موضوع: عندما يحكي الطيب صالح الأربعاء 27 فبراير 2013 - 14:11
عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ، سبعة أعوام على وجه التحديد ، كنت خلالها أتعلم في أوربا . تعلمت الكثير ، وغاب عني الكثير ، ولكن تلك قصة أخرى . المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل . سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم ، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم ، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس . ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زماناً في بلاد " تموت من البرد حيتانها " . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب ، أول وهلة رأيتهم . لكن الضباب راح
موسم الهجرة إلى الشمال
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأربعاء 27 فبراير 2013 - 14:36
بعد هذا بنحو أسبوع ، حدث شيء أذهلني . دعاني محجوب لمجلس شراب . وبينما نحن نسمر جاء مصطفى يكلم محجوباً في شأن من شؤون المشروع .دعاه محجوب أن يجلس فاعتذر ، ولكن محجوبا حلف عليه بالطلاق . مرة أخرى لاحظت سحابة التبرم تنعقد ما بين عينيه ، ولكنه جلس ، وعاد بسرعة إلى هدوئه الطبيعي . وناوله محجوب كأساً من الشراب ، فتردد برهة ثم أمسك بها ووضعها إلى جانبه دون أن يشرب منها . ومرة أخرى أقسم محجوب ، فشرب مصطفى . كنت أعرف محجوباً متهوراً فخطر لي أن أمنعه عن مضايقة الرجل ، إذ من الواضح أنه غير راغب في الجلسة أصلا . لكن خاطراً آخر هجس في ذهني ، فتوقفت . شرب مصطفى الكأس الأولى باشمئزاز واضح ، شربها بسرعة ، كأنها دواء مقيت . لكنه لما وصل إلى الكأس الثالثة ، أخذ يبطئ ويمص الشراب مصا بلذة،حينئذ ارتخت عضلات وجهه وغاب التوتر في أركان فمه، وأصبحت عيناه حالمتين ناعستين، أكثر من ذي قبل. القوة التي تحسها في رأسه وجبهته وأنفه، ضاعت تماماً في الضعف الذي سال مع الشراب، على عينيه وفمه . وشرب مصطفى كأساً رابعة ، وكأساً خامسة . لم يعد في حاجة إلى تشجيع ، لكن محجوباً كان يحلف بالطلاق على أي حال . دفن مصطفى قامته في المقعد ، ومدد رجليه . وأمسك الكأس بكلتا يديه ، وسرحت عيناه ، كما خيل لي ، في آفاق بعيدة ، ثم ، فجأة ، سمعته يتلو شعراً إنكليزياً ، بصوت واضح ونطق سليم . قرأ قصيدة وجدتها فيما بعد بين قصائد عن الحرب العالمية الأولى " هؤلاء نساء فلاندرز ينتظرن الضائعين ، ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء ، ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجئ بهم القطار ، إلى أحضان هؤلاء النسوة ، ذوات الوجوه الميتة ، ينتظرن الضائعين ، الذين يرقدون موتى في الخندق والحاجز والطين في ظلام الليل . هذه محطة تشارنغ كروس . الساعة جاوزت الواحدة . ثمة ضوء ضئيل ثمة ألم عظيم " . بعد ذلك تأوه ، وهو لا يزال ممسكاً بالكأس بين يديه ، وعيناه سارحتان ، في آفاق داخل نفسه . أقول لكم ، لو أن عفريتاً انشقت عنه الأرض فجأة ، ووقف أمامي ، عيناه تقدحان اللهب ، لما زعرت أكثر مما ذعرت . وخامرني ، بغتة ، شعور فظيع ، شيء مثل الكابوس ، كأننا نحن الرجال المجتمعين في تلك الغرفة ، لم نكن حقيقة ، إنما وهماً من الأوهام . وقفزت ، ووقفت فوق الرجل ، صحت فيه : " ما هذا الذي تقول ؟ ما هذا الذي تقول ؟ " نظر إلى نظرة جامدة ، لا أدري كيف أصفها ، لكن لعلها كانت خليطاً من الأحقاد والضيق . ودفعني بعنف بيده ، ثم هب واقفاً ، وخرج من الغرفة في خطوات ثابتة، مرفوع الرأس ، كأنه شيء ميكانيكي . كان محجوب مشغولاً ، يضحك مع بقية من في المجلس ، فلم ينبه لما حدث . ذهبت إليه ثاني يوم في حقله ، فوجدته مكباً يحفر الأرض حول شجرة ليمون . كان مرتدياً سروالاً من الكاكي قصيراً متسخاً ، وقميصاً من الدبلان يصل إلى ركبتيه ، وعلى وجهه بقع من الطين . حياني بأدبه الجم كعادته وقال لي : " بعض فروع هذه الشجرة تثمر ليموناً ، وبعضها يثمر برتقالاً " . فقلت له بالانجليزي ، عمداً : " شيء مدهش " . فنظر إلي مستغرباً وقال : " ماذا ؟ " فأعدت الجملة . ضحك وقال لي : " هل أنستك إقامتك الطويلة في انجلترا العربي ، أم تحسب أننا خواجات ؟ " قلت له : " لكنك ليلة أمس قرأت الشعر باللغة الإنجليزية " . غاظني صمته . فقلت له : من الواضح أنك شخص آخر غير ما تزعم . من الخير أن تقول لي الحقيقة " . لم يبد عليه أي تأثر بالتهديد الذي ضمنته كلامي ، ومضى يحفر حـول الشجرة . ولما فرع من حفره ، قال وهو ينفض الطين عن يديه دون أن ينظر إلى : " لا أدري ماذا قلت وماذا فعلت في الليلة الماضية . السكران لا يؤاخذ على كلامه . وإذا كنت قلت شيئاً ، فهو كخترفة النائم ، أو هذيان المحموم ليست له قيمة . أنا هو هذا الشخص الذي أمامك ، كما يعرفه كل أحد في البلد . لست خلاف ذلك ، وليس عندي شيء أخفيه " . ذهبت إلى البيت ، ورأسي يضج بالأفكار . وأنا واثق أن وراء " مصطفى " قصة ، أو شيئاً لا يود أن يبوح به . هل خانتي أذناي ليلة البارحة ؟ الشعر الانجليزي الذي قرأه ، كان حقيقة . لم أكن سكران ، ولم أكن نائماً ، وصوته وهو جالس في ذلك المقعد ، ممداً رجليه ، ممسكاً بالكأس بكلتا يديه ، صورة واضحة لا مراء فيها . هل أحدث أبي ؟ هل أقول لمحجوب ؟ لعل الرجل قتل أحداً في مكان ما وفر من السجن ؟ لعله.. لكن أية أسرار في هذا البلد ؟ لعله فقد ذاكرته ؟ يقال أن بعض الناس يصابون بالامنيزيا أثر حادث . وأخيرا قررت أن أمهله يومين أو ثلاثة ، فإذا لم يأتيني بالحقيقة ، كان لي معه شأن آخر موسم الهجرة إلى الشمال
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأربعاء 27 فبراير 2013 - 14:48
ليتني, غفر الله لي, أكون ولو ممسكا بخطام بعير سيدنا عبد الله بن عمر, رضي الله عنهما. ذكروا أن رجلا سبه في الطريق, فلم يرد عليه وظل سائرا والرجل يتبعه ويسبه. فلما وصل سيدنا عبد الله بن عمر إلى داره التفت إلى الرجل وقال له: "يا هذا. أنا وعاصم أخي لا نسب الناس". وأكثر ما يهزني في هذه القصة أنه قال "أنا وعاصم أخي". ولك أن تتخيل أنه لم يرد أن ينفرد بالفضل, أو أنه ذكر أخاه في ذلك السياق لفرط محبته له, يستحضره في جميع أحواله. وعاصم هذا كما نعلم هو جد عمر بن عبد العزيز لأمه, من تلك الأعرابية التي أبت أن تغش اللبن وقالت لأمها "إن كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا". فرأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفراسته ما رأى, فزوجها من ابنه وجاء من ذريتهما أشج بني مروان, الذي أوسق الدنيا عدلا زمنا قصيرا ليته طال, إلى أن مات أو قتل. تلك ذرية بعضها من بعض.
ذلك لأن من حسناتي القليلة, عفا الله عني, أنني لست شتاما ولا صخابا في الأسواق. بيد أن منسي يومئذ, أخرجني عن طوري. لقد قطع علي طريقي, وظهر فجأة مثل الشيطان ليفسد علي ذلك الحلم الجميل. هاأنذا الآن متهم بالتقصير الإداري وهو تقصير واضح لا مراء فيه. لكنه محتمل, الذي لا يحتمل هو أنني متهم في أمانتي وقد كنت أظنها فوق الشبهات". مختارات منسي : إنسان نادر على طريقته
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الخميس 28 فبراير 2013 - 8:44
لو أن قامة 'منسي' كانت أقصر ببوصة واحدة أو بوصتين، لأصبح قزما. ومع تقدم السن، ترهل جسمه، وصار له كرش كبير، ومؤخرة بارزة، فكأنك تنظر إلي كرة شقٌت نصفين، نصف أعلي ونصف أسفل. وكان شديد العناية بمظهره، يلبس قمصان الحرير. وال 'بدل' الفاخرة، يحصل عليها بأثمان بخسة. كان باديء الأمر يفصًٌل ثيابه عند 'ترزي' في نواحي 'هولبورن'، وكان هذا يحصل علي القماش بسعر الجملة من محلات 'دورْمَييْ' المعروفة في بيكاديللي. ذات يوم انشغل فتطوع 'منسي' ليحضر له القماش، فأعطاه الرجل بطاقته، واستغل 'منسي' الفرصة فسجل اسمه عند 'دورميي' علي أنه 'ترزي' وحصل علي بطاقة، وأصبح بعد ذلك يحصل علي القماش بسعر الجملة بهذه الصفة. وأشهد أن 'منسي' كان كريما معنا، فكنا نذهب معه إلي 'دروميي' ونشتري ما يلزمنا بسعر الجملة. كذلك اكتشف 'منسي' بقدرته الخارقة علي الاكتشاف، ترزيا ماهرا في منطقة ال 'ايست اند' الفقيرة، يتقاضي ربع الأسعار التي يتقاضاها الترزية في وسط لندن، فأصبح يفصل ثيابه عنده. حتي بعد أن هاجر إلي أمريكا وفتح الله عليه هناك، كان يحضر خصيصا إلي لندن، فيشتري القماش من 'دورميي' ويفصله عند صاحبه ذاك في ال 'ايست اند'. كان يقتني البدل والقمصان بالعشرات دفعة واحدة. ولابد أنه ترك كميات كبيرة منها بعد موته. لن يستفيد منها أحد لسوء الحظ، لأنني أشك أن يكون في كل هذا العالم الطويل العريض شخص واحد مثل 'منسي'. مختارات منسي : إنسان نادر على طريقته
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح السبت 16 مارس 2013 - 15:32
