإفريقي، كانوا ينطلقون من بروبقاندا تمثيلهم الروحي (الطائفي أو القبلي) لهذا الشعب أو ذاك، ليفرضوا نوعا من السيطرة يتعدى شعوبهم إلي الشعوب المجاورة، خدمة أيضا لتلك المصالح الذاتية الضيقة، بين فكرتين متناقضتين تدعي إحداهما الصفة الملوكية الإلهية (بشقيها المسيحي و الإسلامي)، وتدعي الأخرى الصفة الثورية التقدمية.
إلا أن الصفتين معا وتَبعا لممارسات الاضطهاد المستمرة، أثبتتا إنهما محض إدعاء كاذب ووهم زائف. وبذلك فقد تحـول الحب الذي كان ممكنا داخل الشعب الواحد، أو بين هذه الشعوب في المنطقة مجتمعـة، تحـول إلي نوع من العـداء الـلازب، وهو الأمر الذي لابد وأن يجعل مثقفي الألفية الثالثة المخلصين من أبناء هذه الشعوب، يبحثون عن بارقة أمل لاستعادة الحب المغتصب. ولابد لهذه البارقة من الأمل أن تتجسد في تجمع قرن إفريقي جديد، يعمل في فروعه الوطنية لخدمة قضايا منطقته القومية / الوطنية، ويعمل في مستوياته القيادية الإقليمية لبناء الكونفدرالية الجديدة التي يحتاجها القرن الإفريقي في هذا القرن الجديد.
إن هذا الكتاب ينزع بالضرورة، وقد استفزه النزاع الإثيو- رتري الجديد، إلي إعادة قراءة الماضي، لاستيعابه بعقلية جديدة وبشكل أفضل. وبذلك فهو يشكل وجهة نظر في التاريخ غير محايدة علي الإطلاق، ولا ينبغي لها أن تكون شيئا غير ذلك، طالما كانت مجريات الأحداث تتجاوز المنطق السياسي، الذي فرض نفسه فأحدث التحولات التي طرأت بوضوح وتجسدت في 1991 م بين إرتريا وإثيوبيا، وحققت تحرير أديس أبابا من مركزية نظام الثورة الاشتراكية المدعاة، وتحرير اسمرا من سياسة القمع والإلحاق، التي كان قد استمر في تجسيدها نظام اشتراكي، ليرث بذلك نفس الأسلوب الذي انتهجه نظام الإقطاع الإمبراطوري، وليجسد بذلك أيضا المفارقة المؤلمة الموجودة أو التي تفرض وجودها باستمرار في هذه المنطقة البائسة حقا.
ويعبر هذا الكتاب بالتالي، ومن خلال هذا الفهم، عن وجهة نظر تري ضرورة تجاوز الماضي بأحقاده وآلامه، والتركيز علي خدمة قضايا هذه الشعوب مجتمعة، في مجالاتها الوطنية أولا، ثم ربطها بعد ذلك بعلاقات دم جديدة، تقوم علي ما يخدم قضاياها إقليميا، بمعني تجديد الدم في شرايين الحب بينها. ومن هنا يأتي قولنا بأنه لا ينبغي لوجهة النظر هذه إلا وأن تكون غير محايدة.
وهو - أي هذا الكتاب - ينطلق أيضا من فهم مغاير للتاريخ، يستمده كاتبه من دروس التاريخ الأولي، التي أرادت قـوي ما حشوها في عقول الصغار، في المراحل التعليمية الأولي والوسيطة، من خلال عرض بطولات تاريخية يستوجب أن يترعرع النشء علي ضوئها لتعزيز الأفكار التي تحملها تلك البطولات. إلا أن تلك الدروس كانت وبفعل تعاطف كتابها والمعلمين التقليديين الذين يعلمونها تنزع إلي المبالغات والتهويل والتهويمات وما يشبه المعجزات، وتفتقر أحيانا إلي الضرورة و الصدق، مما كان يجعل كاتب هذا الكتاب يسخر منها، ويهرب ليعيد قراءتها ويفكر فيها بطريقته الخاصة الحـرة والمحـايدة بالضرورة، وبدون أي تأثيـر من مدرسي التاريخ، ومع ذلك فقد كان يحصل علي الدرجات العليا في امتحانات هذه المادة.
