حسن وراق حسن
| موضوع: عبدالعزيز العميري وصلاح حمدالله ..آخر الزاد الرحيل الجمعة 8 يوليو 2011 - 10:02 | |
| من مفكرتي
عبدالعزيز العميري وصلاح حمدالله.. آخر الزاد الرحيل!! كتب/ حسن وراق
تمر هذه الايام الذكري الثانية والعشرين لرحيل زينةشباب المبدعين عبدالعزيز العميري الفنان الشامل لتتصادف مع الذكري العاشرة لرحيل الاستاذ صلاح الدين عثمان حمدالله مبدع آخر رحل في سنوات الانقاذ وهو أحد سدنة الابداع الانساني والذي طور فكرة صالون مي زيادة وصالون العقاد ليزاوج في صالونه بين السياسة والآداب والفنون المختلفة والرياضة وعبر هذه المفكرة نستدعي بعض ما جفل من الذاكرة في خواطر باقية .
عبدالعزيز العميري .. النوارس ترحل باكراً
كان ذلك بعمر الانقاذ ، صباح الاربعاء الثامن والعشرين من يونيو 1989 في مكتب ادارة تموين الخرطوم الملاصق لدار نقابة الصحفيين بشارع المك نمر وكغير عادته دخل المكتب دون ان يلقي التحية وهو في كامل اناقته قميص نصف كم ناصع البياض وبنطلون كامل السواد مع لون الحذاء . جلس مهودا في فراغات ينتظر فراغي من حلحلة مشاكل عمل مع نفر من الجمهور.
شاي؟ ، قهوة ؟ بارد ؟ يومئ برأسه ممانعا . طيب تفطر؟ بعد برهة اجاب.. ما يكون فطور تقليدي ! لم أخبره بما عزمت عليه .. هيا بنا وانطلقنا وهو لا يسألني الي أين . توقفنا عند أحد المنازل بديم القنا بالخرطوم . استقبلتنا روما صاحبة الدار وهي من سلالة الملكة سبأ مكتنزة بكل التراث والطقوس الاثيوبية تستقبلك بابتسامتها الوضيئة تبدد كل الأحزان .
البيت صغير وبسيط اضيفت اليه بعض تعريشات الحصير للزبائن الذين يعشقون طعام الاثيوبيين وهو من أكثرالمطابخ cuisine التي تلاقي رواجا وإقبالا عالميا . وباعتباري زبونا VIP أستقبل ضيفي في غرفة كبار الزوار في دارها العامرة . الغرفة أكثر بساطة اضفت عليها الديكورات الاثيوبية جاذبية مدهشة.
الغرفة مفروشة بالرمل المرشوش نثررت عليها برسيم طازج داكن الخضرة فوقه عيدان من نبات الرجلة واغصان من النعناع عبقت الغرفة بروائح ونداوة تجعلك تألف المكان سريعا وترتبط به . ملصق كبير لفاتنة اثيوبية في قمة هضبة تعد مشروب القهوة بزي الزوريا الابيض الجميل الذي تزيقه الألوان الأصفر والأحمر والأخضر وعلي الحائط المقابل لوحة من القماش تجسد صورة العذراء مريم تحنو علي ابنها . قطع من الاثاث علي قلتها تملأ الغرفة بساطة والفة .
ظل العميري طوال تواجده بالغرفة في حالة دهشة واندهاش وكاد أن يقول وجدتها وجدتها وهو يجيل ببصره في كل الاتجاهات ويتمتم بصوت مسموع ..يا الله ! ارتاح للكرسي الذي يجلس عليه وهو من الخشب المهوقني الخفيف والمتين يمكن طبقه وحمله بسهولة كان أحد اثاثات البيوت في زمن غبر..الملاءة التي تغطئ السرير مشغولة باليد تداخلت فيها كل فنون قطبة التطريز .. زفة الوان تحتل كل شئ دون نشاز أو انتكاريا.