وكانت تترى على البلد أخبار مريعة عن سيف الدين ، كيف أنه سجن في الخرطوم بتهمة السرقة وكيف أنه اتهم مرة بقتل رجل في بور سودان وكاد يشنق لولا أنهم وجدوا القاتل الفعلي في النهـ°ـ°ـاية وكيف أنه يعيش " صائعا " سفيها فاسقا مع العاهرات في كل مدينة يحل فيها . يقولون مرة أنه يعمل حمالا يحمل بالات القطن على ظهره في الميناء . ومرة يقولون أنه يعمل سواقا لسيارة شاحنة بين الفاشر والأبيض وأحيانا يقولون أنه يزرع القطن في طوكر ، وحاول أعمامه وأخواله إقناع أبيه بأن يكتب وصية يترك فيها ثروته كلها لزوجته وبناته . كل الرجال العقلاء في البلد أمّنوا أيضا على صواب هذا الرأي لكن الأب كان يتهرب دائما ويتعلل بأنه سيفعل ذلك حين يدنو أجله ، وأنه ما زال قويا لا حاجة به إلى كتابة وصية . لكن الرجال العقلاء كانوا في مجالسهم يهزون رؤوسهم حسرة ، ويقولون أن البدوي ما زال يأمل أن ابنه سيعود إلى صوابه . شيء ما : لم يفهمه أهل البلد ، منع الرجل من اتخاذ الخطوة الحاسمة : حرمان ابنه من الميراث وفي ليلة من ليالي شهر رمضان ، مات البدوي على مصلاته بعد أن صلى التراويح . كان رجلا طيبا فمات ميتة كل الرجال الطيبين : في شهر رمضان ، في الثلث الأخير منه ، وهو الثلث الأكثر بركة ، على مصلاته ، بعد أن صلى التراويح ، وهز أهل البلد رؤوسهم وقالوا " يرحم الله البدوي . كان رجلا طيبا . كان يستاهل أبناء خيرا من ابنه الفاسق ذاك " . وذات يوم . والناس ما زالوا على ( فراش البكاء ) وقد فرغوا لتوهم من إقامة ( الصدقة ) دخل عليهم سيف الدين . كان يحمل في يده عصا غليظة من النوع الذي يستعمل في شرق السودان ، ولم يكن معه متاع على الإطلاق . كان شعره منفوشا كأنه شجيرة سيال ، ولحيته كثة متسخة ووجهه وجه رجل عاد من الجحيم ، لم يسلم على أحد ، وتجنبته كل العيون ، لكن عمه الأكبر قام وبصق على وجهه ، ولما وصل النبأ بقدومه إلى أمه في الجناح الآخر من البيت وهي وسط الحريم على ( فراش البكاء ) وولولت من جديد كأن زوجها مات لتوه . وولولت أخوات سيف الدين ، وعماته وخالاته وفار جناح الحريم في البيت وماج . إلا أن العم قام إليهن وانتهرهن فسكتن . كل هذا لم يمنع سيف الدين أن يضع يده على أموال أبيه ، كل ما استطاع عمله أعماله وأخواله أنهم خلصوا نصيب أمه وأخواته ، وبقي لب الثروة في يده . هنا أيضا تبدأ حياة العذاب لموسى صديق الزين - موسى الأعرج - كما يسميه أهل البلد . طرده سيف الدين بحجة أنه لم يعد رقيقا . وأنه ليس مسؤولا عنه . وعاش سيف الدين بعد هذا حياة مستهترة . زاد في استهتارها توفر المال في يده . كان في سفر متواصل ، ومرة في الشرق ومرة في الغرب ، يقضي شهرا في الخرطوم وشهرا في القاهرة وشهرا في أسمرا ، ولا يجيء البلد إلا لبيع أرضا أو يتخلص من ثمر ، كان نوعا من الناس لم يعرفه أهل البلد في حياتهم ، يجافونه كما يجافي المريض بالجذام . حتى أقرب الناس إليه . أعمامه وأخواله لم يكونوا يأمنونه في بيوتهم ، فسدوا الباب في وجهه مخافة أن يفسد أبناءهم أو يفسق ببناتهم ، وفي إحدى زياراته المتقطعة للبلد وجد عرس أخته - فإن أهله كانوا يتجنبون حضوره لأفراحهم ولم يكن هو بطبعه يحضر مأتما . وكاد ذلك العرس ينقلب بسببه إلى مأساة . أولاً حادثة الزين . جاء الزين كعادته في مرحه وهذره ولم يكن أحد يأبه له . لكن سيف الدين لم يعجبه ذلك فضربه بفاس على رأسه وكادت المسألة تنتهي بالسجن . لولا تدخل العقلاء من أهل البلد الذين قالوا أن سيف الدين لا يستحق الوقت الذي ينفقونه عليه في المحاكم. ثانيا : كاد العريس يغير رأيه في آخر لحظة لأنه تشاجرمع سيف الدين أخي العروس ومرة أخرى تجمع العقلاء من أهل البلد ، بما فيهم أبو العريس ، وقالوا إن سيف الدين ليس منهم ، وأن حضوره العرس شر لا يستطيعون رده . ثالثاً : في الأسبوع الأخير في حفل الزواج انهمر على الدار عشرات من الناس الغرباء الذين لم يرهم أحد من قبل . نساء ماجنات ورجال زائغو النظرات وصعاليك ، وسفهاء جاؤوا من حيث لا يدري أحد . كلهم أصدقاء سيف الدين دعاهم لحفل زواج أخته . وهنا لم يجد أهل البلد بداً من القيام بعمل . قبل أن يستقر هؤلاء الضيوف في جلساتهم إذا بصف من رجال البلد يتقدمهم أحمد إسماعيل . ثم محجوب ، ثم عبد الحفيظ فالطاهر الرواسي ، فحمد ود الريس ، وأعمام سيف الدين وأخواله ، نحو من ثلاثين رجلا في أيديهم عصي غليظة وفؤوس ، أغلقوا الأبواب عليهم وأشبعوهم ضربا . وأكثر من ضربوا منهم سيف الدين . ثم ألقوا بهم في الطريق . وبينما البلد بأسرها تضج من ذلك البلاء الذي اسمه سيف الدين ، إذا به فجأة بعد ( حادث الحنين ) يتغير كأنه ولد من جديد . "عرس الزين"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأحد 17 مارس 2013 - 16:25
تتابعت الأعوام عام يتلو عاما ، ينتفخ صدر النيل كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ ، ويسيل الماء على الضفتين فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء ، عند اسفل البيوت تنق الضفادع بالليل وتهب من الشمال ريح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من اريج زهر الطلح ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل ، وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودق طبوله وعزف طنابيره ومزاميره كأنه يمين دارك ، ويتنفس النيل الصعداء، وتستيقظ ذات يوم فإذا صدر النيل قد هبط وإذا الماء قد انحسر عن الجانبين ، يستقر في مجرى واحد كبير يمتد شرقاً وغربا ، تطلع منه الشمس في الصباح وتغطس فيه عند المغيب ، وتنظر فإذا أرض ممتدة ريانة ملساء ترك عليها الماء دروباً رشيقة مصقولة في هروبه إلى مجراه الطبيعي ، رائحة الأرض الآن تملأ أنفك فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح ، الأرض ساكنة مبتلة ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم ، كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها ، الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق هو ماء الحياة والخصب ، الأرض مبتلة متوثبة تتهيأ للعطاء ، ويطعن شئ حاد أحشاء الأرض ، لحظة نشوة وألم وعطاء ، وفي المكان الذي طعن في أحشاء الأرض تتدفق البذور ، وكما يضم رحم الأنثى الجنين في حنان ودفء وحب ، كذلك ينطوي باطن الأرض على حب القمح والذرة واللوبيا ، وتتشقق الأرض عن نبات وثمر عرس الزين
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأحد 17 مارس 2013 - 16:51
كانت عزة ابنة العمدة في الخامسة عشرة من عمرها وقد تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ ، كانت ذهبية اللون مثل حقل الحنطة قبيل الحصاد وكانت عيناها واسعتين سوداوين في وجه صافي الحسن دقيق الملامح ورموش عينيها طويلة سوداء ترفعهما ببطء فيحس الناظر إليها بوخز في قلبه عرس الزين
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الإثنين 18 مارس 2013 - 2:51
لم تكن أم الزين تبالي أين يقضي الزين ليله ، فقد كان كروح قلق ليس له مستقر ، حيثما أقيم عرس تجد الزين : في فريق الطلحة أو عند عرب القوز في قبلي أو بحري ، لا يحبسه برد ، ولا عاصفة تهب بالليل ولا النيل الطامي في موسم فيضانه ، تلتقط أذنه بحساسية نادرة زغاريد النساء على بعد أميال ، فيضع ثوبه على كتفه ويهرول كأن شيئا يجذبه إلى مصدر الصوت . وأحيانا يسطع النور فجأة من وراء كثبان الرمل ، حين تعدو السيارات آتية من أم درمان ، فإذا شخص نحيل يحب في الرمل يميل بجسمه إلى الأمام قليلا وعيناه تنظران إلى الأرض ، يحث الخطى متجها شرقا . يرى الركاب الزين فيعلمون أن ثمة حفل عرس في طرف الحي ، فإما صاحوا به حين يمرون عليه ، وأما أوقفوا السيارة وتحرشوا به . وأحيانا يسير وراءه كوكبة منهم ، وتقترب زغاريد النساء وتتضح معالمها . ويستطيع الزين أن يميز النساء . أية امرأة زغردت ، ثم تبدو الأنوار وتبدو أشباح مجتمعة تصعد وتهبط كأنها شياطين في وادي الجن . ثم يظهر الغبار الذي تثيره أرجل الناس في رقصها ، يتشبث بخيوط الضوء . وفجأة ينشق الليل عن نداء يعرفه كل أحد : " عوك يا أهل العرس ، يا ناس الرقيص الزين جاكم " . وإذا الزين قد قفز كالقضاء واستقر في حلقه الرقص . ويفور المكان فجأة فقد نفث فيه الزين طاقة جديدة . ومن بعيد يسمع المرء صيحاتهم يرحبون به : " ابشر . ابشر . حبابك عشرة " . وحين تموت أصوات النساء في حلوقهن ، وتطفأ الأنوار ، ويتراوح الناس إلى دورهم قبيل طلوع الفجر ، يسند الزين رأسه إلى حجر أو إلى جذع شجرة ، وينام برهة نوما خفيفا كنوم الطير . وحين يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ، يقفل عائدا إلى أهله ، فيوقظ أمه لتصنع الشاي . عرس الزين
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الخميس 21 مارس 2013 - 6:00
