(( كتب رئيس حركة النهضة التونسية “راشد الغنوشي” مقالاً يحملُ ذات عنوان هذا المقال يحاول فيه قراءة مستقبل حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية في أعقاب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر. وبعد أن ذكر العديد من الدفوعات التي تنفي – بحسب رأيه – أفول نجم هذا التيار خلص إلى أنَّ ( ما يسمى بالإسلام السياسي ليس في حالة تراجع وإنما هو بصدد إصلاح أخطائه والتهيؤ لطور جديد غير بعيد من الممارسة الأرشد للحكم، وإنه لا يحتاج إلى عشرات السنين ليسترجع فرصاً أكبر تنتظره في زمن الفضاءات الإعلامية المفتوحة، وفي مواجهة مشاريع إنقلابية عارية من غطاء قيمي وحضاري وسياسي ). يقول الغنوشي إنَّ ( الحركة الإسلامية في خطها العريض ودعك من الهوامش المتشددة التي لا تخلو منها أيديولوجيا وأمة، قدمت الإسلام مُتمماً لمنجزات ومكارم الحضارات وليس باعتباره نقيضاً من كل وجه لمنجزات التحديث كالتعليم للجميع ذكوراً وإناثاً ولقيم العدالة والمساواة حقوقاً وحريات دون تمييز على أساس الاعتقاد والجنس واللون بما يكفل للجميع حقوق المواطنة والإنسانية والحريات الدينية والسياسية كما هو متعارف عليه في الديمقراطيات المعاصرة باعتبار المساواة في الحقوق والحريات تفريعاً لازماً من أصل التكريم الإلهي لبني آدم “ولقد كرمنا بني آدم”).
لا شك أنَّ زعيم حركة النهضة في حديثه أعلاه لا يصدرُ عن المقولات و الأفكار الأساسية بل وحتى الممارسة التاريخية التي شكلت عقل وروح الحركات الإسلاميَّة الحديثة التي ظهرت إلى الوجود في مصر عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. فهو ربما يكون يُعبِّر فقط عن حركة النهضة التي يزعم كاتب هذه السُّطور أنَّ لها “خصوصية” لا يُمكن تعميمها على الحركات الشبيهة في المنطقة العربية والإسلامية. هذه الخصوصية نابعة من تأثرها و سعيها للإستجابة لضغط معطيات الواقع الفكري والسياسي التونسي الذي يتميز على العديد من المجتمعات الأخرى. فمن الناحية الفكرية طغى على ذلك الواقع تراث “التنوير الديني” الذي أفرزه “جامع الزيتونة” على يد علماء مستنيرين كبار من أمثال الطاهر بن عاشور والطاهر الحدَّاد, كما ساد مجتمع سياسي و مدني قوي تأثر كثيراً بقيم “الحداثة” الغربية, وهذا على العكس من القطع الذي أحدثه البنا مع إرث الإصلاح الديني الذي قاده الإمام محمد عبده وعلماء ومصلحين آخرين مثل الشيخ حسن العطار والطهطاوي و قاسم امين وعلى عبد الرازق.
هذا الفارق الحاسم يتبيَّن من خلال الأفكار الجوهرية التي عبَّر عنها الشيخ حسن البنا, فعلى سبيل المثال نجدهُ يقول في قضية منح المرأة الحق في العمل والإنتخاب : ( ما يريده دعاة التفرنج وأصحاب الهوى من حقوق الإنتخاب والاشتغال بالمحاماة مردودٌ عليهم بأنَّ الرجال، وهم أكمل عقلاً من النساء، لم يحسنوا أداء هذا الحق، فكيف بالنساء وهنَّ ناقصات عقل ودين ).
كتب البنا كلامه أعلاه في عام 1947 وبعد ذلك التاريخ بتسعة أعوام فقط, أي في عام 1956 كانت تونس قد أقرت قانون “الأحوال الشخصية” الذي أضحى وثيقة فارقة في التشريع ليس فقط في العالمين العربي والإسلامي ولكن على مستوى العالم حيث منح المرأة حقوقاً غير مسبوقة. لم يصدر قانون الأحوال الشخصية التونسي من فراغ بل مهدًّت له حركة فكرية تنويرية عبَّر عنها كتاب الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي أصدره في العام 1929, واعتبر فيه قضية المرأة من دعائم تقدم البلاد ولا تتعارض مع عقيدته. أمَّا “حقوق المواطنة” التي يتحدث عنها الغنوشي فلم يكن الشيخ حسن البنا يؤمن بها أصلاَ, فنجده على سبيل المثال يقول في “رسالة التعاليم” ( لا بأس أن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة و لا عبرة بالشكل الذي تتخذه و لا بالنوع , مادام موافقا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي ).