وضعت صينية الاكل واحضرت احدي الصبيات ابريقا وطست كما هي العادة عندهم لغسل الايدي . انتظرته ليبدأ الاكل وهو يزداد إندهاشا ينظر الي الاكل في صينية بيضاء من الطلس لا توجد بها صحون فرشت فيها الانجيرة أو ما يسمي بكسرة الحبش فوقها (كومين ) من زغني اللحم المقطع صغيرا والآخر زغني الدجاج البلدي تنبعث منهما روائح البهار الحبشي تفتح ابواب الشهية بحرارتها وسلطة الخضار تكمل المساحة وفي المكان المخصص تستدير شطة الدليخ .
كان لا يريد أن يمد يده ويفسد لوحة الاكل لو لا أن نكهة الطعام استفزته بأن يكمل تذوقه . استغرقنا وقتا في تناول الطعام ومع كل لقمة يستسيقها تتشكل مفردات ابداع في ( راماته ) . علي النافذة قلة (قناوية حبشية )، ماء الشراب في برودة طبيعية راوئة . وعلي حسب الطقوس احضر الينا كوبين من عصير (الميس ) المثلج المنعش المصنوع من عسل النحل الاصلي نرتشفه علي انغام صوت آله الربابة الاثيوبية (الإرا) او ( الواتا) .
رائحة البخور يعبق فيها اللبان مع العدني والجاولي إذاناً بشراب البنة . كان العميري مأخوذا بكلياته لم أظفر منه بكلمة او جملة تترجم ما يجيش بخاطره كان في حالة (تحميل ) وتخزين . خرجنا سويا من هذا المنزل (البسيط) الذي (عدل) مزاج وحالة حزن العميري.اسمع ! يعني الواحد ممكن يحلف صادق انو كان في اثيوبيا ! عشان كدا السبت الجايي أنا عازمك في نفس الحتة اوعك تنسي وتعمل ليك ارتباط ..أنا بجيك في نفس المواعيد ، ليختفي مني في شارع البلدية .
لم أنسي سبت العميري ولكن إنقلاب الانقاذ في جمعة الحزن 30 يونيو قلب المواعيد وادخل كل البلاد في الحالة التي أنبأنا بها حزن العميري . بعد اسبوع تمام ، الاربعاء الخامس من يوليو وفي طريقي الي المكتب أجد مجموعة من الاصدقاء في إنتظاري ، المرحوم صلاح حمدالله ،علي ابوراس ، مامون عجيمي ، خالد ورقة ، مهلب ابراهيم مالك . قدم لي علي ابوراس شهادة حسبته انه يريد تصديق سكر لمأتم كما قضت بذلك لوائح التصديقات وقتها. لم اصدق عيناي وانا اقرأ التاريخ 4/7/1989 اسم المتوفي عبد العزيز عبدالرحمن العميري اسباب الوفاة التهاب حاد بالقرحة .لم نك نعلم أن العميري وقتها كان حزينا علي ما سيئول عليه حال البلاد مستشعرا انقلاب ( الجبهجية ) حتي إنفجرت قرحته مقدما نفسه من اوائل شهداء نظام الانقاذ . تمر اليوم ذكري النورس عبدالعزيز العميري مستودع الابداع الذي رحل مخلفا حزنا ساكنا فينا جميعا والي الابد ، طبت حياً في علياك.
صلاح حمدالله .. صالون الابداع والمبدعين
إنتقل هو الآخر الي بارئه وفي حلقه غصص من مرارات الانقاذ انزرعت فيه منذ الثلاثين من يونيو 1989 ذهب الاخ صلاح حمدالله في صمت فاجع خلف حزنا اناخ احماله منذ الرابع والعشرين من شهر أغسطس 2001 لتجيئ ذكري عشرة سنوات من رحيله تجدد الحزن قلب كل من ارتبط به .
علاقتي بالراحل صلاح حمدالله تشكلت عبر علاقتي بوالده الاديب والمؤرخ الشيخ عثمان حمدالله والذي سكن الحصاحيصا ردحا من الزمان كان يعمل وكيلا لشركة ابوستلو لدباغة الجلود وبعد أن إنقطعت اقامته بالحصاحيصا ظلت علاقته قائمة حتي رحيله وقد أرخ لتاريخ الحصاحيصا في سفره العظيم ( التعارف والعشيرة ) والذي كتب بعض من فصوله عندما كان يحل ضيفا علي والدي الذي تربطه به صلة صداقة متينة .
