موضوع: دموع في عيون الذاكرة المفقودة ! الخميس 17 مايو 2012 - 10:01
دموع في عيون الذاكرة المفقودة !
محمد عبد الله برقاوي .. Bargawibargawi@yahoo.com
قرأت في مذكرات أحد كبار الكتاب الصحفيين العرب وقد ر حل عن الدنيا بالطبع . قال أنه كان حينما يريد الهروب من خنقة الحياة ، فانه يستريح في رحلة عمل عند خرطوم الأربعينيات والخمسينيات ،وكان في ذلك الزمان الى جانب شهرة قلمه فانه يعمل سكرتيرا اعلاميا لأحد ملوك دول الهلال الخصيب . يقول في ذكرياته لقد كانت الخرطوم في نظره أجمل العواصم التي يستطيع الزائر أن يتنفس فيها هواء نيليا نقيا غير ملوث ، فحينما تتمشى في شارعها المحازي للنيل تستطيع أن تنسى نهر السين ..فيشدك منظر كورنيش الخرطوم لجماله وخضرته و تناسق أشجاره الظليلة و تناغم أزهاره الفواحة، وعن انسان السودان قال ان ما يميز ساسته على سبيل المثال ، وعندما أحاول الهروب من نهارعالمهم المثقل بالهم السياسي الى دفء الثقافة والشعر والأدب ، فانني أجد نفسي قد أرتميت في أحضان مساءاتهم ذاتهم ولكن في لبوس ما بحثت عنه ، فيتحول المحجوب وأحمد محمد صالح ويحى الفضلي وابوحسبو وأغلب الوزراء ورموز الأحزاب الى شعراء وأدباء ، ونواب البرلمان الى أهل طرب ومثقفين يغنوك عن الذهاب للبحث عن أهل الصنعة الذين غالبا مايتوارون خلف حجب التواضع كطبيعة المبدع السوداني ! يقول الرجل ولعل ذلك كان في أواخر أيامه ، أنه عاد الى الخرطوم وليته ما فعل كما قال في بداية الثمانينيات ، فوجد البشر فيها قد اختلط متدافعا في شوارعها مع البقر وقد ذابت ملامح طرقها المسفلتة قبلا، وسط ركام التراب ، ولو أنك سألت عامل زراعة هذا ان وجد ،عن سلة زهور كانت ترقد فى وسط الشارع المتأكل لظن أنك قادم من السرايا الصفراء أو التيجاني الماحي بلغتنا ! وختم الكاتب تلك الجزئية ، بان وجه لعنات لرئيس البلد وساسة البلد ومحافظ الخرطوم ثم غادر دون رجعة ! أنا وأبناء جيلى لم نحضر أو نعي على الأقل ذلك الزمن الذي سرده الكاتب ، ولكّن بالطبع لحقنا على جانب من جمال ايامه وملامح عزه ، لاسيما في حياة العاصمة التي تركناها في منتصف السبعينيات بحدودها القديمة التي لم تتعدى بضعة كيلو مترات في كل أطرافها ، وكان كل شيء فيها مرتب والحياة تسير مثلما يحياها الناس في أرقى مدن العالم، كنت تعبر فرندات الأسواق النظيفة والخالية من الباعة الذين يفترشونها احتلالاو اكتظاظا اضطراريا الآن ! فيستوقفك في ذلك الزمان الهادي وأنت عابر العشرات من المعارف وهم متمهلون ويتجاذبون معك أطراف الحديث حول كثير من الموضوعات ، ليس بينها سعر الدولار ولا سيرة عملتنا المحلية ! وحينما تدلف الى المكاتب ، تجد أربعة من خمسة جالسين وجالسات على طاولاتها من معارفك !