«مسك السوط وحناه بي إيديه الاتنين وفرقعه في الهوا وج وج.. ولولح السوط ونزّله. وحياتك نزل علي بردا وسلاما بعد نار الشطّة. جلدي خدران كأنه ميت، إذا جرحته بالسكين ما يحس. هبدني بالسوط التاني والتالت وأنا راكز زي الحيطة. إذا كان الباب دا يحس أنا أحس. وكت وصل السوط السابع وقف. زحّ لي ورا وعاين لي باستغراب. حدرته بنظرة زي سم الله الهاري.. صرخت صرخة فيه يا زول بي صوت ما أعرف جاني من وين، قلت له: يا وليد ميمونة، أحقّره باسم أمّه، أبقى راجل واضرب بالسوط.. قسما النهار ده، يا إنت يا أنا يشيلوه من هنا للجبانة». الناس ساكتة صن. ضربني التامن والتاسع والعاشر.. لما وصل تلاتين جدك وبندر شاه، الله يمسيهم بالخير، وقفوا مسكوا السوط من إيدو، قالوا له خلاص إنت أخذت حقك. الضرب لي حمد، أنا أخو البنات. يا زول حسيت زي كأني سر عسكر الترك، بقيت أنفخ وأقدل. قلت ليهم خلوه يضرب.. قسماً بسورة كاف لام ميم، شوف عندك جنس قسم ود ميمونة الليلة لازم يشيلوه جنازة. جدك وبندر شاه قالوا أبدا.. تلاتين سوط كفاية. مسكت السوط لقيته مليان دم. الله أكبر. هزيته فوق الحاضرين ولفيت في الحلقة لفتين وانا أقول واتبختر. ود مفتاح الخزنة ود رحمة الله منكمشين يعاينوا للأرض من الخوف. نقرت كل واحد بالسوط فوق راسه، بعدين انطلقت الزغاريد أيوي ايوي أيويا عاينت لي مختار ود حسب الرسول لقيته راكز متماسك لكين جبهته ندت بالعرق. بقيت ادور حواليه وأنكشه بالسوط مرة مرة، وأصرخ وابرطع بعيد وأجيه راجع، وأقيف قدامه وانط في الهوا، عملت عليه حرب أعصاب، لحدي ما اتأكدت زولي خلاص حاته بقت حالة. ود مفتاح الخزنة وود رحمة الله بعد ضحكهم ما كان ضدي بقى معاي، الوحيدين البقوا معاي كل ما ضحكت الله يخيبهم داياً مع الغالب. رفعت السوط فوق ونزّلته شَرْ، عليك أمان الله كأنك شرطت لك قماش. مختار ما إتزحزع لكن عينه رمشت. نزّلت السوط التاني سمعته قَنَتْ. أنا أخوك يا السمحة. أديته التالت راح زحّ ورا شوية، السوط الرابع إتّرتعْ، السوط الخامس وقع بَبْ غمران. الناس ساكتة ولا حس مبهورين.. أنا التعبان الكحيان حمد ود حليمة أهزم مختار ود حسب الرسول، الفارس المغوار و البطل الهدّار!!. أقول لك شعرت كأني سيد الكون، مالك الليل والنهار.. بقيت أضرب من طرف، أغير يمين وأغير شمال. أجوط بي جاي وبي جاي.. يا زول ركبني جن، وقفت وسط الحلقة وختيت رجلي فوق مختار، وهو راقد جتة هامدة، زي كأنني أسد واقف فوق الفريسة.. بقيت أتكلم كلام خارم بارم ذكرني بيه جدك وبندر شاه. بعدين قالوا خلاص كفاية. جدك قال لي خلاص عرفنا إنك راجل». "ضو البيت : بندر شاه"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح السبت 23 مارس 2013 - 9:46
سرت وراء الصوت في جوف الظلام وأنا لا أدري هل أنا أسير إلى وراء أم إلى أمام. كانت قدماء تغوصان في الرمل، ثم أحسست كأنني أسير في الهواء، سابحاً دون مشقة، والأعوام تنحسر عن كاهلي، كما يتخفف المرء من ثيابه. ارتفعت أمامي قلعة ذات قباب عالية، يتوهج الضوء من نوافذها.. ارتفعت كجزيرة سابحة في لجة. وصلت الباب يحدوني الصوت، فإذا حراس تمنطقوا بالخناجر، فتحوا الباب، كأنهم ينتظرون مقدمي، وسرت وراء الصوت في دهليز طويل، ذي أبواب، على كل باب حرس، حق انتهينا إلى قاعة واسعة مضاءة بآلاف القناديل والمصابيح والشموع.. وكان في صدر القاعة، قبالة الباب، منصة مرتفعة، عليها عرش، كرسي عن يمين وكرسي عن شمال وعلى الجانبين وقف أناس طأطأوا رؤوسهم.. كان المكان صامتاً، لا كما تنعدم الضجة. ولكن كأن النطق لم يخلق بعد. تبعت الصوت حتى وجدت نفسي مائلاً أمام الجالس على العرش. وجه ناعم السواد مثل المخمل، وعينان زرقاوان تلمعان بمكر كوني.. خيل إلي أنني رأيت ذلك الوجه من قبل، في عصر من العصور. وقال الصوت "أهلاً وسهلاً بابننا محيميد" الصوت ذاته الذي ناداني من قبل، وجاء يحدوني إلى هنا، صوت جدي لا مراء في ذلك، والوجه وجه بندر شاه، يا للعجب. ومرت بي لحظة إدراك سريعة، عابرة، عرفت فيها كل شيء، كأنني في تلك اللحظة فهمت سر الحياة والكون. ولكنها ضاعت كما جاءت، ولم أعد اذكر شيئاً. ما عدت اذكر ألا الاسم السحري، بندر شاه, ونظرت فإذا الجالس عن يمينه نسخة أخرى منه، كأنه هو، وفهمت. "ضو البيت : بندر شاه"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأحد 24 مارس 2013 - 17:18
كان صوت سعيد البوم كما سمعه محيميد في تلك الساعة، وهو بين النائم واليقظان، كأنه مغنطيس، قد علق به غبار الأحلام الموؤدة، فاتخذ أعماقاً وأبعاداً ليست له. لم يكن كما سمعه أول مرة، ذلك الصوت الأخرق الضعيف. هب من فراشه وتوضأ وخرج من داره، وهبوب أمشير تنفخ في وجهه تكاد تصده، لا يدري لماذا فعل ذلك، لأنه لم يصل الفجر حاضراً مع الجماعة منذ ثلاثين عاماً أو يزيد. خرج من داره ومشى، وحذاؤه يغوص في الرمل البارد، والريح القارصة تلسعه حول ساقيه، مشى نحو المسجد كما يمشي جده، كأن النداء في ذلك الفجر قد عناه هو دون غيره، كأن ثمة دَيناً لابد من قضائه، كأنه أخيراً يقوم بدور أعد له وظل يهرب منه كل تلك الأعوام. وصل المسجد فوجده غاصاً بالناس. دهش أول وهلة ، وسأل عبد الحفيظ هل ذلك الزحام لأن أمراً عظيماً حل بالبلد . قال عبد الحفيظ "الله يهدي من يشاء" "ضو البيت بندر شاه"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الإثنين 25 مارس 2013 - 15:29
ملأ صدره بالهواء ، وترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر . لكن روحه لم تنتعش . تريث قبل أن ينحدر في الأرض المسواة الممتدة ، وراءها غابات النخل ، ووراء ذلك النهر ، يلوح هنا وهنا بين فرجات الشجر . المنظر ، كأن محيميد يراه آخر مرة . وجهه متوتر كأنه يقاوم رغبة جارفة بالبكاء . أنظر يميناً . هناك . أين غابة الطلح الكثة التي كانوا يلعبون فيها أيام الطفولة ؟ رائحة البرم ، زهر الطلح ، خصوصاً أيام الفيضان . وهناك عند منعطف الدرب حذاء الجدول الكبير كانت تشمخ شجرة حراز ضخمة معرشة ، تلمع ثمارها الصفراء كأنها حلقان الذهب . ذلك الماء كان له طعم آخر . بلا غطاء ، ذلك السبيل ، عليه قرعة تتأرجح فوق الماء ، تضرب فم الزير يسرة ويمنة ، يشرب منه الغادي والرائح . من أقامه ؟ لا أحد يذكر . ولكنه لم يعدم أحدا يملأه صباح مساء . طعم الجلد المدبوغ ، طعم الماء في القربة المدلاه من الشعب في سقيفة جده . وطعم ماء النيل أيام الفيضان ، طعم الأخشاب المبتلة ، وأوراق الشجر ، والطين . طعم الموت . صافي في أماكن الرمل ، عكر في محلات الطين . عصارة الحياة كلها في ود حامد . مشدد قبضته على المقبض العاجي ، مقبض عصى الأبنوس ، ومضى بعزم يضعف ويقوى . غريبة تلك العصا ، الآن ، كأنها أمرأة عارية وسط رجال. يحس ملمسها ويتذكر مريم . ذلك الصوت . ذلك الشباب . ذلك الحلم . يخرج من داره كل يوم عند الفجر ، ويمشي هذا المشوار حتى النهر . يسبح ويعود مع الشروق . يحاول أن يوقظ الأشباح النائمة في روحه . أحيانا الحظ يؤاتيه ، فيسمع ويرى . الرؤى والأصوات كأنها تنبع من تحت قدميه ومع خبط عصاه على الدرب . هنا كان مكان النورج أيام الحصاد . رائحة التبن . رائحة القمح . رائحة روث البقر . رائحة اللبن أول ما يحلب . رائحة النعناع . رائحة الليمون . مريود "بندر شاه"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الثلاثاء 26 مارس 2013 - 2:01
طغت خشخشة الجريد اليابس على الأصوات في خياله فانتبه . أصغى لجريدة النخلة في هبوب الريح مثل هيكل عظمي في أكفانه . شاخت الآن ، تلك النخلة كما شاخ هو ، وقد كانت في شبابها تثمر أبكر وتعطي أكثر ، من تمر السكوت العزيز ، زرعها بيديه منذ أربعين عاما ، وأطلق إسمها على مريم " القنديل " تسميه مريود ويسميها مريوم . رف طيف الصبا مثل برق في أفق بعيد ، وأحس للحظة عابرة ، مذاق الثمر ، ونهد مريم يضغط على صدره وهما متماسكان في الماء . كان ثغرها مثل برق يشيل ويحط . ينتظرانها هو ومحجوب خارج الحي في الصباح . ومعهما الجلباب والعمة والحذاء ، وما تلبس مريم أن تخلع هذا وتكتسي هذا فتتحول من بنت إلى ولد . كانت تتعلم كأنها كانت تتذكر أشياء كانت تعرفها من زمن . ثلاثة أعوام والخدعة لم تنكشف . لم يتركوا حيلة لم يلجأوا إليها . ثم فارت الطبيعة فورتها ، وأخذ جسم مريم يذعن لنداء الحياة الأعمق . وذات يوم إستقرت عينا الناظر عليها وهي مدبرة عنه في حوش المدرسة . اعترفت في الحال كأنها كانت قد سئمت اللعبة . غضب أول الأمر ، ثم لاحت له وجوه الطرافة في الموضوع ، فأسرع إلى حاج عبدالصمد وعلي ود الشايب وبين يوم وليلة ، تحولت مريم ، تحت سلطان تيارات الطبيعة التي لا تقاوم إلى مخلوق آخر . أصبحت تغض طرفها ، وتتريث في مشيها ، وتخفض صوتها في الحديث ، ولم تعد تسبح معهم في النهر أو تلعب أو تعمل في الحقل . تحولت مريم بين عشية وضحاها بفعل مؤامرة الطيبعة والعرف الإجتماعي ، إلى أنثى وحسب . وكذلك حدث إنفجار في وجدان محيميد ، بدأ وضعه إزاء مريم يتضح ويتحدد ، وأدرك أنها هي الإمتداد الطبيعي لوجوده ، وانها هي التي تعطيه إحساسه بنفسه وبموضعه في نظام الأشياء . يومذاك بدأ يتراجع عن الدور الذي كان جده يهيئه له ، وكان عليه أن يحارب بسلاحه هو ، فحارب بسلاح جده ، وانهزم ، وذهب ولم يعد إلا بعد أن إنتهى كل شيء . في تلك العشية ، حين حمل جثمان مريم في ذراعيه ، كان كأنه يعود القهقري إلى نقطة البدء ، حين كانت الإحتمالات جميعها قائمة . هل كان الطريفي يدرك ، وهو ينوح على حافة القبر ، أي ثمن باهظ يدفعه الإنسان حتى تتضح له حقيقة نفسه وحقيقة الأشياء ؟ هل يقوى على دفع الثمن ؟ هو ، محيميد قد دفع الثمن وأكثر . كل شبر في هذه الأرض التي أحبها ثم تنكر لها ، يشهد أنه قد دفع الثمن وأكثر . مريود "بندر شاه"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأربعاء 27 مارس 2013 - 2:28
