بعد من مجرد (ربيع عرب)
خالد التجاني
سارع الجميع, حكومة ومعارضة وإعلاماً, للوقوع في فخ التبسيط المخل في لجة البحث عن توصيف يناسب تمنيات كل طرف لحال الاحتجاجات التي يشهدها السودان وتوقعاته لمآلاتها, بين المبالغة في الحط من شأنها كما هو حال الخطاب الحكومي, واستعجال بعض الأوساط المعارضة إظهار الاستعداد لحصد ثمارها بحسبانها المسمار الأخير في نعش النظام, ومسارعة البعض لا سيما في الوسائط الإعلامية المختلفة إلى استدعاء مسار ثورات الربيع العربي، ومحاولة إسقاط الحالة السودانية الاحتجاجية الوليدة على الحالة الثورية العربية.
ومهما يكن أمر الذين سهروا جراء هذه الاحتجاجات واختصموا في شأن وصفها وتسمياتها ومآلاتها جدالاً على مرجعية ثورات “الربيع العربي” أو نفي ذلك, فإن المشترك بين هذه الأطراف هو أن الجميع انصرف إلى الانشغال بظاهر هذا الحراك على حساب مضامينه الحقيقية. إ ن آوان التغيير قد أزف, وسيرة الاجتماع البشري وعظاته تؤكد أنه ما أن تبدأ عجلة التغيير في الدوران فلا شئ يوقفها, فالثورات ظاهرة اجتماعية وسنة كونية، وحق مطلوب مركوز في النفس البشرية المجبولة على الحرية, وهي لا تحدث صدفة, لا تصنعها المعارضة من عدم ولا تمنع حدوثها السلطات مهما عظم جبروتها. وما أن يحدث اختلال كبير في توازن أي مجتمع حتى تبدأ فيه حركة التغيير التي لا يمكن تفاديها من أجل استعادة توازنه.
والشعب السوداني وحده من بين شعوب المنطقة من لا يحتاج لأن يتعلم من غيره متى ينتفض أو كيف ينجز ثورة, بل يؤهله لأن يكون رائداً الرصيد التاريخي الثوري للسودانيين الذين استبقوا عصر الربيع العربي بنصف قرن في ثورة أكتوبر المجيدة التي أعادوا تجديدها بانتفاضة أبريل قبل ربع قرن, وهو ما يشير إلى فاعلية الإرادة الشعبية وقدرتها على إحداث التغيير, وتراكم خبرة العمل الثوري وديناميته, ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الاحتجاجات السودانية استلهمت هذه المرة روح ثورات الربيع العربي التي شكلت عاملاً مشجعاً للعناصر الشبابية السودانية على وجه الخصوص بفضل ثورة التواصل المعلوماتي والإعلامي.
ومن المؤكد أن ثورات الشباب العربي ألهمت نظرائهم في السودان, وهو تأثير لم يسلم منه حتى شباب حزب المؤتمر الوطني الحاكم, ومن باب التذكير لقادة الحكم الذين ينكرون على الشباب المنتفض اليوم حراكهم, أن ننعش ذاكرتهم بمحاولة الحراك الداعية للتغيير التي قادها شباب المؤتمر الوطني من داخل أروقة حزبهم في بواكير العام الماضي في خضم الزخم العاتي لانتصار الثورات الشبابية في تونس ومصر وعنفوانها في اليمن وانطلاقتها في ليبيا وسوريا, وكان من الطبيعي أن يبادر “شباب الإسلاميين” إلى التململ وهم يرون حركتهم القابضة على السلطة في السودان في الجانب الخاسر من حركة التاريخ, في وقت يعلو فيه نجم شقيقاتها في المنطقة.
صحيح أن ذلك الحراك الشبابي داخل الحزب الحاكم لم يُكتب له الوصول إلى مبتغاه، حيث سرعان ما استسلموا لسطوة الطبقة الحاكمة الرافضة لإحداث أي إصلاح, ولكنه مع ذلك لم يكن حراكاً بلا مردود, فقد كان من قوة تأثيره حينها أن الرئيس البشير تعهد أمامهم في حوارات ساخنة أجراها معهم مباشرة بتبني أجندة للإصلاح وفق التزامات محددة من بينها عدم ترشحه لدورة رئاسية جديدة, ومحاربة الفساد المستشري, وإحلال عناصر شبابية في هرم السلطة، مطلقاً وعوداً بعدم التجديد لمن تعدى الستين من العمر أو بقي في السلطة أكثر من عشرة أعوام, وذهب إلى حد تبنيه ترشيح عنصر شاب لم يسمه لخلافته في مفاجأة بدت من العيار الثقيل حينها لتخطيها ما كان مفهوماً من أن مسألة خلافته محسومة. بالطبع أثبتت التطورات اللاحقة أن كل تلك الوعود بقيت حبراً على ورق، ولم ينفذ منها شئ على الإطلاق, ولهذا السبب تحديداً أعني مقاومة الطبقة الحاكمة لأية عملية إصلاحية مهما كانت محدودة الأهداف ومتواضعة المردود وغير مستعدة للاستماع حتى لمطالب الشباب الملتزمين بخط الحزب على الرغم من الإقرار بوجاهة دعواهم للإصلاح مما كشفت عنه استجابة الرئيس البشير حينها لحراكهم, هو الذي جعل أزمة الحكم الراهنة تصل إلى مرحلة اللاعودة.
