نعم يا بني ، نحن قوم لا نعرف دروب المستشفيات . في الأمور الصغيرة كلدغات العقارب والحمى والفكك والكسر ، نلزم الأسرة حتى نشفى ، وفي المعضلات الكبيرة نذهب إلى الدومة .
هل أقص عليك يا بني قصة ود حامد ؟ أو أنك تريد أن تنام ؟ أهل البندر لا ينامون إلا في أخريات الليل – ذلك أعلمه عنهم . أما نحن فننام في حين يسكن الطير ، ويمتنع الذباب عن مشاكسة البقر ، وتستقر أوراق الشجر على حال واحد ، وتضم الدجاج أجنحتها على صغارها ، وترقد الماعز على جنوبها تجتر ما جمعته في يومها من علف . نحن وحيواناتنا سواء بسواء ، نصحو حين تصحو ، وننام حين تنام ، وأنفاسنا جميعا تصاعد بتدبير واحد .
حدثني أبي نقلا عن جدي قال : (( كان ود حامد في الزمن السالف مملوكا لرجل فاسق ، وكان من أولياء الله الصالحين . يتكتم إيمانه ولا يجرؤ على الصلاة جهارا حتى لا يفتك به سيده الفاسق . ولما ضاق ذرعا بحياته مع ذلك الكافر ، دعا الله أن ينقذه منه . فهتف به هاتف أن أفرش مصلاتك على الماء ، فإذا وقفت بك على الشاطئ فانزل . وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن، وكان ذلك مكانا خرابا . فأقام الرجل وحده يصلي نهاره ، فإذا جاء الليل أتاه أمرئ ما بصحاف الطعام ، فيأكل ويواصل العبادة حتى يطلع عليه الفجر . كان هذا قبل أن تعمر البلد . وكأن ما هذه البلدة بأهلها وسواقيها وعمارها قد انشقت عنها الأرض . كذاب من يقول لك إنه يعرف تاريخ نشأتها . البلاد الأخرى تبدأ صغيرة ثم تكبر . إنه يعرف تاريخ نشأتها . ولكن بلدنا هذا قام دفعة واحدة . أهله لا يزيد عددهم ولا ينقص ، وهيأته لا تتغير . ومنذ كانت بلدتنا . كانت دومة ود حامد .. كما أن أحدا لا يذكر كيف قامت ونمت ، كذلك لا يذكر أحد كيف قامت الدومة في أرض حجرية ترتفع على الشاطئ ، وتقوم فوقه كالديدبان)) .
حين أخذتك لزيارتها ، هل تذكر يا بني السور الحديدي حولها ؟ وهل تذكر اللوح الرخامي القائم على نصب من الحجر ، وقد كتب عليها " دومة ود حامد " ؟ وهل تذكر القبة ذات الأهلة المذهبة فوق الضريح ؟ هذا هو الشيء الوحيد الذي جد على بلدنا منذ أن أنبتها الله . وقصة ذلك كله أقصها عليك الآن .
حين ترحل عنا غدا – وأنت لا شك راحل ، متورم الوجه ، متوهج العينين ، فأحرى بك يابني ألا تلعننا ، بل ظن بنا خيرا وفكر فيما قصصته عليك الليلة ، فلعلك واجد أن زيارتك لنا لم تكن شرا كلها.
أنت تذكر أنه كان لنا قبل أعوام نواب وأحزاب وضوضاء كبيرة ، وما كنا نعرف أولها من آخرها . كانت الدروب تسوق إلينا أحيانا غرباء تلقيهم على أبوابنا ، كما يلقي موج البحر بالحشائش الغريبة . ما منهم من أحد زاد على ليلة واحدة عندنا ، ولكنهم كانوا ينقلون إلينا أنباء الضجة الكبيرة في العاصمة . حدثونا يومها أن الحكومة التي طردت الاستعمار قد أستبدلت بحكومة أخرى أكثر ضجة ونواباً . وكنا نسألهم : من الذي غيرها ؟ فلا يردون علينا جوابا . ونحن منذ أبينا أن تقوم المحطة عند الدومة ، لم يعد يعكر علينا صفونا أحد ، وانقضى عامان ونحن لا نعرف شكل الحكومة ، سوداء هي أو بيضاء ، ورسلها يمرون ببلدنا ولا يقفون فيه ، ونحن نحمد الله أن كفانا مؤونة استقبالهم .حتى كان قبل أربعة أعوام ، حين حلت حكومة جديدة محل الحكومة الأولى ، وكأن هذه السلطة الجديدة شاءت أن تشعرنا بوجودها . صحونا ذات يوم فإذا بموظف ذو قبعة ضخمة ورأس صغير ، ومعه جنديان وهم عند الدومة يقيسون ويحسبون . سألناهم ما الخبر ؟ فقالوا : إن الحكومة تريد أن تبني محطة تقف عندها الباخرة تحت الدومة .. قلنا لهم : ولكننا رددنا عليكم ذلك من قبل فماذا تظنون أننا سنقبله اليوم ؟.