مال الطاهر ود الرواس نحوي دون أن يحول وجهه عن النهر ، ولكن سؤالي ظل معلقاً في الهواء بين النهر والسماء . كان وجهه واضح المعالم يلمع وسط ذلك الظلام ، كأن الضوء ينبع من داخله فجأة صرخ : بنت الكلب ، الليلة وقعت معاي قلت ليه كيف عرفت أنها أنثى قال : حتى في الحوت ، المره مره ، والراجل راجل . كنت أعمى في تلك العتمة ، ولكن الطاهر ود الرواس كان يسمع ويرى . وقال : أصلها عندها تار معاي . قبل خمسين سنة واحدة من حبوباتها قلبت بي المركب . وكت وقعت في الموية بقت تجرني من سروالي لي تحت . وأنت شن سويت الوكت داك ؟ خليت ليها السروال ومرقت من الموية عريان جل . صوته في تلك الدجنة مفعم بالحياة والمرح كأن السمكة في الماء تتحدث اِليه بلغة يفهمها : أكثر من ثلاثة شهور وأنا وراها . مرة تقطع الخيط ومرة تاكل الطعم وتشرد . بنت الحرام تقول جنية من جنس العفاريت . كنت أصادفه في رحلاتي عند الفجر ، أحياناً في قاربه في عرض النهر ، وأحياناً في مزرعته ، وأحياناً على الشاطئ جالساً يرقب جبادته . وكنت قد نسيت عذوبة صوته ، اِلى أن سمعته يغني ذلك الصباح غناءً كأنه غلالة من الحرير اِنتشرت بين الضفتين . ومرة لمحته من بعد ساهماً يحدق في الماء .ناديته فلم يجب . وبعد زمن أمام دكان سعيد سألته ضحك وقال : - انت شفتني يوم داك ؟ حكاية عجيبة والله . تقول صحيح الواحد وكت يكبر يصيبه الوسواس. عليك أمان الله . خمسين سنة وأنا أصيد في النيل لا شفت شي ولا سمعت شي . داك الصباح بت الحرام قطعت الجبادة وغطست . شويتين شبت فوق وش الموية . عليك أمان الله زول بني ادم عديييل . . . بت فتاة عريانة جل . . . اِني امنت بالله . وسمع أضاني دي قالت بي حساً واضح زي كلامي وكلامك يا ود الرواس أخير لك تبعد مني . وقبل ما ألقى الكلام الأرد بيه عليها غطست تاني جب في الموية . أنا أخوك يا محجوب . أنا أخو الرجال قعت متمحن أعاين للموية لو أن سعيد عشا البايتات قال لينا الكلام دا لضحكنا وقلنا كلام خارم بارم ، ولو حدثنا به أحمد أبو البنات لقلنا حديث سكران ، ولكن الطاهر ود الرواس طول حياته لم يقل الا كما رائ وسمع . قال الان ، وكأنه يا دوب سمع السؤال : عبد الحفيظ المسكين من يوم بته ماتت أتغير . بقى شكل تاني . زمان كان صاحي وعيونه مفتحة . والحين الله أعلم . اذا كان لقى اليقين في الصلاة برضه زين . وانت مالك ؟ أنا ؟ فاطمة بت جبر الدار طول حياتها تصلي . صلاتها تكفينا نحن الأنثين . يوماً ما سوف أسأله عن قصة زواجه من فاطمة بت جبر الدار ، احدى أخوات محجوب الأربعة . لن يجيبني الان . فهو مشغول بالسمكة في الماء . يتحدث اليها ويمازحها . وقد نسي تماماً وجودي جنبه . قال لها انه صاد جدتها منذ أربعين سنة وصاد عمتها منذ ثلاثين سنة ، وصاد عدداً من خالاتها وعماتها . سألته عن أبوها وأخوتها . قال كمن يصحو من نوم : ( أيوة . منو ؟ شنو ؟ ) محيميد ! اني امنت بالله . صوتك جاني من بعيد خلاص .أمها وأبوها ( أم منو وأبو منو ) السمكة يا زول اااه بنت العفاريت . أمها ساكنة وسط البحر ، هناك جوه ، أبداً ما بتطلع ، بس مرة تشوف حركة الموج فوقها . وأبوها ؟ أبوها أظنه عرس ليه وحدة تانية لي قبلي كدا . والاخوان ؟ الاخوان والأخوات السافر قبل والسافر بحر . أختا ليها قلبت كم مركب علي بحري كدا قلت ليه بدهشة : وهي المقعدها شنو ؟ العلم عند الله . يمكن منتظرة أجلها . . منتظرة تاخد تارها مني . . لكن بت الحرام أظن أجلها تم الليلة ! . مريود "بندر شاه"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الجمعة 29 مارس 2013 - 11:47
"يفتح الله!" .... (عشرون جنيها يا رجل، تحل منها ما عليك من دين، وتصلح بها حالك. وغدا العيد، وأنت لم تشتر بعد كبش الاضحية ! واقسم أنني لو لم أرد مساعدتك، فان هذه النخلة لا تساوي عشره جنيهات ) وتململ حمار حسين التاجر في وقفته. ولم يكن صاحبه قد ترجل عنه، فانه لم يرد ان يظهر لشيخ محجوب تلهفه على شراء النخلة ذات البنات الخمس، التي يسميها السودانيون في الشمال (الاساسق)، وقد قامت وسطها النخلة الأم، ممشوقة متغطرسة، تتلاعب بغدائرها النسمات الباردة التي هبت من الشمال تحمل قطرات من مياه النيل. ورأى الحمار الأبيض البدين حمارة أنثى ترعى من بعيد بين سيقان الذرة. فنهق نهيقا أجهش ممتدا، تم رفع رجله الخلفية اليسرى ووضعها، ورفع رجله الأمامية اليمنى ووقف في حافة حافره، وتشاغل بخصل من نبات (السعدة) الريانة التي نمت على حافة الجدول وكأنه قد تبرم بهذه المساومة التي لم يكن ورائها طائل. والحق أن حسين التاجر، بثيابه البيضاء الفضفاضة، وعباءته السوداء التي اشتراها في زيارة له للخرطوم، وعمامته من (الكرب) نمرة واحدة، وحذائه الأحمر التي لم تخرج أيدي صناع _(المراكيب ) في الفاشر أجود منه، وحماره الأبيض البدين اللامع ، والسرج الأحمر المدهن، والفروة البنية التي تدلت وكادت تمس الأرض ، كانت صورة مجسمة للكبرياء والغطرسة.ولكن شيخ محجوب لم يحر جوابا، وكان يبدوا في وقفته تلك كالمشدوه، يرنو إلى أفق بعيد متناه. ورويدا رويدا خفتت في أذنيه ضوضاء (أهل الخير) الذين جاؤوا ليتوسطوا بين التاجر وشيخ محجوب، وخفت صوت الساقية الحزين المتصل.ولف ضباب الذكريات معالم الأشياء الممتدة أمام ناظري شيخ محجوب. الناس والبهائم وغابة النخيل الكثة المتلاصقة، وأحواض الذرة الناضجة التي لم تحصد بعد، والأحواض الجرداء العارية قطعت منها الذرة، وسرحت على بقاياها قطعان الضأن والماعز. كل ذلك تحول إلى أشباح يتراقص في وسطها جريد نخل محجوب. وفي اقل من لمحة الطرف استعرض الرجل حاضره. أجل، غدا عيد الأضحى حينما يخرج الناس مع شروق الشمس في ثيابهم النظيفة البيضاء الجديدة، ويصلون مجتمعين على مقربة من ضريح الشيخ صالح. وإذ يعودون إلى بيوتهم تنضح وجوههم بالبشر والسعادة، وتسيل دماء الأضاحي، ويقبل الأضياف ويخرجون، ويتردد في الحي صدى ضحكاتهم أما هو ... أما بيته ...؟ انه لا يملك توبا نظيفا يخرج به إلى الصلاة، وليس عند زوجته غير " ثوب زراق" اشتراه لها قبل شهرين نال منه البلى وتراكمت عليه الأوساخ. أما ابنته خديجة فقد كادت تفتت قلبه ببكائها من اجل ثوب جديد تعرضه على والدتها وتعيد به مع صاحباتها. ومن أين له جنيهات ثلاثة يشتري بها خروفا يضحي به؟وتمتم شيح محجوب في صوت لا يكاد يسمع، شيئ يشبه التوسل والابتهال: (يفتح الله) وزم شفتيه في عصبية، وعاد بعقله خمسة وعشرون عاما إلى الوراء. إلا ما أعجبه تقلبات هذا الزمن لقد كان يومئذ شابا قويا أعزب لم يبلغ الثلاثين بعد، يعمل في ساقية أبيه مقابل كسوته وشرابه. فلم يكن يحتاج إلى المال، ولم يكن له قيمة. وفي ذات صباح مشرق من أصباح الصيف، مر بابن عمه إسماعيل، وكان الأخير منهمكا بقلع الشتل ليغرسه في أماكن أخرى من ارض الساقية. ووقع نظر محجوب على شتلة صغيرة رماها إسماعيل بعيدا، على إنها خالية من (الأضراس) لا تصلح. فالتقطها محجوب ونفض عنها التراب، وقال لابن عمه ضاحكا: باكر تشوف دي تبقى تمرة زي العجب *. وتبسم إسماعيل في سخرية، واستغرق في عمله. وعلى حافة الجدول وقريبا من الساقية، شق محجوب حفرة صغيرة ووضع فيها (النخيلة) وواراها التراب وفتح لها الماء بعد ا ن تلا آيات من القرآن وردد في شيء من الخشوع. (بسم الله ، ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، مثلما يفعل أبوه كلما غرس شتلة أو حصد نبتا. ولم ينس أن يصب في الحفرة قليلا من ماء الإبريق الذي يتوضأ بها أبوه تيمنا وتبركا.وانتزع محجوب غصة صعدت في حلقه، تم مرر أصابع يديه النحيلة المعروقة بين شعيرات لحيته المتفرقة. إلا ما كان أبرك ذلك العام! بعد ستة أشهر فقط من غرس (النخيلة) تزوج ابنة عمه، ولم يكن يملك من مال الدنيا شروى نقير. ولا هو يدري إلى الآن كيف تمت المعجزة. انه لم يكن يظن أبدا انه سيتزوج في يوم من الأيام، وهو الذي عاش أيام صباه منبوذا محتقرا من أهله مجفوا من الحسان، يتهمه كل احد بالغباء والخيبة. وطالما ترنم وهو يخوض الماء في لذعة البرد، عاري الرأس عاري الصدر: (الدنيا بتهينك والزمان يرويك وقل المال يفرقك من بنات واديك غير انه تزوج، ولبس حريرة العرس، وتمسح بالدلكة، ووضع على رأسه الضريرة، وأحاطت به الصبايا يهجزن بالأغاني. ولكم شعر بالعظمة والكبرياء وقتها. كل ذلك بعد غرس النخلة بستة أشهر وفي العام التالي ولدت زوجته بنتا اسماها آمنة تيمنا بمقدمها، ووفاء لذكرى جدته التي كانت تعطف عليه من بين أهله جميعا، وحينما وصل به تيار الذكريات لمولد آمنة، ترقرق في عينيه الدمع. اين الان آمنة؟ انها زوجة لابن أخته، الذي حملها إلى أقاصي الصعيد في الجزيرة، وقد كانت تبره وتعطف عليه. ليت حسن كان مثلها عطوفا بارا . حسن! وعض الرجل على شفته السفلى بعنف حتى كاد يغرس أسنانه في لحمها المتهدل. حسين ابنه الوحيد، سافر قبل خمسة أعوام إلى مصر، ومن وقتها لم يرسل لهم حتى خطابا واحدا يطمئنهم فيه عن صحته. لقد حاول الرجل جاهدا أن ينساه، ويمحوه من ذاكرته، ويعده من الأموات. وكانت زوجته تبكي كلما ردد محجوب في صوت حزين متهدج بيت الدوبيت الذي كان له خير سلوى، كلما جاشت بنفسه الذكرى، وكلما تمثل ابنه طفلا صغيرا حلوا يبول في حجره، تم صبيا يساعده في أعمال الساقية، تم شابا يافعا يشب عن الطوق، ويهجر الأهل والدار، وينسى حقوق الأبوة ، ولا يسأل عن الأحياء ولا الأموات. أجل والله-( الزول ا ن اباك خليه واقنع منه، وكم لله من دفن الجنى وفات منه). وكأن القدر أراد أن ينسيهم كل شيء يربطهم بحسن، فرمى آخر ما في جعبته من سهامه قاسية مسمومة ظل يسددها مند عامين، تباعا ودون توقف. وأصاب السهم الأخير النعجة ( البرقاء) التي رباها حسن، وجمع لها الحشيش وأشركها طعامه وانامها فراشه. ماتت وما عادت تثغو في بكرة الصباح حين كان حسن يقفز نشيطا خفيفا من فراشه فيطعمها ويسقيها ويأخذها معه إلى الساقية، ترعى وتمرح وتتلف الزرع ريثما يفرغ هو من عمله.