(( احتفت جميع صُحُفْ الخرطوم الصادرة يوم الخميس المُوافق الثالث من شهر أبريل 2014 بالـ(مليار) القطري، والذي لم نعرف حتَّى الآن هل هو (وديعة أم منحة أم قرض)! حيث احتلَّ الخبر مكانه كـ(مانشيت) رئيسي في جميع تلك الصُحُف، مع آمال وتطلُّعات وفرحة عارمة تبعثُ الدهشة والـ(حَسْرة) في آنٍ واحد. دهشة عن مُبرِّرات هذه الفرحة وذاك الاحتفاء الـ(مُغالى) فيه، وحسرة للحالة الـ(مُتردِّية) جداً التي بلغناها للدرجة التي أضحت فيه الدولة وبكافة قطاعاتها (تصنع) الـ(فرح) من الـ(هبات) أو الـ(أمانات) أو الـ(قروض) الخارجية، مع تقديرنا بالطبع للـ(مانحين) الذين لا ذنب لهم ولا (تثريب) عليهم في مُساعدتنا، ولكن نتحسَّر لبلوغنا هذه الدرجة من التراجع لتسيير دولتنا..! ويكفي أن تعلموا بأنَّ مبيعات شركة سامسونج لهذا العام فاقت الخمسين مليار دولار، وهي شركة ضمن شركات (أخرى) أصغر من السودان مساحةً وموارد (طبيعية وبشرية)، ونحنُ (وعلى كافة المُستويات) نحتفي بمليار على هذا النحو الـ(مُخجل) والـ(مُدهش)!!
فإنْ كان المليار القطري (وديعة) يبقى عبارة عن حدث لا يُسْمِنْ أو يُغني من جوع، ويعكس سطحية كبيرة في التفكير، بعدما فسَّره (أي المليار) البعض كـ(طوق) نجاة لاقتصادنا الـ(مُتهالك)! وإنْ كان المليار (مِنْحَة)، فهو مبعثُ انكسار وحياء وليس احتفاء وفرحة لدرجة وضعه كـ(مانشيت) عريض ورئيسي في الصحف، وإذاعته في كافة فضائياتنا التي عجزت عن تقديم المفيد أياً كان شكله ووقته! ولو كان المليار القطري (ديناً/قرضاً) يُصبح مصيبة تستحق البكاء والنواح وليس الاحتفاء، لكوننا (غرقانين) في الديون ولا نحتمل المزيد منها ولا تبعاتها والتزاماتها. فالمعلوم لكل (ذي بصيرة) أنَّ الديون واجبة السداد في آجال ومقادير مُعيَّنة مصحوبة بفوائد على تلك الديون في الغالب سنوية، والتي – بلا شك – تتزايد كلما تأخَّر السداد، وذلك بغض النظر عن نجاح المشاريع أو الأغراض التي تم الاقتراض لأجلها من عدمه، مما يُحتِّم على الدول المُقترضة التريُّث والتأنِّي في الاقتراض الخارجي، وإنْ اقتضت الضرورة استدانتها فليكن استخدام أموال الدين في الأمور ذات الأولوية والمُلحَّة عقب دراسات مُتعمٍّقة ودقيقة تضمن أكبر عائدية مُمكنة في أسرع وقت تلافياً لتزايد تكلفة القرض. لا سيما أنَّ من بين أهمَّ أسباب تزايد الديون الخارجية عدم كفاءة السياسات الاقتصادية الداخلية وفشل الإصلاحات الهيكلية، وسيطرة الدولة على بعض مفاصل الاقتصاد وانسحابها من الأخرى أو ما يُعرف بالاقتصاد المزدوج، وتزايد العجز في ميزان المدفوعات والاستخدام غير السليم لأموال القروض الداخلة من الخارج في تمويل أنشطة منخفضة المردودية أو عالية الخطورة أو ضعيفة الإنتاج وبالتالي الـ(ربحية).