بعد استشهاد شقيقه الاكبر الرائد فاروق حمدالله و الذي أعدمه جعفر نميري عقب 19 يوليو 1971 لم تظلم الدنيا في وجه صلاح الذي سار في درب شقيقه مناضلا صلباً في وجه الظلم منحازا للضعفاء والمقهورين ساخرا من الدنيا وبهرجها واضعا مبلغ همه أن يري السودان فوق كل الامم ولا سبيل الا ذلك كما كان يري الا بتفجير كوامن الابداع والاستنارة في كل المجالات والاطلاع والتوثيق والتدوين وليس غريبا أن يحتفظ بمكتبة ضخمة من الكتب والصحف والتسجيلات الصوتية والمرئية تشكل أحدي حلقات تاريخ معاصر لحقبة زمنية جديرة بالتوثيق .
فتح الراحل صلاح حمدالله داره العمرة صالونا شامل لكافة المبدعين من الادباء والفنانين والرياضيين من صالونه انطلقت العديد من الافكار الانسانية والالحان الموسيقية التي شكلت وجدان هذه الامة وتمكن في صالونه المزاوجة بين أهل السياسة والرياضة والادب وكان يضيق بالرواد يحفهم بكرمه الاصيل وبتسامته التي لا تفارقه حتي في اقسي المواقف ودعابته التي يطلقها تضفي حيوية وجاذبية للطرح والنقاش . شهد صالون صلاح حمدالله ميلاد عدد من الفنانين أذكر منهم نادر خضر والذي كان حريصا أن يعرف راي رواد الصالون في طريقته المتفرده كما قدمه الفنان فاروق المك وكذلك المطربة سميرة دنيا برفقة عازفها الحبر سليم وعدد من مبدعي مركز شباب السجانة كان يرتاد الصالون جهابذة الفنانين والموسيقين عبدالله عربي وشقيقه عمر وعلي الله جابو ومحمد ميرغني الذي كان يقدم وبصورة راتبه ندوات عن فن حقيبة الفن يستضيف فيها عدد من المبدعين والادباء منهم المبدع مهلب إبراهيم مالك وعبدالعزيز العميري وعامر الجوهري صلاح حاج سعيد ومحمد طه القدال والناقد الراحل سامي سالم والشاعر الراحل عثمان خالد وخطاب حسن أحمد .
من الاحداث التي لاتنسي عندما فاجأن جميعا صلاح بكنشرتو الساكسفون في باحة صالونه عندا استضاف صلاح ساكس العزف الشهير في صولو لتمتلئ حوائط المنزل كالاستاد من كل الجهات بالذين جذبهم الصوت والحدث الآخر عند وفاة الراحل عبدالعزيز العميري كان الصالون في حالة حداد وبكاء لاكثر من 40 يوم متوقف النشاط الا ما يخص سيرة الراحل .
كان صالون صلاح مركزا اعلاميا لنجوم الاعلام والصحافة محمد محمد خير ، هاشم كرار ومجموعة كبيرة من الاعلاميين الرياضيين الذين ( يتصيدون ) اخبار المستديرة هنالك والصالون يعج بالنجوم والمدربين والاداريين وحتي رئيس الاتحاد الحالي الدكتور معتصم جعفر كان من رواد الصالون قبل أن يفكر في العمل الاداري بحكم انه قطب من اقطاب نيل الحصاحيصا والنيل شعار صلاح حمدالله في العمل الرياضي وهذا سر العلاقة بينه وبين نيلاب الحصاحيصا وعلي راسهم الدكتور حسن علي عيسي نائب رئيس الهلال سابقا وياسر النوش رئيس نيل الحصاحيصا.