وعلة المؤتمر الوطني المزمنة التي ستقضي عليه لا محالة هي عجزه عن الخروج من هذه الحالة المرضية من الافتقار لأدنى حد من الإرادة لإجراء أي قدر من الإصلاح مهما صغر, أو التحلي بشئ من الجرأة للتجديد في شرايينه. لقد بدا متقناً للعبة واحدة لإطالة عمره في السلطة هي عقد صفقات مع من يرى فيهم مهدداً لاستمرار قبضته, ولكنه ظل غير مستعد علي أية حال للمضي ولو خطوة واحدة جدية في طريق الإصلاح, ولذلك تكلست قدراته السياسية، وشاخت عقليته وتيبست مفاصله، وتجمد عند مرحلة “طفولته السلطوية” ولا يزال يمارس الحكم بالنهج والاسلوب ذاته، ومطاردة طوارئ الاحداث ومحاولة الهروب إلى الأمام من ازمة إلى أزمة، وهو أمر يفترض أنه مقبول في أول سني العهد بالسلطة ريثما يتعلم الحكام فن إدارة الحكم, ولكن أن يظل هذا هو الحال بعد ربع قرن يفترض أنها فترة كافية لإنتاج رجال دولة أكفاء يتقنون اصول لعبة السلطة ويدركون كيف يحلون الأزمات، لا ان ينتجوها, فهذا ما لا يجد له المرء تفسيراً. اللهم إلا إصرار “تضامن الطبقة الحاكمة” على البقاء معاً أو الذهاب معاً, الذين يعز عليهم الإيمان بالتبادل السلمي للقيادة حتى داخل حزبهم، ويقاومون أية محاولة للتجديد فيها حتى ولو أدى ذلك إلى ذهاب ريح سلطة الحزب, فكيف ينتظرون من الناس أن يصدقوا أنهم مؤمنون حقاً بالتبادل السلمي لسلطة الحكم وهم ينكرونها على رفاق دربهم؟! لقد راجت لحين مقولة “ثوابت الإنقاذ” التي لا حياد عنها وكان الظن أنها مبادئ وأفكار وبرامج للحكم, ثم تبين أن التفسير الوحيد المنطقي لتلك الثوابت هو محافظة نخبة الطبقة الحاكمة على بقائها في السلطة، جامعة مراكز القوة كلها تحت جناحها فهم الأشخاص أنفسهم الذين يتولون قيادة “الحاءات الثلاث” الحكم, والحزب, والحركة، ويبدو أن “حواء الإسلاميين” قد عقمت من بعدهم!!.
ومن عجب أن الحزب الحاكم لا يبدو مستعداً للإقدام على أي قدر من الإصلاحات الجدية فحسب, بل يمارس نوعاً غير مسبوق من التنكر ليس لمطالب غيره، بل حتى للتعهدات التي يقطعها على نفسه أمام الملأ, وهي حالة لا يمكن تبريرها اللهم إلا إذا بلغ به فقدان الحس السياسي, والافتقار إلى إرادة الإصلاح, العجز عن الفعل بسبب توازن صراع مراكز القوى داخله حداً يجعله يفضل الجمود المفضي إلى الفناء بطبعه, بدلاً من الحراك نحو التغيير طلباً للنجاة.