الأدهى والأكثر دهشة ما حملته صُحُف يوم الجُمعة المُوافق الرابع من ابريل 2014، من استمرار للاحتفاء بالأثر الإيجابي للمليار الـ(قطري) على سعر العملات الأجنبية (مُقابل) الجنيه السودان، والتي لم يتعدَّ انخفاضها الـ(10 قروش)! حتَّى لو استمرَّ انخفاض أسعار تلك العملات فهذا ليس مبعثاً للاحتفاء وإنَّما العكس! فهو يعني أنَّ اقتصادنا (هش) ويرتكز على القيل والقال وليس لـ(مُؤشِّرات) اقتصادية (علمية وعملية)! فنحن لم نفعل شيئاً لينخفض سعر العملات الأجنبية (10 قروش) خلال يومين! فالمنظور الاقتصادي الأصيل، يرتكز على (قيمة) ما انتجناه وصدَّرناه للخارج وما دون ذلك يُصبح أمراً آخر غير الاقتصاد. كما يُعزز هذا الاحتفاء، لحقيقة (مُخجلة) تتمثل في الـ(فهم) المغلوط للقائمين على أمر الإعلام وضعف، إنْ لم يكن غياب، الثقافة الاقتصادية الأصيلة وإلا ما كانوا فعلوا ما فعلوا..! ولعلَّ ما يُؤكِّد غياب الوعي الاقتصادي الأصيل، سواء على الصعيد الرسمي أو الإعلامي، ما رشح من أنباء وأخبار في (ذات الصحف) بشأن استغلال ذاك المبلغ، الذي يقودنا أيضاً للتشكيك في تصنيفه (في ما إذا كان وديعة أم منحة أم قرض)! حيث كتبت العديد من الصحف عن مشروعات تم الشروع في تنفيذها بذاك المبلغ! مما يعزز القناعة بالعجلة وعدم الدراسة الموضوعية، وبالتالي ضبابية النتائج التي تتمخض عن أي عمل أو فعل متعجل ومتسرع! أو التشكيك بأنَّ المبلغ ليس وديعة كما ذكر البعض؟! وبصفةٍ عامة، ولكي ما (نُقرِّر) مدى الفائدة من ذاك المليار دولار من الأهمِّية قيام المسئولين ببيان نوع هذا المليار وتصنيفه في ما إذا كان وديعة أم منحة أم قرض (بذات الشفافية) التي أعلنوا بها عنه! فإذا كان وديعة تصبح بمثابة الأمانة ولا تحتاج لهذا الزخم ولا فائدة منها ولا أثر لها على اقتصادنا. وإنْ كانت منحة (يعني حَسَنة وفضُلْ)، من الأهمِّية التأنِّي في تبديدها أو صرفها في أمور مُتعجِّلة وغير مدروسة من قبل متخصصين، وتكون محسوبة علينا (كدولة).
وإنْ كان المليار (قرضاً)، فلابد من توضيح شروط سداد هذا القرض؟ ومن أين سنُسدِّده؟ ومتى؟ وما هي أوجه صرفه؟ والعائد المُتوقَّع منه؟ وفترة استردادها ومُعدَّل العائد على الاستثمار؟ ودرجة المُخاطرة؟ وأثر المشروعات الممولة منه على الاقتصاد السوداني وواقعه الاجتماعي؟ وهل هي فعلاً أفضل الخيارات لصرف المليار عليها مُقارنةً مع خيارات (مشروعات) أخرى؟ وما هي أسس ومعايير المُفاضلة التي تمَّ على أساسها الاختيار والنتائج المُتوقَّعة بالأرقام (تكاليف + عائدات) أخذاً في الاعتبار أُسس المُعايرة والمُفاضلة الاقتصادية المُتعارف عليها. إنَّ ظروفنا الاقتصادية غير المواتية، تتطلَّب قدراً عالياً من التدقيق في أوجه الصرف عقب الدراسة المُتعمِّقة والواقعية بعيداً عن الافتراضات التي قد تُصيب أو تخيب. ومن الحكمة والحصافة تقييم الوضع الراهن بهدوء والإقرار بالإخفاقات كخطوة أولى للمُعالجة، ثم الإحجام عن الاستدانة من الخارج كحلول وقتية تُعقِّد أوضاعنا الاقتصادية الـ(مُعقَّدة أصلاً) وتزيدها سوءاً، وعلينا إعادة ترتيب أولوياتنا والتي يأتي على رأسها تقليل الإنفاق الحكومي قدر الإمكان، واستقطاب أكبر قدر ممكن من أبناء الوطن الـ(مُتخصِّصين) في كافة المجالات (وما أكثرهم)، وإتاحة الفُرصة للرأي الآخر واحتماله طالما كان مُقنعاً ومُتخصِّصاً و(عارفاً)، لتلافي أي مُغامرات جديدة لا تحتملها الظروف الاستثنائية التي يشهدُها السودان على الصعيد الاقتصادي، والتي لا تتحمَّل أية إجراءات دون تدبُّر أو دراسة شاملة ومُتعمِّقة حتى إنْ سَمَتْ الأهداف وخلُصَتْ النوايا.. والله نسأله التوفيق.)). د. فيصل عوض حسن / حريات