عدت في العام 2010 زاعما أن أضع عصا الترحال في دواليب الوطن ، الذي غادرته مند ثلاثة عقود ، خوفا عليه وعلى نفسى على صغر سني من بوادر أنهيار خشيت أن يمس اخلاقي أو يشرخ صفحة المبادي التي كنت أتوهم أنني مسئؤل عن صيانتها في ضمير العالم كله ! بدأت أتجول وسط هدير الأقدام التي تسير في كل الاتجاهات وتتزاحم كلها بلا وجهة ،أتفرس الوجوه مثل الطفل المهلوع وهو يبحث عن والديه في شوارع القاهرة أو بومباى، لاأحد يعرفني ولا يتوقف أحد ليسالني أو أساله ، من يتحدث في الهاتف السيار ، كل زمجرته وتهديده أو توسلاته للطرف الآخر بعبارات تتكرر في محادثة عشرات العابرين والعابرات ، من قبيل ! أما ( وين حقنا ) ( وشنو عايزين تستنكحونا في المعلوم ) ( وما تخاف يا فردة دي لعبة ربحها مضمون والراجل المعانا واصل وبظبط الأمور ) هكذا علانية وحتى في الحافلات الحديث بصوت لا يعرف الهمس ولو في الأمور العائلية الخاصة بين الرجال والنساء و التي كنا نتناولها خلف الحوائط وباشارة الصم حتى لا تسمعنا الجدران ! ما أقسى القبض على جمرة حب الوطن ، الذي يجرى في مسارب الدم الى أن يفني الجسد ، فيسموذلك الحب السرمدي ملتصقا برهافة الروح الصاعدة راجعة الى بارئها ! ولكّن ما أصعب الصدمة حينما ترتمي الى صدره وأنت مجهد من مشقة الفراق أن تجد ذلك الوطن لا يعرفك بل ينظر اليك بعيون سادته ومغتصبيه الجدد يلفظك وهوخائف منك ، عوضا عن أن يضمك خوفا عليك ! لست وحدك من عاد ، يا كاتبنا الأردني الأستاذ / ناصر الدين النشاشيبي ! وأنت الضيف الذي لم يجد الخرطوم التي عشقها سائحا في جمال وجهها وبهاء عقولها التي رحلت مع ذلك الحسن ! فعلي الأقل قد غادرتها وأعتزلت الدنيا ولم تمت غريبا عن ترابك الأول وقد ضمك حانيا وأنت قد عدت اليه رفاتا! ولكّن ما قولك في من عاد من غربته في الصدر البديل ، ليجد نفسه أكثر غربة عند مرارة عصارة الثدي الأصيل ؟ فمن يا ترى يلعن ، وقد أغنيته أنت بلعنة رئيس البلد وساسة البلد ومحافظ الخرطوم ! ولكّن اقول لك رغم كل ما حاق ببلدنا متمثلا في عاصمتها التي باتت قرية كبيرة كبيرة ، ومهما أختلط فيها البشر بالبقر وتلونوا بالتراب الذي مسح معالم الشوارع وأمتص رحيق أزهارها الذابلة ، فان قدرنا الأثير الى النفوس مهما أغتربت في الخارج أومن داخل ذاتها ، فاننا سنظل نعشق رائحة ذلك التراب و نهيم بحلاوة ناسه ونستثنيهما من لعنات الأسى على الحال ، لان حالهما من بعض حالنا ، ونحن وهم ، نردد وراء هتاف روحك ، تلك اللعنات لمن قصدت وحددت! عسي أن يستجيب المولي لصوتنا مجتمعا بزوالهم ومآل حالنا معهم ، مع قبايل جمعة الغد التي نرجوها سعيدة للجميع . وسامحونا حتي نلتقى مع بداية الأسبوع عودة الى سيرة البحر العكر! ان أمد الله في الآجال .. انه لمستعان .. وهو من وراء القصد..
وليد العشي
موضوع: رد: دموع في عيون الذاكرة المفقودة ! الخميس 17 مايو 2012 - 19:29
عسي أن يستجيب المولي لصوتنا مجتمعا بزوالهم ومآل حالنا معهم ، مع قبايل جمعة الغد التي نرجوها سعيدة للجميع .