قالوا : الحكومة التي سكتت عنكم كانت حكومة ضعيفة ، ولكن الحال قد تغير الآن . ولا أطيل عليك ، فقد أخذنا بنواصيهم وألقيناهم في الماء ، وانصرفنا إلى أعمالنا . وماهو إلا أسبوع حتى أتتنا كوكبة من الجند ، وعلى رأسهم ذلك الموظف الصغير الرأس ذو القبعة الكبيرة . فنادى بهم أن خذوا هذا وخذوا هذا وخذوا هذا ، حتى أخذوا عشرين رجلا منا كنت أنا بينهم . وحملونا إلى السجن . ومضى علينا شهر وذات يوم جاء الجند أنفسهم الذين سجنونا ففتحوا علينا الأبواب . وسألناهم ما الخبر ؟ فلم يكلمنا أحد . ولكننا وجدنا حشدا كبيرا خارج السجن – أول ما رأونا هتفوا ونادونا وعانقنا أناس نظيفوا الثياب ، تلمع على معاصمهم ساعات مذهبة وتفوح نواصيهم برائحة العطر . وحملونا في موكب كبير إلى أن أتينا أهلنا . فوجدنا خلقا كبيرا لا أول له ولا آخر . وعربات واقفة وخيولا وجمالا . وقال بعضنا لبعض : (( إن ضوضاء العاصمة قد وصلت عندنا )) وأوقفونا نحن الرجال العشرين صفا يمر علينا الناس يصافحون أيدينا . . رئيس الوزراء .. رئيس مجلس النواب .. رئيس مجلس الشيوخ .. نائب دائرة كذا .. ونظر بعضنا إلى بعض دون أن نفهم ما يدور حولنا ، إلا أن سواعدنا كلت من طول ما صافحت من أولئك الرؤساء والنواب ، ثم أخذونا في حشد عظيم إلى حيث الدومة والضريح .. ووضع رئيس الوزراء الحجر الأساسي للنصب الذي رأيته ، والقبة التي رأيتها والسور الذي رأيته . وكما يهب الأعصار برهة ثم يذهب ، إختفى ذلك الحشد كما جاء فلم يبت ليلة عندنا .. وأحسبه ذباب البقر . فقد كان عامها سمينا بدينا يطن ويزن كالعام الذي جاءنا فيه الواعظ .
وقد روى لنا أحد هؤلاء الغرباء الذين تلقيهم الدروب عندنا قصة تلك الضجة فيما بعد فقال )) لم يكن الناس راضين عن تلك الحكومة منذ أن جاءت ، وهم يعلمون أنها لم تأت إلا بشراء عدد من النواب . وظلوا يتربصون بها الفرص . كانت المعارضة تبحث عن شرارة توقد بها النار . فلما حدث حادث الدومة معكم أخذوكم وألقوا بكم في السجن ، نشرت الصحف النبأ ، وخطب رئيس الحكومة المقالة في البرلمان خطبة داوية قال فيها )) لقد بلغ من طغيان هذه الحكومة المقالة أنها أصبحت تتدخل في معتقدات الناس )) (( في أقدس الأشياء المقدسة )) وحمل الناس الصيحة ، واستجابت أفئدة الناس في سائر القطر لحادث الدومة ، كما لم تستجب لحادث من قبل ، لعل السبب في كل بلد من بلدان هذا القطر علما كدومة ود حامد يراه الناس في أحلامهم . وبعد شهر من الضوضاء والصراخ والشعور الملتهب ، اضطر خمسون من نواب الحكومة أن يسحبوا تأييدهم منها. فقد أنذرتهم دوائرهم أنهم إما أن يعلنوا ذلك ، وإلا فهذه الدوائر التي انتخبتهم تنفض أيديها منهم .
وهكذا سقطت الحكومة وعادت الحكومة الأولى إلى الحكم . وكتبت الصحيفة الأولى في القطر تقول ( إن دومة ود حامد أصبحت رمزا ليقظة الشعب ) .
"دومة ود حامد"