ليس هذا فحسب بل إنَّ شخصاً مثل “الفقيه الدستوري” الدكتور حسن الترابي الذي يعتبرهُ حواريوه مفكراً كبيراً لم يكن حتى وقت قريب يؤمن بقضية المواطنة, وكان يقول أنه لا يمكن لغير المسلم ان يُصبح رئيساً للدولة في الوقت الذي كان فيه المجتمع السوداني و مختلف قواه السياسية والحزبية قد تجاوزت هذه البديهية. أمَّا في مصر فإنَّ المرشد الأسبق, وزعيم تيار القطبيين “مصطفى مشهور” فقد عبَّر في لحظة صدق نادرة عن قناعات الجماعة عندما دعا لأن يدفع الأقباط “الجزية” وأن لا يسمح لهم بدخول الجيش لأنهم يمكن أن يتضامنوا مع أعداء المسلمين. وهو بحديثه هذا إنما يُعبِّر عن القناعات الحقيقية للجماعة التي ظلت تختبىء وراء مفهوم “التقية” وإزدواجية الخطاب, وهى مطلوبات فترة “التمكين” التي سرعان ما تتكشف عند إستلام السُّلطة. يُحاول الغنوشي في حديثه كذلك أن ينفي عن تيار الإسلام السياسي صفة “التشدُّد” ويحصرها في هوامشه بينما التشدد والعنف هما مكونان أصيلان من المكونات الفكرية لهذا التيار. فالشيخ البنا كان في غالبية كتاباته وخطبه ومقالاته يخاطب أعضاء جماعته بلفظ “الجنود”, و”التنظيم العسكري” كان العمود الفقري للجماعة, وهو لم يكن ينفي إستخدام “القوة” للوصول للاهداف وإحداث التغيير , ولك أن تتأمل حديثه أدناه :
( يتساءل كثيرٌ من الناس : هل في عزم الإخوان أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم ؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي؟ ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إنني انتهز هذه الفرصة فاكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء، فليسمع من يشاء. أما القوة فهى شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته, ولابُدَّ لمن يتبع هذا الدين أن يكون قوياً، والاخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء, قوة العقيدة والايمان، ثم قوة الوحدة والارتباط ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح ). لا يقف البنا عند هذا الحد بل يكتب تحت عنوان “حكم الجهاد عند فقهاء الأمَّة” ناقلاً عن صاحب “مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر” حكماً متشدداً في إعلان الجهاد على من بلغتهُ الدعوة حتى ولو لم يبدأ بالقتال,دون أن ينتقده أو يعلن إختلافه معه أو تحفظه عليه. يقول الحكم ( الجهاد يفرض علينا أن نبدأهم بالقتال بعد بلوغ الدعوة وإن لم يقاتلونا. ويجب علي الإمام أن يبعث سرية الي دار الحرب كل سنة مرة أو مرتين ).
ولا يقفُ هذا التعصب عند حدود “الآخر” المختلف دينياً بل يتعدى ذلك للمسلم غير المنتمي للجماعة حيث يُصدر عليه حكماً يُخرجه من دائرة الإسلام, فيقول بعد أن يشرح منهج الجماعة ومراحل التمكين ( إننا نعلن في وضوح وصراحة إن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهج ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له في الإسلام ). يقول الغنوشي كذلك ( إنَّ الإسلاميين اليوم أكثر من أي وقت مضى يقفون على أنبل وأصلب موقع، فهم إلى موقع القرب العقدي والمفاهيمي الثقافي من الناس، هم يقفون كما في مصر يحملون أنبل الشعارات، مثل الدفاع عن إرادة الشعب والاحتكام لصناديق الاقتراع ). فما هو رأي المرشد المؤسس في قضية الديموقراطية ؟ يقول البنا في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي (ولو أخذنا بالحزم وأعلناها صريحة واضحة : أننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ولا ديمقراطيون ولا شئ من هذا الذي يزعمون).
وهو لا يكتفي بذلك بل يصفها بالتافهة حين يضيف في حديث الثلاثاء قائلاً : (هذه هي دعوتنا ليس لها منهاج إلا الكتاب الكريم، ولا جنود إلا أنتم ولا زعيم إلا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فأين من نظامنا هذه النظم التافهة المتداعية ؟ هذه الديمقراطية، والشيوعية، والدكتاتورية). أثبتت التجربة العملية أنَّ رأي البنا في قضية الديموقراطية هو المبدأ الثابت و الأصيل لدى أهل الإسلام السياسي, وأنَّ تماهيهم مع العملية الديموقراطية لا يُعبِّر عن إيمان بها أكثر من تعبيره عن مصلحة مؤقتة, فهم متى ما رجحَّوا الفوز في الإنتخابات تحوَّل أنصارهم إلى مدافعين عن “صناديق الإقتراع” ومتى ما عجزوا عن الوصول للسلطة عبر التصويت لجأوا “للإنقلاب العسكري”, وخير دليل على ذلك هو التجربة السودانيَّة حينما إستولوا على السلطة في 1989 بعد الإطاحة بحكم شرعي ديموقراطي كانوا هم جزءاً منه.