وليس سراً أن الحزب الحاكم بدا متوجساً لأول مرة ومتطيراً من عواقب إجراءاته القاسية, ولذلك تلكأ في تمريرها حتى قضى على المقاومة الداخلية لها في أروقة الحزب وأجهزته, وعمد إلى تسويقها للرأي العام بحسبانها جزءًا من عملية إصلاح وتغيير شاملة، موحياً بأن النخبة الحاكمة ستدفع قسطاً من ثمن الإصلاحات الموعودة. ثم ما لبث أن غشيته حالة طمأنينة مشوبة بالحذر وقد أحس أن درجة مخاطر رد الفعل الأولى للاحتجاجات جاءت أقل من توقعاته إلى درجة جعلت قادة الحكم يتراجعون سريعاً عن الإلتزام بتعهداتهم العلنية بين يدي إعلان تلك الإجراءات، بعزمهم على إجراء تقليص شامل في هياكل الحكم المترهلة بحسبانها شرطاً مكملاً لعملية “الإصلاح” المفترضة التي وقع عبؤها بالكامل على كاهل المواطنين. والملاحظ أن تلك الإجراءات عندما تعلقت التزاماتها بالمواطنين سارعت السلطات إلى تطبيقها فوراً بحجج واهية دون انتظار إقرارها من البرلمان المهيض الجناح, الذي لم ير الجهاز التنفيذي داعياً حتى شكلياً لاحترام دوره, ولكن ما أن جاء الدورعلى الطبقة الحاكمة لدفع ثمن سهمها في تلك الإصلاحات “المفترضة” حتى تلكأت أسابيع على الرغم من الوعد بأن تقليص الجهاز التنفيذي في المركز والولايات بنسبة تقارب النصف سيتم في غضون أيام قلائل, وذهب البرلمان الذي كان ينتظر وعد التقليص “الدرامي” في عطلة مجيدة لا يبالي بمصير البلاد الذي قيل انها ستكون على شفا الانهيار ما لم يقم المواطنون الخاوية جيوبهم بملء خزينة الحكومة المفلسة. وتم استيلاد الجهاز التنفيذي بكل هياكله المترهلة في المركز والولايات في خطوة أصبحت مثار تندر المجالس, بعد أن استقر في روع النخبة الحاكمة أن هوجة التغيير الكاسحة التي كانوا يتوجسون منها مرت بسلام, فلماذا يفتحون على أنفسهم صندوق باندورا بالإقدام على تغيير قواعد اللعبة في ظل تنافس محموم بين مراكز القوة في السلطة التي لا يبدو أن أي طرف منها مستعد لدفع استحقاقات الإصلاح. ولا عزاء للذين أحسنوا الظن وكانوا يمنون أنفسهم بأن يقدم الحكم على درجة من الإصلاح تكفل الاستقرار وتكفيهم مؤونة البحث عن بديل في مستقبل مجهول في أجواء تغيير يتأكد كل يوم أنه محتوم لا يمكن تفاديه, لان نواميس الطبيعة لا تعرف الجمود ولا الفراغ.
ومن عجب أن تُري الطبقة الحاكمة شعبها هذا القدر من العجز عن الوفاء بتعهداتها على نفسها، ثم تنتظر منه أن يظل ساكناً صامتاً مسبحاً بحمد سلطتها التي لم تحقق له شيئاً, بل باتت تفرض عليه دفع ثمن أخطائها الباهظة وفشلها في إدارة مسؤوليات الحكم. وما هو أكثر غرابة ما يسوقه قادة الحكم من تبريرات في التقليل من شأن الشباب المنتفض حتى ليكاد المرء يستغرب من مدى التحول عن الرؤية السوية الذي تحدثه لوثة السلطة المطلقة في النفس البشرية, وحالة الانعزال الشعوري والحسي الذي يتلبس الطبقة الحاكمة, وكان من المكن إيجاد عذر لذلك لولا أن عدداً كبيراً من “الإسلاميين الحاكمين” اليوم ما كانوا ليبلغوا هذا المقام من حظ الدنيا لولا أنهم وقفوا ذات يوم في مقام هؤلاء الشباب الثائرين في مواجهة السلطة المتجبرة. أليس عجيباً لمن كان ثائراً ذات يوم ينشد الحرية والكرامة والتغيير أن يضع نفسه مختاراً في مقام من كان يقاومه ويثور ضده, وينكر على هذا الجيل أن ينهض ثائراً من أجل غد أفضل لوطنه؟. ألهذه الدرجة تعمي السلطة الأبصار عن الإدراك السوي إلى “إنكار ضوء الشمس من رمد” بمظنة وهم الخلود في السلطة, ما كانوا يحتاجون ليتعلموا من غيرهم بل كان يكفيهم أن ينظروا في سيرة ماضٍ كانوا جزءًا منه, ما الذي يجعل ثورتهم يومها حلالاً, وثورة شباب اليوم حراماً؟!!
ولا تحسب قيمة الحراك الاجتماعي بالكم والأعداد, وإنما بتوفر مقومات وإرادة التغيير، وهو شأن الطليعة قليلة العدد في كل مجتمع فهي التي تقود عملية التغيير, ومن عجب أن يستهجن قادة الحكم مقللين من شأن أعداد المتظاهرين ناسين أن “الحركة الإسلامية” التي يحكمون باسمها اليوم لم تكن إلا نفرا قليلا, وما كان سيكون لها شأن لولا أن تلك “الشرذمة القليلة” أسهمت في ثورة أكتوبر, قبل أن تتنكر لرصيدها الثوري وانحيازها لقيم الحرية والعدل حتى كادت تضبط متلبسة بالتحالف مع نظام عسكري لولا أن أدركتها العناية الآلهية قبل أسابيع قليلة من انتفاضة أبريل, وها هي “الحركة الإسلامية السودانية” تجد نفسها اليوم مرة أخرى في الجانب الخاطئ من التاريخ, يصعد نجم رصيفاتها في المنطقة على أجنحة ديمقراطيات الربيع العربي, في حين تكابد هي هنا لتنجو من مصيرعتاة الديكتاتوريات العربية التي قررت عن طواعية أن تكون في صفها.