ماتت، وكذلك اجتاح المحل والقحط كل القطيع الذي رباه شيخ محجوب. تم رفرف طائف من السعادة على الوجه الخشن المجعد، وجه محجوب . وغابة المرارة التي أحدتها ذكر حسن عندما تذكر الرجل قطيع الغنم الذي رباه في ذات العام شهد مولد آمنة. قطيع كامل من نعجة واحدة اشتراها بما تجمع عنده من تمن حيضان البصل. كان يعاملها كما يعامل أبناءه، يحلب لبنها بنفسه ويكوم القش من مراحها ويفك لها صغارها ويلبت الساعة والساعتين يداعبها وينظف وبرها، وتغمره السعادة وهو يشاهدها تناغي صغارها وتشرب الماء المخلوط بالدريش، وتتناطح فيما بينها. كان يطلق عليها الأسماء كما يسمي الناس أطفالهم، يعرف كل واحدة منها بسيماها ذات الذيل الأبيض، وذات القبعة السوداء على أم الظهر كسرج الدابة والخروف ذو القرون المكسورة، والخروف ذو القرون الملتوية. وبعد عامين من زواجه اشترى عجلة صغيرة عجفاء والاها بألم وبالحبوب حتى صارت بقرة جميلة كحيلة العين لها غرة في جبينها تجر الساقية وتدر اللبن. وفي أتناء ذلك أثمرت نخلة الجدول، أول شيء يمتلكه في حياته. وسارت الحياة رغدا كأنما استجاب الله دعاءه يوم شق في الأرض على حافة الجدول وغرس النخلة. لقد استغنى عن أبيه وبنى لنفسه بيتا يؤويه مع عائلته وصار ثريا يعد المالك مثل أي تاجر،يجلس في السوق منتصبا تملأه الثقة أمام كوم الذرة، يكيل منه للمشترين وينتهر زملاءه غير هياب ولا مكترث. وصار يلبس النظيف ويأكل الطيب، وينام على الفراش اللين ويتدثر في برد الشتاء ببطانية ثقيلة من الصوف انفق فيها جنيهين. وحينما كان الناس يتبرعون في الأعراس بخمسة قروش كان هو يتبرع بعشرة، وبزجاجة مليئة بسمن الضأن النقي،وكيلة من أجود أنواع التمر(القنديل) حتى يلقب بالظريف بعد أن كان يلقب بالغبي.ولولا تعلقه بزوجته لتزوج بنتا بكرا يتهافت عليها خيرة شباب البلدة.كل هذا عفا على أثار الزمن. لقد مات الزرع، ويبس الضرع، وعم القحط فاغرق الرخاء، وحبا الشيب فطفى على الشباب، وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخرا موارى، يسقي الأرض ويخرج ما في بطنها من الخير، فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار، أتراها الخزانات التي أقاموها عليه فحجزت الماء؟أم تراها نبوءة الشيخ ود دوليب تحققت؟ لقد أنذر الناس في يوم من الأيام انه سيأتي عليهم يوم، يصير فيه اللبن كثير تافه مثل الماء، وتصير كيلة الذرة بقرشين ويصبح تمن النعجة ريالين. ولكن الناس كدأبهم أبدا سيضيقون بهذا الخير، وسينهمكون في الغي وينسون الله؟ فيأخذهم الله في ذنوبهم. وفكر شيخ محجوب برهة، وحدث نفسه بأنه لم يرتكب كثيرا من المعاصي. صحيح انه كان يشرب الخمر أحيانا ويرقص في الأعراس ويخالس الحسان النظر على غفلة من أم حسن. ولكنه لم يؤخر فرضا ولم يهتك عرضا ولم يفعل شيئا من هذه المعاصي التي يقول عليها فقهاء القرية أنها كبائر وتغضب الله. لابد انه الكبر الذي فت في عضده وأرخى من مفاصله فما عاد يحتمل لدغة البرد ولا قائظ الحر. ولم يكن حريصا على ما عنده من خير، فبدده أول بأول .وفي غمرة أتعابه ومرير شيخوخته هجره ابنه حسن، وهو أحوج ما يكون إلى ساعده الفتي. وهكذا ظل محجوب يكابد الفاقة وحده،فاستدان ورهن وباع. وليس عنده اليوم من مال الدنيا إلا بقرة واحدة وعنزتان وهذه النخلة التي ظل جاهدا استبقاءها.وقطع عليه ذكرياته نهيق حمار التاجر، وصوت صاحب الحمار وهو يقول له: يا رجل ساكت زي الأبله مالك؟ ما تدينا كلمة واحدة خلينا نمشي؟ وكان رمضان قد جاء من طرف الساقية، وقال لمحجوب ان عشرين جنيها ثمن معقول، خاصة وهو أحوج ما يكون إلى المال. وفكر الرجل برهة مترددا بين الرفض والقبول. عشرون جنيها يقدر ان يحل منها دينه،ويشتري ضحية العيد، ويكسوا نفسه واهل بيته. ولكن ريحا قوية هبت تتلاعب بجريد النخلة، فاخذ يوشوش ويتعارك ويتلاطم كغريق يطلب النجاة. وبدت النخلة لمحجوب في وقفتها تلك رائعة وأجمل من أي شيء في الوجود. وهفا قلبه لابنه في مصر. ترى هل يحن لنداء الرحم؟ هل تؤثر في قلبه الدعوات التي أرسلها محجوب في هجأة الليل، وأحس الرجل بفيض من الأمل يملا كيانه ويطغى على إحساسه، وترقرق في عينيه دمع حبسه جاهدا، وتمتم(يفتح الله. أنا تمرتي ما ببيعها). وردد الرجل في نفسه (يفتح الله)، وقاده ذلك إلىال تفكير في سورة الفتح من القرآن الكريم- (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) –الفاتحة- الفرج،.وأحس لأول مرة بان في كلمة (يفتح الله)شيئا اكتر من كلمة تنهي بها المبايعة،وتقفل الباب في وجه من يريد الشراء. إنها مفتاح لمن أعسره الضيق وأمضاه البؤس واثقلت كاهله أعباء الحياة. وما كان أحوج محجوب إلى الفتح والفرج حينئذ وجذب التاجر عنان حماره في صلف، ثم همز بطن الحمار بكعب رجله، وقال في صوت بارد كوقعة الصوت_يفتح الله، يفتح الله،باكر تجي تدور الدين وقبل أن يغادر أبصر محجوب ابنته الصغيرة تهرول نحوه مضطربة فرحة. فتحرك في قلبه أمل بدأ عسيرا مستحيل أبعده عنه. ولم ينتظرالطفلة ريثما تصل، بل أسرع نحوها يسألها عن الخبر شنو، مالك؟( وحاولت الصبية أن تفض إليه النبأ بصوت متكسر الثغ الناس..دالو ودست البنات من مسر..... وداب لنا معاه دواب من حسن اخوي) جواب من حسن وانطلق الرجل كالمجنون لا يفكر ولا يعي بنبض قلبه معربدا- بين جنبيه. يطغى الأمل بين حناياه مرة على اليأس تارة فيغرق الأمل. وابنته الصغيرة تمسك بطرف ثوبه المتسخ، وتسرع جاهدة لكي تمشي معه، وهي أثناء ذلك تتباكى محتجة على خطوات أبيها المسرعة. وفي بيت _ناس ست البنات) انتظرمحجوب بين صفوف المستقبلين. في غمرة اضطرابه ولم يفت عينه المستطلعة رجال يعرفهم جاؤوا يسألون عن أبنائهم وأقاربهم ونسوة يعرفهن جئن يسألن عن أزواجهن وأبنائهن،كلهم آمال مثل أماله، تجاذب اليأس ويغالبها اليأس. ولم تخطئ عينيه الشاب الذي عاد من مصر، ودست البنات يرتدي ملابس نضيفه ككل عائد من السفر ، ويتكلم لهجة غريبة على شيخ محجوب، بادي الثقة بادي الكبرياء. وأخيرا لمح الشاب شيخ محجوب بين المستقبلين فدلف نحوه مبتسما. وشعر الرجل بالضيق والحرج. إذ تحولت كل الأبصار نحوه. ولم يعي شيخ محجوب من كلامه يحدثه إلا(حسن مبسوط – قال له تعفي عني.ارسل له ثلاثين جنيه وطرد ملابس) وفي الطريق إلى بيته تحسس الرجل رزمة المال التي صرها جيدا في طرف ثوبه، تم غرس أصابعه في الطرد السمين تحت إبطه ، وانحدر طرفه في عل إلى غابة النخل الكثيفة،ممشوقة متغطرسة جميلة تتلاعب بجريدها نسمات الشمال وخيل إليه أن سعف النخلة يرتجف مسبحا: (يفتح الله ، يفتح الله) "نخلة على الجدول"
ESLAM BANDI
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الجمعة 29 مارس 2013 - 16:36
نريد المزيد
عاطف اسماعيل
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الجمعة 29 مارس 2013 - 18:53
يا منعم كتر خيرك على إتحفنا بحكى أديبنا القامة الطيب صالح.
عاطف اسماعيل
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الجمعة 29 مارس 2013 - 18:55
عاطف اسماعيل
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الجمعة 29 مارس 2013 - 18:57
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح السبت 30 مارس 2013 - 16:33
لابدّ إنني كنت صغيراً جداً حينذاك. لست أذكر كم كان عمري تماماً، ولكنني أذكر أن الناس حين كانوا يرونني مع جدي كانوا يربتون على رأسي، ويقرصونني في خدي، ولم يكونوا يفعلون ذلك مع جدي. العجيب أنني لم أكن أخرج أبداً مع أبي، ولكن جدي كان يأخذني معه حيثما ذهب، إلا في الصباح حين كنت أذهب إلى المسجد، لحفظ القرآن. المسجد والنهر والحقل، هذه كانت معالم حياتنا. أغلب أندادي كانوا يتبرمون بالمسجد وحفظ القرآن ولكنني كنت أحب الذهاب إلى المسجد. لابد أن السبب أنني كنت سريع الحفظ، وكان الشيخ يطلب مني دائماً أن أقف وأقرأ سورة الرحمن، كلما جاءنا زائر. وكان الزوار يربتون على خدي ورأسي، تماماً كما كانوا يفعلون حين يرونني مع جدي. نعم كنت أحب المسجد. وكنت أيضاً أحب النهر. حالما نفرغ من قراءتنا وقت الضحى، كنت أرمي لوحي الخشبي، وأجري كالجن إلى أمي، والتهم إفطاري بسرعة شديدة واجري إلى النهر وأغمس نفسي فيه. وحين أكلُّ من السباحة، كنت أجلس على الحافة وأتأمل الشاطئ الذي ينحني في الشرق ويختبئ وراء غابة كثيفة من شجر الطلح. كنت أحب ذلك. كنت أسرح بخيالي وأتصور قبيلة من العمالقة يعيشون وراء تلك الغابة … قوم طوال فحال لهم لحى بيضاء وأنوف حادة مثل أنف جدي. أنف جدي كان كبيراً حاداً. قبل أن يجيب جدي على أسئلتي الكثيرة، كان دائماً يحك طرف أنفه بسبابته. ولحية جدي كانت غزيرة ناعمة بيضاء كالقطن. لم أرَ في حياتي بياضاً أنصع ولا أجمل من بياض لحية جدي. ولابد أن جدي كان فارع الطول، إذ أنني لم أرَ أحداً في سائر البلد يكلم جدي إلا وهو يتطلع إليه من أسفل، ولم أرَ جدي يدخل بيتاً إلا وكان ينحني انحناءة كبيرة تذكرني بانحناء النهر وراء غابة الطلح. كان جدي طويلاً ونحيلاً وكنت أحبه وأتخيل نفسي، حين استوي رجلاً أذرع الأرض مثله في خطوات واسعة. وأظن جدي كان يؤثرني دون بقية أحفاده. ولست ألومه، فأولاد أعمامي كانوا أغبياء وكنت أنا طفلاً ذكياً. هكذا قالوا لي. كنت أعرف متى يريدني جدي أن أضحك ومتى يريدني أن اسكت، وكنت أتذكر مواعيد صلاته، فاحضر له (المصلاة) وأملأ له الإبريق قبل أن يطلب ذلك مني. كان يلذ له في ساعات راحته أن يستمع إليّ أقرأ له من القرآن بصوت منغم، وكنت أعرف من وجه جدي أنه أيضاً كان يطرب له. سألته ذات يوم عن جارنا مسعود. قلت لجدي: (أظنك لا تحب جارنا مسعود؟) فأجاب بعد أن حك طرف أنفه بسبابته: (لأنه رجل خامل وأنا لا أحب الرجل الخامل). قلت له: (وما الرجل الخامل؟) فأطرق جدي برهة ثم قال لي: (انظر إلى هذا الحقل الواسع. ألا تراه يمتد من طرف الصحراء إلى حافة النيل مائة فدان؟ هذا النخل الكثير هل تراه؟ وهذا الشجر؟ سنط وطلح وسيال. كل هذا كان حلالاً بارداً لمسعود، ورثه عن أبيه). وانتهزت الصمت الذي نزل على جدي، فحولت نظري عن لحيته وأدرته في الأرض الواسعة التي حددها لي بكلماته. (لست أبالي مَن يملك هذا النخل ولا ذلك الشجر ولا هذه الأرض السوداء المشققة. كل ما أعرفه أنها مسرح أحلامي ومرتع ساعات فراغي). بدأ جدي يواصل الحديث: (نعم يا بنيّ. كانت كلها قبل أربعين عاماً ملكاً لمسعود. ثلثاها الآن لي أنا). كانت هذه حقيقة مثيرة بالنسبة لي، فقد كنت أحسب الأرض ملكاً لجدي منذ خلق الله الأرض. (ولم أكن أملك فداناً واحداً حين وطئت قدماي هذا البلد. وكان مسعود يملك كل هذا الخير. ولكن الحال انقلب الآن، وأظنني قبل أن يتوفاني الله سأشتري الثلث الباقي أيضاً). لست أدري لماذا أحسست بخوف من كلمات جدي. وشعرت بالعطف على جارنا مسعود. ليت جدي لا يفعل! وتذكرت غناء مسعود وصوته الجميل وضحكته القوية التي تشبه صوت الماء المدلوق. جدي لم يكن يضحك أبداً. وسألت جدي لماذا باع مسعود أرضه؟ (النساء). وشعرت من نطق جدي للكلمة أن (النساء) شيء فظيع. (مسعود يا بنيَّ رجل مزواج كل مرة تزوج امرأة باع لي فدناً أو فدانين). وبسرعة حسبت في ذهني أن مسعود لابد أن تزوج تسعين امرأة، وتذكرت زوجاته الثلاث وحاله المبهدل وحمارته العرجاء وسرجه المكسور وجلبابه الممزق الأيدي. وكدت أتخلص من الذكرى التي جاشت في خاطري، لولا أنني رأيت الرجل قادماً نحونا، فنظرت إلى جدي ونظر إليّ. وقال مسعود: ((سنحصد التمر اليوم، ألا تريد أن تحضر؟)) وأحسست أنه لا يريد جدي أن يحضر بالفعل. ولكن جدي هب واقفاً، ورأيت عينه تلمع برهة ببريق شديد، وشدني من يدي وذهبنا إلى حصاد تمر مسعود. وجاء أحد لجدي بمقعد عليه فروة ثور. جلس جدي وظللت أنا واقفاً. كانوا خلقاً كثيراً. كنت أعرفهم كلهم، ولكنني لسبب ما أخذت أراقب مسعوداً. كان واقفاً بعيداً عن ذلك الحشد كأن الأمر لا يعنيه، مع أن النخيل الذي يحصد كان نخله هو، وأحياناً يلفت نظره صوت سبيطة ضخمة من التمر وهي تهوي من علٍ. ومرة صاح بالصبي الذي استوى فوق قمة النخلة، وأخذ يقطع السبيط بمنجله الطويل الحاد: "حاذر لا تقطع قلب النخلة". ولم ينتبه أحد لما قال، واستمر الصبي الجالس فوق قمة النخلة يعمل منجله في العرجون بسرعة ونشاط، وأخذ السبيط يهوي كشيء ينزل من السماء. ولكنني أنا أخذت أفكر في قول مسعود: "قلب النخلة" وتصورت النخلة شيئاً يحس له قلب ينبض. وتذكرت قول مسعود لي مرة حين رآني أعبث بجريد نخلة صغيرة: "النخل يا بنيّ كالآدميين يفرح ويتألم". وشعرت بحياء داخلي لم أجد له سبباً. ولما نظرت مرة أخرى إلى الساحة الممتدة أمامي رأيت رفاقي الأطفال يموجون كالنمل تحت جذوع النخل يجمعون التمر ويأكلون أكثره. واجتمع التمر أكواماً عالية. ثم رأيت قوماً أقبلوا وأخذوا يكيلونه بمكاييل ويصبونه في أكياس. وعددت منها ثلاثين كيساً. وانفض الجمع عدا حسين التاجر وموسى صاحب الحقل المجاور لحقلنا من الشرق، ورجلين غريبين لم أرَهما من قبل. وسمعت صفيراً خافتاً، فالتفت فإذا جدي قد نام، ونظرت فإذا مسعود لم يغير وقفته ولكنه وضع عوداً من القصب في فمه وأخذ يمضغه مثل شخص شبع من الأكل وبقيت في فمه لقمة واحدة لا يدري ماذا يفعل بها. وفجأة استيقظ جدي وهب واقفاً ومشى نحو أكياس التمر وتبعه حسين التاجر وموسى صاحب الحقل المجاور لحقلنا والرجلان الغريبان. وسرت أنا وراء جدي ونظرت إلى مسعود فرأيته يدلف نحونا ببطء شديد كرجل يريد أن يرجع ولكن قدميه تزيد أن تسير إلى أمام. وتحلقوا كلهم حول أكياس التمر وأخذوا يفحصونه وبعضهم أخذ منه حبة أو حبتين فأكلها. وأعطاني جدي قبضة من التمر فأخذت أمضغه. ورأيت مسعوداً يملأ راحته من التمر ويقربه من أنفه ويشمه طويلاً ثم يعيده إلى مكانه. ورأيتهم يتقاسمونه. حسين التاجر أخذ عشرة أكياس، والرجلان الغريبان كل منهما أخذ خمسة أكياس. وموسى صاحب الحقل المجاور لحقلنا من ناحية الشرق أخذ خمسة أكياس، وجدي أخذ خمسة أكياس. ولم أفهم شيئاً. ونظرت إلى مسعود فرأيته زائغ العينين تجري عيناه شمالاً ويميناً كأنهما فأران صغيران تاها عن جحرهما. وقال جدي لمسعود: ما زلت مديناً لي بخمسين جنيها نتحدث عنها فيما بعد، ونادى حسين صبيانه فجاؤوا بالحمير، والرجلان الغريبان جاءا بخمسة جمال. ووضعت أكياس التمر على الحمير والجمال. ونهق أحد الحمير وأخذ الجمل يرغي ويصيح. وشعرت بنفسي أقترب من مسعود. وشعرت بيدي تمتد إليه كأني أردت أن ألمس طرف ثوبه. وسمعته يحدث صوتاً في حلقه مثل شخير الحمل حين يذبح. ولست أدري السبب، ولكنني أحسست بألم حاد في صدري. وعدوت مبتعداً. وشعرت أنني أكره جدي في تلك اللحظة. وأسرعت العدو كأنني أحمل في داخل صدري سراً أود أن أتخلص منه. ووصلت إلى حافة النهر قريباً من منحناه وراء غابة الطلح. ولست أعرف السبب، ولكنني أدخلت إصبعي في حلقي وتقيأت التمر الذي أكلت. "حفنة تمر"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الأحد 31 مارس 2013 - 9:10
عزيزتي إيلين الآن انتهيت من فض حقائبي. أنت عظيمة ولست أدري ماذا أفعل بدونك. كل شيء يلزمني وضعتِهِ في الحقائب. تسعة قمصان ((فان هوسن)) ثلاثة منها لا تحتاج للكيّ. ((أغسلها ونشفها والبسها)). وأنت تعلمين أنني لن أفعل شيئاً من هذا القبيل. ربطة العنق التي اشتريتها لي في العام الماضي في بوند ستريت، وجدتها مع خمس كرافتات أخرى. ((خمس كرافتات تكفيك. أنت لن تخرج كثيراً ولن يدعوك أحد لحفلة. وإذا دعيت فلا تذهب)). كم أحببتك لأنك لم تنسي أن تضعي في حقائبي هذه الربطة ... ربطة عنق قرمزية اللون، واحدة من ملايين الأشياء الصغيرة التي تشد قلبي إليك ... في مثل هذا الوقت من العام الماضي، بعد ثمانية أشهر من معرفتي إياكِ، في القطار الذي يسير تحت الأرض، الساعة السادسة والناس مزدحمون، ونحن واقفان وأنت متكئة عليّ، فجأة قلت لك: ((إنني أحبك. أريد أن أتزوجك)). احمرّ خداك والتفت الناس إلينا. طيلة ثمانية أشهر عرفتك فيها لم أقل لك أنني أحبك. كنت أتهرب وأداري وأزوغ. ثم فجأة وسط الزحام، في الساعة السادسة مساء، حين يعود الناس التعبين مرهقين إلى بيوتهم بعد عمل شاق طيلة اليوم، فجأة خرجت الكلمة المحرمة من فمي وكأنني محموم يهذي. لا أعلم أي شيطان حرّك لساني، أي ثائر أثارني، ولكنني شعرت بسعادة عظيمة، في تلك الساعة، في ذلك الجو الخانق، بين تلك الوجوه الكالحة المكدودة التي اختفت وراء صحف المساء. ولما خرجنا ضغطت على يدي بشدة، ورأيت في عينيك طيفاً من دموع، وقلت لي: ((إنك مهووس. أنت أهوس رجل على وجه البسيطة. ولكنني أحبك. إذا رأيت أن تتزوجني فأنت وشأنك)). ثمانية أشهر وأنا أتهرب وأحاور وأحاضر. أحاضرك في الفوارق التي تفرقنا. الدين والبلد والجنس. أنت من ابردين في سكتلندا وأنا من الخرطوم. أنت مسيحية وأنا مسلم. أنت صغيرة مرحة متفائلة، وأنا قلبي فيه جروح بعدُ لم تندمل. أي شيء حببني فيك؟ أنت شقراء زرقاء العينين ممتثلة الجسم، تحبين السباحة ولعب التنس، وأنا طول عمري أحن إلى فتاة سمراء، واسعة العيون، سوداء الشعر، شرقية السمات، هادئات الحركة. أي شيء حبَّبك فيَّ، أنا الضائع الغريب، أحمل في قلبي هموم جيل بأسره؟ أنا المغرور القلق المتقلب المزاج؟ ((لا تتعب عقلك في تفسير كل شيء. أنت حصان هرم من بلد متأخر، وقد أراد القدر أن يصيبني بحبك. هذا كل ما في الأمر. تذكر قول شيكسبير. كيوبيد طفل عفريت. ومن عفرتته أنه أصاب قلبي بحب طامة كبيرة. مثلك)). وتضحكين، ويقع شعرك الذهبي على وجهك فتردينه بيدك، ثم تضحكين ضحكتك التي تحاكي رنين الفضة. وذهبنا إلى مطعم صيني واحتفلنا، وكنت نسيت أن اليوم هو يوم ميلادي. أنا لا أحفل بأمسي ولا بيومي وأنت تحفلين بكل شيء. أنت تذكرت، فأحضرت ربطة العنق القرمزية هذه. كم أحبك لأنك وضعتها بين متاعي. عزيزتي إيلين، هذه هي الليلة الأولى بدونك ... منذ عام. منذ عام كامل. ثلاثمائة وخمس وستون ليلة، وأنت تشاركينني فراشي، تنامين على ذراعي، تختلط أنفاسنا وعطر أجسادنا، تحلمين أحلامي، تقرأين أفكاري، تحضرين إفطاري، نستحم معاً في حمام واحد، نستعمل فرشاة أسنان واحدة، تقرأين الكتاب وتخبرينني بمحتواه فأكتفي بك فلا أقرأه. تزوجتني، تزوجت شرقاً مضطرباً على مفترق الطرق، تزوجت شمساً قاسية الشعاع، تزوجت فكراً فوضوي، وآمالاً ظمأى كصحارى قومي. الليلة الأولى عداك يا طفلة من ابردين ـ وضعتها الأقدار في طريقي. تبينتك وآخيتني. ((يا أختاه. يا أختاه)). البذلة الرمادية التي تؤثرينها ـ ((ثلاث بدل أكثر من الكفاية. رجل متزوج يقضي شهراً مع أهله لن يحفل بك أحد، ولن تهتم بك صبايا بلدك، ولا حاجة بك إلى هندمة نفسك والاعتناء بشكلك. ومهما يكن فإن شكلك لا تجدي معه هندمة. أذهب وعد إليّ سليماً: إذا ضحكت لك منهن فتاة فكشر في وجهها)). اطمئني قلت تضحك لي فتاة. أنا في حسابهن كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيداً عن منبتها. أنا في حسابهن تجارة كسدت. لكن ما أحلى الكساد معك. الليلة الأولى بدونك. وبعدها ليالٍ ثلاثون كمفازة ليس لها آخر. سأجلس على صخرة قبالة دارنا وأتحدث إليك. أنا واثق أنك تسمعينني. أنا واثق أن الرياح والكهرباء التي في الأثير والهواجس التي تهجس في الكون، سترهف آذانها، وستحمل حديثي إليك. موجات هوج من قلبي، تستقبلها محطة في قلبك. حين تنامي مدّي راعك حيث أضع رأسي على الوسادة، فإنني هناك معك. حين تستيقظين قولي ((صباح الخير)) فإنني سأسمع وأرد. أجل سأسمع. أنا الآن أسمع صوتك العذب الواضح تقولين لي: ((أسعد في عطلتك ولكن لا تسعد أكثر مما يجب. تذكر أنني هنا أتضوى وأنتظرك. ستكون مع أهلك فلا تنسَ إنك برحيلك ستتركني بلا أهل)). أتَمَّ الخطاب وثناه أربع ثنيات ووضعه في الغلاف، ثم كتب العنوان. ورفعه بين إصبعيه وتمعنه طويلاً في صمت كأن فيه سراً عظيماً. نادى أخاه الصغير وأمره بإلقائه في البريد. مرت بعد ذلك مدة لم يعرف حسابها، لعلها طالت أو قصرت، وهو جالس حيث هو لا يسمع ولا يرى شيئاً. وفجأة سمع ضحكة عالية تتناهى إليه من الجناح الشمالي في البيت. ضحكة أمه. واتضح لأذنيه اللغط، لغط النساء اللائي جئن يهنئن أمه بوصوله سالماً من البلد البعيد. كلهن قريباته. فيهن العمة والخالة وابنة العم وابنة الخالة. وظل كذلك برهة. ثم جاء أبوه ومعه حشد من الرجال. كلهم أقرباؤه. سلموا عليه وجلسوا. جيء بالقهوة والشاي وعصير البرتقال وعصير الليمون. شيء يشبه الاحتفال. سألوه أسئلة رد عليها، ثم بدأوا في حديثهم الذي ظلوا يتحدثونه طول حياتهم. وشعر في قلبه بالامتنان لهم أنهم تركوه وشأنه. وفجأة تضخمت في ذهنه فكرة ارتاع لها. هؤلاء القوم قومه. قبيلة ضخمة هو فرد منها. ومع ذلك فهم غرباء عنه. هو غريب بينهم. قبل أعوام كان خلية حيّة في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلف فراغاً لا يمتلئ حتى يعود. وحين يعود يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله بقية أهله بلا كلفة طوال الأيام التي غابها. أما الآن .. أبوه احتضنه بقوة وأمه ذرفت الدموع وبقية أهله بالغوا في الترحيب به. هذه المبالغة هي التي أزعجته. كأن إحساسهم الطبيعي قد فتر فدعموه بالمبالغة. ((طويل الجرح يغري بالتناسي)). وسمع صوت إيلين واضحاً عذباً تقول له وهي تودعه: ((أرجو من كل قلبي أن تجد أهلك كما تركتهم، لم يتغيروا. أهم من ذلك من أن تكون أنت لم تتغير نحوهم)). آه منك يا زمان النزوح
"رسالة إلى إيلين"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الإثنين 1 أبريل 2013 - 10:57
لو جئت بلدنا سائحا فأغلب الظن يا بني أنك لن تمكث فيها طويلا . تجيئنا شتاء ، وقت لقاح النخيل ، فترى سحابة داكنة ربضت على البلدة ، ليس هذا يا بني غبارا ، ولا هو بالضباب الذي يثور بعد وقوع المطر ، هذا سرب واحد من أسراب " النمتي " التي تربط على الداخلين إلينا أفواه الطرق . لعلك رأيت هذه الآفة من قبل . لكن هذا النوع منها أحلف أنك ما رأيته قط . هاك يا بني هذه الشبكة من التل فضعها على رأسك وإنها لن تقيك هذه الشياطين ، ولكنها تقويك على احتمالهم . أذكر صاحبا لابني يزامله في المدرسة ، استضافه عندنا قبل عام ، في مثل هذا الوقت ، أهله من البندر. بات عندنا ليلة وأصبح متورم الوجه محموما مزكوما وحلف لا يبيت ليلة أخرى عندنا . وتجيئنا صيفا فتجد عندنا ذباب البقر ، ذباب كحملان الخريف ، كما نقول بلهجتنا . وهذا البلاء أهون عليك " النمتي " ألف مرة . إنه يا بني ذباب متمرس يعض ويلسع ويطن ويزن ، وعنده حب عظيم لبني آدم ، إذا شم رائحتهم لازمهم ملازمة. هش عنك يابني – قاتل الله " النمتي " . وتجيئنا في وقت ليس صيفا ولا شتاء فلا تجد شيئا . أنت ولا شك يا بني تقرأ الجرائد كل يوم ، وتسمع الإذاعات وتزور السنما مرة أو مرتين في الأسبوع ، وإذا مرضت فمن حقك أن تعالج في المستشفى وإذا كان لك ابن فمن حقه أن يتعلم في المدرسة . أنا أعرف يا بني أنك تكره الطرقات المظلمة وتحب أن ترى ضوء الكهرباء يتوهج ليلا. وأنت لست شغوفا بالمشي ، وركوب الحمير يحدث ندوبا في مقعدك . يا ليت يا بني يا ليت .. الطرقات المرصوفة في المدن ، المواصلات الحديثة ، العربات الجميلة المريحة .. ليس عندنا من كل هذا شيء .. نحن قوم نعيش على الستر . سترحل عن بلدنا غدا ، وأنا واثق من ذلك ، وحسنا تفعل ، مالك ولهذا العناء .. نحن قوم جلودنا ثخينة ، ليست كجلود الناس . لقد اعتدنا هذه الحياة الخشنة ، بل نحن في الواقع نحبها ، لكننا لا نطلب من أحد أن يجشم نفسه مشقة الحياة عندنا .. سترحل في غد يا بني .. إنني أعلم ذلك . ولكن قبل أن ترحل دعني أريك شيئا واحدا .. قل إننا نعتز به .. عندكم في المدن المتاحف .. أماكن تحفظ تاريخ القطر والأجيال السالفة . هذا الذي أحب أن أريكه .. قل إنه متحف نصر أن يراه زوارنا . مرة جاءنا واعظ أرسلته إلينا الحكومة ليقيم عندنا شهرا . وحل علينا في موسم لم ير ذباب البقر اسمن منه في ذلك الموسم . تورم وجه الرجل في اليوم الأول ، وتصبر وصلى بنا صلاة العشاء في الليلة الثانية ، وحدثنا بعد الصلاة عن مباهج الحياة في الفطرة . وفي اليوم الثالث أصابته حمى الملاريا ، وأصابته الدسنتاريا وانسدت عيناه تماما . زرته في عصر ذلك اليوم فوجدته طريح الفراش . يقف على رأسه غلام يهش الذباب ، قلت له (( يا شيخ ، ليس في بلدنا شئ نريكه ، ولكنني أحب أن ترى دومة ود حامد )) . لم يسألني ما دومة ودحامد ، وإن كنت أرجح أنه سمع بأمرها . فمن ذا الذي لم يسمع بها ؟ ولكنه رفع إلي وجهه كأنه رئة بقرة ذبيح ، وكانت عيناه كما قلت لك مغلقتين ، ولكنني كنت اعلم أن وراء اهدابهما مرارة ، وقال لي : (( والله لو كانت دومتكم هذه دومة الجندل ، وكنتم المسلمين تقاتلون مع علي ومعاوية ، وكنت أنا حكما بينكم في يدي هاتين مصائركم ما تحركت من مكاني هذا شبر )) . وبصق على الأرض كأنه يشتمني وأشاح عني بوجهه . وسمعنا بعدها أن الشيخ أرسل برقية إلى مرسليه يقول لهم فيها : (( ذباب البقر أكل رقبتي ، والملاريا خرقت جلدي ، والدسنتاريا غرست أسنانها في أحشائي . أقيلوا عثرتي يرحمكم الله .. هؤلاء قوم لا حاجة لهم بي ولا بوعظ غيري )) . ورحل الرجل ولم ترسل لنا الحكومة واعظا بعده . لكن قريتنا يا بني شهدت والله رجالا كبارا ذوي حول وطول وأسماء في البلد مثل الطبول ، وما ظننا يوما مجرد ظن أنهم سيأتون إلى هنا – جاءوا والله أفواجا أفواجا . ها قد وصلنا .. تصبر يا بني – ما هي إلا ساعة وتهب نسمة العصر فتخفف من تكالب هذه الآفة على وجهك . ها هي ذي دومة ودحامد .. أنظر إليها شامخة برأسها إلى السماء .. أنظر إليها ضاربة بعروقها في الأرض .. أنظر إلى جذعها المكتنز الممتلئ كقامة المرأة البدينة ، وإلى الجريد في أعلاها كأنه عرف المهرة الجامحة . حين تميل الشمس وقت العصر ، ترسل الدومة ظلها في هذه الربوة العالية عبر النهر ، ويستظل به الجالس على الضفة الأخرى . وحين تصعد الشمس وقت الضحى ، يمتد ظل الدومة فوق الأرض المزروعة والبيوت حتى يصل إلى المقبرة . أتراها عقابا خرافيا باسطا على البلد بكل ما فيها ؟ قررت الحكومة مرة قطعها عندما أرادوا أن ينظموا مشروعا زراعيا ، وقالوا إن موضع الدومة هذا هو خير موضع لإقامة مكنة الماء . أهل بلدنا كم تراعم منصرفون كل إلى هم يومه ، ولا أذكر أنهم ثاروا على شيء قط ، ولكنهم لما سمعوا بأمر قطع الدومة ، هبوا على آخرهم هبة رجل ، وسدوا على مفتش المركز السبل . كان ذلك في عهد الحكم الأجنبي . أعانهم الذباب أيضا ذباب البقر . وعلا اللقط من حول الرجل يقولون له إذا قطعتم الدومة فإننا سنحارب الحكومة حتى نموت عن آخرنا . وفعل الذباب فعله في وجه الرجل . فتشت أوراقه في الماء وسمعناه يصيح (( خلاص .. في دومة مافيش مشروع )) . ولم تأت مكنة ماء ولم يأت مشروع . ولكن بقيت لنا دومتنا . "دومة ودحامد"
أحمد سركيس
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الإثنين 1 أبريل 2013 - 13:06
من المشاهد الروائية بموسم الهجرة، مشهد ينضح شعرا وسحرا، مشهد يلتقي فيه ويتقاطع الوعي بالعقل الباطن، والحلم بالواقع، مشهد كلما قرأته انتابني احساس لا أدري كيف أصفه، من شدة تأثري به، هل هو احساس بالرهبة إلى درجة القشعريرة، أم حالة من الطرب أشبه بالجذب. هذا المشهد هو الذي ورد بالفصل الثالث بالرواية في قول الراوي: ".. حين خرجتُ من بيت مصطفى سعيد في تلك الليلة، كان القمر المحاق ارتفع مقدار قامة الرجل في الأفق الشرقي، وإنني قلت في نفسي أن القمر مقلم الأظافر. لا أدري لماذا خُيّل ليّ أن القمر مقلم الأظافر؟"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الإثنين 1 أبريل 2013 - 18:05