من المعلوم أنَّ “إرادة الشعب” لا تقتصر فقط على مُجرَّد إيصال حزب ما للسلطة ومن ثم يُصبح في مقدوره العبث بالعملية الديموقراطية وتغيير قواعدها, فقد وصل “هتلر” للحكم في 1933 عبر الإنتخابات, ولكنهُ بدأ في تحطيم النظام من الداخل حتى تمكن من إجهاضه بالكامل ومن ثم تحوَّل لأسوأ دكتاتور أوروبي. المدهش في الأمر هو أنَّ أولى الخطوات التي إتخذها هتلر لتقويض النظام الديموقراطي تمثلت في تمرير قانون أطلق عليه إسم “قانون التمكين”, وهو قانون يُغيِّب البرلمان, و يمنح مجلس الوزراء سلطات تشريعية لمدة أربع سنوات, وهى خطوة شبيهة بتلك التي إتخذها الرئيس مرسي عند تمريره لمرسوم جمهوري يحصِّن قراراته ضد أية طعون قضائية.
يتحاشى أهل الإسلام السياسي – ومن بينهم الغنوشي – النظر في “الأسباب الذاتية” التي ادَّت لفشلهم في الحفاظ على الحكم في مصر, ويلجأون فقط لتصدير الأسباب للقوى المعادية لهم, غير أنَّ واحداً من قادتهم الشباب المنفتحين في السودان وهو الأستاذ المحبوب عبد السلام نظر للقضية بكثير من الموضوعية والشجاعة وهو يُحلل أسباب سقوط حكم الإخوان في مصر.
يُعزي الأستاذ المحبوب سقوط مرسي في الأساس لسيطرة التيار “القطبي” (منسوب للأستاذ سيد قطب), ويقول ( فالذين يحكمون الجماعة و السياسة اليوم فى مصر هم التيار القطبى و على رأسه المرشد بديع ومسؤول التنظيم محمود عزت ثم صاحب المال و القرار خيرت الشاطر و أشدهم تعصباً مسؤول الاعلام محمود غزلان صهر الشاطر ، وقد استطاع هذا التيار منذ بضع سنوات أن يطيح بتيار العمل العام ).
ويضيف انَّ هذا التيار ( تدثر بالتقية والالتفاف وآثر البقاء داخل التنظيم حتى إستولى عليه بالتمام فى أوائل القرن الجديد، و بالطبع لا يحتاج العارفون أن نذكرهم أنَّ التيار القطبى يؤمن باستعلاء الإيمان و العزلة الشعورية و جنسية المسلم عقيدته ). ويواصل قائلاً أنَّ هذا التيار ( أخذ أسوأ ما فى تراث الجماعة, وهو الطائفية التى تقوم بالفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم بشبكة علاقاته الاجتماعية و الاقتصادية مما أنتج بالضرورة مجتمع إخوانى يقوم إلى جانب المجتمع المصري بمثقفيه و فنانيه و أساتذته و عماله و نسائه ، ويتبادل معه حوار الطرشان ). لا يخفى على الأستاذ المحبوب أنَّ طائفية الجماعة هى نتاج الفكر الإستعلائي الذي غرسه البنا ورعاه من بعده سيد قطب, فكرٌ يطابق بين الجماعة والإسلام, ويثبت في عقول “الأعضاء/الجنود” أنهم الجماعة المختارة, تأمل كلمات المرشد المؤسس وهو يخاطبهم :
( نحن ولا فخر أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وحملة رايته من بعده ورافعوا لواءه كما رفعوه وحافظوا قرآنه كما حفظوه, هذه منزلتكم فلا تصغروا في أنفسكم فتقيسوا أنفسكم بغيركم. لقد دعوتم وجاهدتم، فواصلوا جهودكم واعملوا والله معكم فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غدا وللسابق عليه الفضل ).
نقول للشيخ الغنوشي أنَّ إصلاح الأخطاء الذي يتطلع له يتطلب مراجعة “جذرية” للأصول الفكرية التي قامت عليها الجماعة, هذه المراجعة تشمل بالأساس الموقف المبدئي من مفاهيم الوطنية والديموقراطية والعلاقة بالآخر (المسلم وغير المسلم), إضافة لنبذ منهج العنف والتشدد والإقصاء والتخلي عن الإستعلاء الذي يقود بالضرورة لطائفية بغيضة ظلَّ يتميز تيار الإسلام السياسي منذ نشوئه وحتى اللحظة الراهنة.
لحين وقوع هذه المراجعات الأساسية ستكون إجابة السؤال : هل فشل الإسلام السياسي حقاً ؟ هى نعم.)). بابكر فيصل بابكر / حريات