وينطلق هذا الكتاب بالضرورة - بالإضافة إلي التاريخ - وقد تحدثنا عن الفهم المغاير، ينطلق من فهم مغايـر للجغرافيا، التي كانت تتجاوز الإقليم وتنطلق شمالا عبر البوابات التي دخل منها المستعمر، إلي حيث (فردوس التقدم والحضارة التي استعبدتنا ردحا من الزمن)، وأوجدت قنابلها الموقوتة في هذه التربة الإفريقية. وتحول مفهوم الشمال بذلك من مفهوم جغرافي إلي مفهوم ثقافي ثم مفهوم سياسي، استخدمته الصفوة السياسية السودانية عسكرية وطائفية، مثلما استخدمته الصفوة السياسية الإثيوبية الاكليركية والثورية معا وعلي حد سواء. وتجاوزت به هذه الصفوة في السودان وغيره واقع الجوار الإفريقي ، لتبني به روابط شمالية، متجاوزة روابط الاتجاه الأقرب والحميم - الذي يشكل حبل السرة- في هذه العلاقات شرقا وغربا وجنوبا في إفريقيا.
ولقد أوجد ذلك الاتجاه في السودان متجاهلا التكوين الحقيقي له، أوجد واقعا غريبا مرا، استفاد منه وأسهم في تعميقه النظام الراهن في الخرطوم (1989 م)، مستمدا فلسفته من التاريخ الزائف والجغرافيا المضللة.
لذلك فنحن في أشد الحاجة إلي تاريخ جديد وجغرافيا جديدة، حتى تتعافى الأجيال الجديدة من ماض لا يسر، وحتى لا تنظر إلينا كمن ينظر إلي عار. ولابد من الإحالة هنا إلي أن السودان الجديد يعني هذا بكل تأكيد، كما يعني القرن الإفريقي الجديد هذا أيضا.
والقرن الإفريقي الجـديد لا يتخلق إلا عبر ميكانزمات عمل جـذري خلاق، يقوده مثقفون وطنيون مخلصون (ينظرون إلي الماضي بغضب)، ويخلقــون آلياتهم الوطنية والإقليمية الجـديدة، لبناء الثقـة والحـب بين شعوب هذه المنطقة، ويعملون بينها علي المـدى الطويل لتفتيت مفهـوم الصفوة نفسه، ولخلق مفاهيم جـديدة للقيادة الشعبية، علي المستويات الوطنية والإقليمية، حتى نستطيع القول حـقا إننا قد عشنا الألفية الثالثة كأبناء حقيقيين لها، وأن الشعوب هي التي تصنع التاريخ، وأن (أجمل التاريخ يبدأ غدا).
إن هذا الكتاب، مستوعبا لكارثة النزاع الإثيو- رتري، الذي نتمنى أن يكون الأخير من هذه السلسلة في القرن الماضي، وألا يتجدد في الألفية الثالثة، إن هذا الكتاب لا يحتفي بالمطروحات الطائفية أو العشائرية عندما تتجاوز خصوصياتها وتحاول السعي للسلطة، وهو بالتالي لا يحتفي بالأنظمة السياسية التي تولـدت أو تتوالـد نتيجة لتلك المطروحات، لتوصـم التاريـخ بوصـمة عـار.
ورغم أن هذه الكتاب لا يسعى لإهانة أي عشيرة أو طائفة، لأن كاتبه يري التوظيف السياسي السيئ لتلك العناصر، إلا أنه يسعى للقول بأن القواسم المشتركة للتعايش السلمي بين هذه الطوائف والعشائر، والتعاون الوثيق الذي يصل حد الكونفدرالية، متوفرة أكثر مما تتوافر عناصر الشقاق والفرقة، ولكن لم تتح حتى الآن ومنذ الماضي البغيض، أي أنظمة سياسية معافـاة، تمتلك مصداقية الرؤيا وشفافيتها، لتقود شعوب هذه المنطقة باتجاه العناصر المتوفرة أكثر للكونفدرالية، أو للحـب العميق في اتجاهه الصحيح.
علي هذا الأساس لابد أن نجعل من الألفية الثالثة ألفية حـب، نفتح لها الأحضان ونحتويها بهذا الحـب الأكيد للإنسان هنا والحياة معـا.
خالد عثمانhttp://www.ezine-act-politics-business-and-love.com
http://afrojournal.blogspot.com
http://www.squidoo.com/lensmasters/Khalid-Osman
خالد عثمان Copyright
الرجاء عدم إعادة نشر أي نتاج بدون و ضع حقوق الكاتب و المصدر http://www.ezine-act-politics-business-and-love.com
أمامك فرصة نادرة للإنضمام الي تجمع قرن أفريقي واعد. أرسل تفاصيلك عبر هذا الاستبيان الصغير علي الموقع أعلاه في الصفحات السياسية.