ومشكلة الحكم الرئيسية ليست المظاهرات الاحتجاجية فحسب, بل عدم قدرته على الخروج من حالة الانسداد والاحتقان والتدهور الاقتصادي الخطيرة الناتجة عن سوء الأداء السياسي وتواضع كفاءة قدرات الحكم في القيام بمسؤولية إدارة الدولة, وهو ما قاد إلى الوضع المأزقي الحالي. والحزب الحاكم ليس في أحسن أحواله, فقد شهد العام الأخير خسارته رهانات مفصلية في قضية الوحدة والسلام أدت إلى تآكل مشروعيته السياسية, وتراجع قدراته على إدارة دولاب الدولة, وليست الأزمة الاقتصادية الخانقة سوى دليل على مدى العجز عن التحسب لمآلات تقسيم البلاد, والفشل في توقع تبعاتها وتداعياتها. والواضح من سياق تعاطي الحكم خلال الفترة الماضية من عمر الاحتجاجات أنها تسير على النهج ذاته الذي اتخذته الأنظمة المتساقطة القائمة على الإنكار والتبرير، بدلاً من مواجهة الأسئلة الملحة, ودفع استحقاقات التغيير.
والإنكار على المحتجين حقهم في التعبير ومطالبتهم بالتغيير السلمي, والتضييق عليهم وقمعهم بدعوى منع التخريب أمر يجانبه الصواب, اللهم إلا إذا أرادت السلطة منهم أن يتحولوا إلى الاحتجاج العنيف والمسلح حتى تستمع إليهم وتفاوضهم. فقد عهد الناس من الحكم القائم أنه لا يستمع لناصح أمين ولا لطالب إصلاح أو تغيير بطريق سلمي, وتراه في الوقت نفسه يضرب أكباد الإبل ويجوب العواصم ويصبر صبراً جميلاً ليفاوض المتمردين الذين يحملون السلاح ضده وينازعونه سلطته عنوة, ويشهد على ذلك العدد الهائل من مفاوضات السلام والاتفاقيات التي لا حصر لها التي توقعها السلطة مع من يحملون السلاح, والتي تؤهلها لتتبوأ مكانة متقدمة في موسوعة جينيز للأرقام القياسية, وتفتح لهم أبواب القصر شركاء في السلطة والاستوزار معززين مكرمين, أما الويل والثبور فلشباب الجامعات الذين لا يملكون إلا عقولهم المستنيرة, وإرادتهم الحرة, فلماذا تصادر آمالهم في التغيير أليسوا هم من تنتظرهم الامة ليحملوها إلى المستقبل؟ أم تريد السلطات أن تفرض عليهم حمل السلاح حتى يصبحوا مؤهلين للتفاوض معهم وتلبية مطالبهم.
أما أن السودان في حاجة ماسة غير مسبوقة للتغيير, حتى ولو لم يكن هناك محتجون فهذا ما لا ينتطح فيه عنزان. وأما أن البلاد في حاجة لاستحقاقات أجندة للتغيير هي أكبر من مجرد تغيير نظام حكم بآخر, فهذا مما لا بد منه, ما يحتاجه السودان أكثر من مجرد “ربيع عربي”, وأبعد بكثير من مجرد إسقاط نظام هو آخر تمثلات النظام السياسي السوداني القديم بكل إسقاطات فشله في صناعة الدولة الوطنية على تعاقب حقبه الحاكمة والذي انتهت مشروعيته الفعلية بتقسيم البلاد وانتشار التمرد المسلح فيما بقي منها.
ما يحتاجه السودان اليوم تغييرا حقيقيا لا ينفع معه الترقيع، يقود إلى تعاقد الجماعة الوطنية على تواثق جديد كلياً لبناء أمة متماسكة, وإعادة تأسيس الدولة, وهيكلة السلطة على قواعد منظومة حكم راشد فعلي. و”الإسلاميون” اليوم بمختلف مللهم ونحلهم أمام تحدٍ مصيري بين خيارين لا ثالث لهما إما أن يكونوا جزءًا أصيلاً من عملية التغيير المحتوم, أو أن يكون فيها ذهاب ريحهم