منزل صلاح الذي يضم اضخم صالون أدبي في الخرطوم كان لاتقفل ابوابه طيلة اليوم يستقبل الجميع .. ملاذ آمن لكل خائف ومروع كدار الارقم كل مرتاديه من مختلف الملل والنحل اصحاب وأحباب وأهل تجمع بينهم الالفة ويضمهم كرم وشهامة صلاح الذي رحل وترك اليتم والفجيعة في ابناء عمه حاج علي والاستاذ عبدو هاشم حمدالله وخالد ورقة ، مامون العجيمي ، علي ابوراس والدقس وعلي حجزي وجميعهم سدنة هذا الصالون والذي قال عنه ذات مرة الاستاذ صلاح علي الزين :
نزلنا يومها قرب حديقة القرشي , ( بيت كبير) , ناصيته المقابلة للحديقة عليها لافتة معهد الصفوة ) , وكان البيت أيضاً , ( بيت صفو.... جرني صديقي ودفع باب المنزل بيمناه , ودخل وأنا من خلفه.. أساله :ياخوي , إنت جنيت ولا شنو و مدخلنا بيت الناس كده توووش , لا إحم ولا دستور ؟؟؟ لم يجبني ,إستمر في جري , ودفع باب الديوان الكبير ولف إلى الداخل قال بعد أن جلس وخلع حذاءه ..ياخوي , أمشي بره في حبشية بتبيع شاي جيب لينا منها قهوة وتعال أفهمك ..رددت :والله ده الفضل , أطلع وأخش في بيت الناس ., وكمان أجيب قهوة , دي مصيبة شنو دي؟؟؟؟ تنهد ونهض ولم يرد , ذهب بنفسه على ما يبدو لإحضار القهوة ... تلفت حولي , جدران الديوان الكبير تملأها صور لشاب وسيم بلباس القوات المسلحة على كتفه (نسر، يشير إلى أنه برتية الرائد أتى صديقي بعدها ويداه فارغتان من آنية القهوة, سألته في سخرية : وين القهوة يا (أبوعرام)؟؟؟؟ أجابني وهو يستلقي على السرير:سميرة بتجيبا أسي...أجبته : ياخوي , إنت ده بيت أبوك ...؟؟؟
لم أكمل جملتي , فقد دخل علينا رجل طويل عريض , في جلباب أبيض أنيق نهض صديقي وأحتضنه وصافحه بحرارة وقدمني له وقال مخاطباً لي : ده أخونا صلاح حمدالله .... !!!سرعان ما أنست للرجل , فقد كان قمة في الزوق والرقي هادئاً حين يحدثك ,جميلاً حين يبسم بوجهك .... سألته :من الرائد صاحب الصورة ...؟؟أجابني في شئ يشبه الفخر :هذا شقيقي المرحوم الرائد فاروق حمد الله إنتا ماسوداني ولا شنو؟؟؟بعدها وبسرعة صرت أحد أفراد هذا المنزل ..ما أن تراني ( سميرة) مقبلاً حتى تلحقني بالشاي والقهوة .... أصدقاء صلاح كثيرون , خاصةً بعد أن صار سكرتيراً لنادي النيل الخرطومي الشهير ... ببيته مساءً , ترى شرف الدين أحمد موسى ( لاعب المريخ السابق ) , د. كمال شداد ودالشريف صاحب الدبابيس و صديقه اللدود محمد الصادق وهما كعادتهما طرفي نقيض , أبوعبيدة البقاري , د محمد عبدالحليم محمد( توني) , كابتن مازدا , إسماعيل عطا المنان الصحافي والمدرب الشهير ..وغيرهم من نجوم المجتمع .... أهله وعشيرته .... كبر إبنه فاروق أمام أعيننا ,إبنه الوحيد أسماه تيمناً بشقيقه .. فأنعم .... فجأة , ككل جميل إختطفه الموت ...مات صلاح حمدالله , وترك وحيده فاروق وتركنا جميعاً ,خلف فراغاً لا يملأه بعده أحد ..رحلت سميرة تطلب عيشها بعيداً عن المكان , حتى السوبرماركت القريب تأثرت مبيعاته لرحيله , لولا مواصلات الصحافة شرق التي تمر أمام المنزل , لحسبت أن نمرة تلاتة رحلت معه عند رحيله ..فقد كان ليل الخرطوم في عز أزمتها ..لا يزينه سوى صلاح ..وأمسياته ..وكرمه هكذا ... بعض الناس .... موتهم يفقر المكان .... ..قال عنه صديق الجميع الاستاذ خطاب حسن أحمد: صلاح يجلس على تاريخ من الجمال....فلقد قسم صلاح ..حبه بالتساوى على الجميع ..له الرحمة الواسعة في ذكري رحيله العاشرة .نشر اليوم الجمعة في صحيفة اجراس الحرية | |
|