هيا يا بني إلى البيت فليس هذا وقت الحديث خارج البيوت .. هذا الوقت قبل المغيب بقليل ،، وقت يتسع فيه نشاط جيش " النمتي " قبل أن ينام . وفي هذا الوقت لايقوى على لسعه إلا من عاشره عشرة طويلة وثخن جلده مثلنا . أنظر إليها يا بني – إلى الدومة – شامخة آنفة متكبرة ، كأنها صنم قديم . أينما كنت في هذه البلدة تراها .. بل أنك لتراها وأنت راجع بلدنا من هنا. سترحل عن بلدنا غدا ، ما في ذلك شك .. هذي آثار الجولة الصغيرة التي قمنا بها بادية على وجهك ورقبتك ويديك أيضا . لكن قبل أن ترحل سأتم لك قصة الدومة ، دومة ود حامد تفضل يا بني .. البيت بيتك .. تقول من زرع الدومة ؟ ما من أحد زرعها يا بني .. وهل الأرض التي نبتت فيها أرض زراعية ؟ ألم تر أنها حجرية مسطحة مرتفعة إرتفاعا بينا على ضفة النهر ، كأنها قاعدة تمثال ، والنهر يتلوى تحتها كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة .. لا يا بني ، ما من أحد زرعها .. اشرب الشاي يا بني .. فأنت محتاج إليه بعد المحنة التي تعرضت لها .. أغلب الظن أنها نمت وحدها .. ولكن ما من أحد يذكر أنه رآها على غير حالتها .. التي رأيتها عليها الآن . أبناؤنا فتحوا أعينهم فوجدوها تشرف علي البلد . ونحن حين ترتد بنا ذكريات الطفولة إلى الوراء ، إلى ذلك الحد الفاصل الذي لا نذكر بعده شيئا ، نجد دومة عملاقة تقف على شط عقولنا ، كل ما بعده طلاسم ، فكأنها الحد بين الليل والنهار. كأنها ذلك الضوء الباهت الذي ليس بالفجر ولكنه يسبق طلوع الفجر . أتراك يا بني تتابع ما أقول ؟ هل تلمس هذا الشعور الذي أحسه في ذهني ولا أقوى على التعبير عنه ؟ كل جيل يجد الدومة كأنها ولدت مع مولده ونمت معه – أجلس إلى أهل هذه البلد واستمع إليهم يقصون أحلامهم ، يصحو الرجل من نومه فيقص على جاره أنه رأى نفسه في أرض رملية واسعة رملها أبيض كلجين الفضة .. مشى فيها فكانت رجلاه تغوصان فيقتلعهما بصعوبة . ومشى ومشى حتى لحقه الظمأ وبلغ منه الجوع ، والرمل لا ينتهي عند حد . ثم صعد تلا ، فلما بلغ قمته رأى غابة كثة من الدوم في وسطها دومة – دومة طويلة ، بقية الدوم بالنسبة إليها كقطيع الماعز بينهن بعير . وانحدر الرجل من التل وبعدها وجد كأن الأرض تطوى به . فما هي إلا خطوة وخطوة وخطوة ، حتى وجد نفسه تحت دومة ودحامد .. ووجد إنا فيه لبن رغوته معقودة عليه كأنه حلب لساعته ، فشرب منه حتى ارتوى ولم ينقص منه شيء . فيقول له (( أبشر بالفرج بعد الشدة )). وتسمع المرأة منهن تحكي لصاحبتها (( كأنني في موكب سائر في مضيق في البحر ، فإذا مددت يدي مسست الشاطئ من كلا الجانبين .. وكنت أرى نفسي على قمة موجة هوجاء تحملني حتى أكاد أمس السحاب ، ثم تهوي بي في قاع سحيق مظلم ، فخفت وأخذت أصرخ وكأن صوتي قد أنحبس في حلقي . وفجاة وجدت مجرى النيل يتسع قليلا .. ونظرت فإذا على الشاطئين شجر أسود خال من الورق له شوك ذو رؤوس كأنها رؤوس الصقور . ورأيت الشاطئين ينسدان علي وهذا الشجر كأنه يمشي نحوي ، فتملكني الذعر ، وصحت بأعلى صوتي (( يا ود حامد )) ونظرت فإذا رجل صبوح الوجه له لحية بيضاء غزيرة قد غطت صدره ، رداؤه أبيض ناصع ، وفي يده سبحة من الكهرمان . فوضع يده على جبهتي قائلا (( لا تخافي )) فهدأ روعي . ونظرت فإذا الشاطئ متسع والماء يسيل هادئا ونظرت إلى يميني ، فإذا حقول قمح ناضجة ، وسواقٍ دائرة وبقر ترعى ، ورأيت على الشاطئ دومة ود حامد . ووقف القارب تحت الدومة . وخرج منه الرجل قبلي .. فربط القارب ومد لي يده فأخرجني .. ثم ضربني برفق على كتفي والتقط من الأرض دومة وضعها في يدي ، والتفت إليه فلم أجده ، وتقول لها صاحبتها (( هذا ود حامد .. تمرضين مرضا تشرفين منه على الموت ، لكنك تشفين منه . تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة )) . وهكذا يا بني .. ما من رجل أو إمرأة ، طفل أو شيخ ، يحلم في ليلة إلا ويرى دومة ود حامد في موضع من حلمه . تسألني لم سميت بدومة ود حامد ؟ صبرا يا بني .. هاك كوبا آخر من الشاي "دومة ود حامد"
عبدالمنعم ترتورة
موضوع: رد: عندما يحكي الطيب صالح الثلاثاء 2 أبريل 2013 - 2:14
في أول العهد الوطني جاءنا موظف في الحكومة وقال لنا إن الحكومة تنوي أن تنشئ محطة تقف عندها الباخرة . وقال لنا إن الحكومة الوطنية تحب أن تساعدنا وتطورنا ، وكان متحمسا يتحدث ووجهه متهلل . ونظر فإذا الوجوه التي حوله لا تستجيب لشيء مما يقول – نحن يا بني لا نسافر كثيرا . ولكننا إذا أردنا السفر لأمر هام – كتسجيل أرض ، أو النظر في قضية طلاق ، فإننا نركب حميرنا ضحى كاملة .. ثم نأخذ الباخرة من المحطة في البلدة المجاورة .. لقد اعتدنا يا بني على ذلك ، بل نحن من أجل هذا نريد الحمير . فلا غرو أن الموظف لم يجد على وجوه القوم ما يدل أنهم سعدوا للنبأ . وفتر حماس الموظف واسقط في يده ، وتلعثم في كلامه . وبعد فترة من الصمت سأله أحدهم : (( أين تكون المحطة ؟ )) وقال الموظف : إنه لا يوجد غير مكان واحد يصلح للمحطة – عند الدومة – ولو أنك في تلك اللحظة جئت بإمرأة وأوقفتها عارية كما ولدتها أمها وسط أولئك الرجال ، لما أثرت دهشتهم أكثر مما فعلت تلك الجملة – سارع أحدهم وقال للموظف : الباخرة تمر عادة هنا يوم الأربعاء . فإذا عملتم محطة هنا فإنها ستقف عندنا عصر الأربعاء ، فقال الموظف إن الموعد الذي سيحدد لوقوف الباخرة في محطتهم سيكون في الرابعة بعد الظهر من يوم الأربعاء - فرد عليه الرجل : (( لكن هذا هو الوقت الذي نزور فيه ضريح ود حامد عند الدومة . ونأخذ نساءنا وأطفالنا ، ونذبح نذورنا ، نفعل ذلك كل أسبوع )) . فرد الموظف ضاحكا : (( إذا غيروا يوم الزيارة )) . ولو أن ذلك الموظف قال لأولئك الرجال في تلك اللحظة إن كلا منهم ابن حرام لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك . فهبوا لتوهم هبة رجل واحد ، وعصفوا بالرجل وكادوا يفتكون به ، لولا أني تدخلت فانتزعته من براثنهم ، وأركبته حمارا وقلت له انج بنفسك . وهكذا ظلت الباخرة لا تقف عندنا . وما نزال إذ اضطرنا الأمر وأردنا السفر ، نركب حميرنا ضحى كاملا ونأخذ الباخرة من البلد المجاوة ، لكن حسبنا أننا نزور ضريح ود حامد ومعنا نساؤنا وأطفالنا ، نذبح نذورنا كل يوم أربعاء ، كما فعل آباؤنا وآباء آبائنا من قبل . أمهلني يا بني ريثما أصلي صلاة المغرب .. يقولون أن المغرب غريب إذا لم تدركه في وقته فاتك .. (( عباد الله الصالحين .. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .. السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله )). وي .وي . هذا الظهر يوجعني منذ أسبوع . ماذا تظنه يا بني ؟ ولكنني أعرف أنه الكبر .. ألا ليت الشباب .. كنت في شبابي آكل نصف الخروف في إفطاري ، وأتعشى بلبن خمسة بقرات ، وأرفع كيس البلح بيد واحدة ، وكذاب من قال إنه صارعني فصرعني ، كانوا يسمونني التمساح مرة عمت النيل أدفع بصدري مركبا موسوقة قمحا إلى الشاطئ الآخر .. ليلا .. وكان على الشاطئ الآخر رجال على سواقيهم . فلما رأوني أدفع المركب نحوهم ألقوا ثيابهم وفزعوا وفروا . فناديتهم ))يا قوم مالكم فيحكم الله ؟ ألا تعرفونني ؟ أنا التمساح .. أنتم والله الشياطين من خلقتكم القبيحة )) .
هل قلت لي يا بني ماذا نفعل حين نمرض ؟ إنني أضحك لأنني أعلم ما يدور في رأسك .. أنتم في البنادر تسارعون إلى المستشفيات لأدنى سبب . إذا جرح إصبع واحد منكم هرع به إلى الحكيم فلفه له في عصابة وعلقه على رقبته أياما ، وهو مع هذا لا يطيب . مرة كنت أعمل في حقلي فعض شيء إصبعي ، هذا الإصبع الخنصر . فانتصبت قائما وتلفت ابحث عن العشب .. فإذا ثعبان لابد . أحلف لك أنه في طول ذراعي هذا . فمسكته من رأسه وسحقته بين إصبعي . ثم عضضت إصبعي الملدوغ ومصصت منه الدم وأخذت حفنة من التراب فدلكته بها ، بيد أن مثل هذا الأمر طفيف . ماذا نفعل في الملمات ؟
جارتنا هذه .. ذات مرة تورم حلقها فأقعدها طريحة الفراش شهرين . وذات ليلة تكاثرت عليها الحمى ، فنهضت من فراشها سحرا وتحاملت على نفسها حتى أتت .. أجل يا بني .. أتت دومة ود حامد . وتروي المرأة ما حدث فتقول : (( وقفت تحت الدومة وأنا لا أكاد أقوى على الوقوف . وناديت بأعلى صوتي : يا ود حامد جيتك مستجيرة وبك لائذة . سأرقد هنا عند ضريحك ، وتحت دومتك ، فإما أمتني وإما أحييتني ، ولن أبرح مكاني هذا إلا على إحدى الحالتين )) . وتستمر المرأة في قصتها فتقول : (( وتقلصت على نفسي وأنا أستشعر الخوف ، وسرعان ما أخذتني النومة. وبينما أنا بين النائمة واليقظة ، إذ أصوات ترتل القرآن ، وإذا نور حاد كأنه شفرة السكين قد سطع حتى عقد بين الشاطئين فرأيت الدومة وقد خرت ساجدة . وهلع قلبي ووجب وجيبا ظننته سيخرج من فمي . ورأيت شيخا مهيبا أبيض اللحية ناصع الرداء ، يتقدم نحوي على وجهه ابتسامة . وضربني بسبحته على رأسي وانتهرني قائلا " قومي " . وقسما أنني قمت وما أدري " أنني قمت " وجئت إلى بيتي ولا أعلم كيف جئت .. ووصلت عند الفجر فأيقظت زوجي وولدي وبناتي . وقلت لزوجي أوقد النار وضع عليها وعاء الشاي . وقلت لبناتي زغردن . فانكبت علينا البلد . وقسما ما خفت بعدها ، ولا مرضت بعدها )) . " دومة ودحامد "