(دي أيامك، يا ود بخيتي ! )
سيدأحمد العراقي
(فضل المولى ود بخيتي ) قلتلا تعجبك، مناداة ومخاطبة أهلنا القادمين من الصعيد ولا فوق.)
إذ ينادونك ( فضل المولى ود بخيتة)
يحدث كثيرا، أن لا يعرف المحيطون بك، ولا تعرف أنت، أنك المقصود بالنداء أو الحديث.
في عينيك، أرى بعض الظن، أنهم يقصدون الضحك عليك.
أظن ود بخيتة، لا تشبهك، بل قد يتفق كثيرون، أنها لا تطيب لهم ولا تناسبك أنت.
فحين نقول ود بخيتي، نحس أنها هي مقاسك، إذ تذهب عميقا، مثل جذور شجيرات السنط
حديثة النمو، كنا نقتلعها من الشاطئ بعد أن ارتوى، غمره النهر شهورا، وأنحسر مخلفا جرفا
وبذورا لأشجار ونباتات شتى، جذر السنط طوله أضعاف ارتفاع الشجيرة فوق الأرض،
الجذر نسميه الكاجنيب، يمتد كذيل السحالي، التي يفوق طول الذيل عندها الجسم بكثير،
مخروطي يتلوى ويتعرج عند الجري والمشي والسكون.
نلوح بالكاجنيب في الهواء ويحدث صوتا نزهو به، ويكون سلاحنا عند التعارك.
وهذه أيام بدا لي أنها طيبت خاطرك، ولك فيها، من الأسباب ما يجعلك، تبدو مطروح
الجبين، وقد تبتسم وتضحك، ففي جيبك قليل من مال ولازال ببيتك بضع جوالات من
بركاوي وجاو. هي حصيلة تسلقك النخيل ولقاحه، وأخذك نصيبك القليل عينا، هو سبيط
القفوزة كل عام.
أعددت عدتك، الطورية والفأس والمناجل والفرار والكارديق والكريق. نفضت عنها غبار
شهور طويلة مضت، راجعت ثبات أعوادها، وشحذت منها ما يحتاج ويقبل. أظنها فرحة
بك ولك.
أن تكون أنت يا فضل المولى ود بخيتي زول، زى الناس، تعمل وتشترى وتأكل حتى
تشبع أحيانا .
ومعداتك ستعود تعمل مثل العدة الأخري، حفرا، وجزا، وقطعا لعل الحال ينصلح.
فأيام الموسم هذه مباركة، تجلب الحراك وتعمر، شيئا، فشيئا الديار والأحوال،
تتخللها أعمال وأسباب تجعل الصبر ممكنا لعام قادم.
فالموسم، هو أيام يجد خلالها كل من وما بقريتنا بعض الأسباب للابتسام، أيام حصاد
النخيل، كل عام يتوافد أهلنا المهاجرون من شتى بقاع السودان في ذات الميعاد، فسحة
زمن يجددك و يعينك على مواصلة المسير.
التباين يعطى حيوية، وهنا لا تخطئه العين، بين نعومة ملامح و قوة ألون ملابس القادمون
للموسم و غبشة وباهت ملابس أهلي المقيمين، رجال ونساء، صغار وكبار.
بعض أطفال القرية يستدرجون رصفائهم الجدد نحو الحفير والنيل ليرموا، عمدا وحيلة،
الطين عليهم وعلى ملابسهم، ليبدوا كالحين مثلهم.
أيام خلالها سيطرق الرزق بابك يا فضل المولى، بعد جفاء، طال و أمتد شهورا،
ستأتيك طلبات لأعمال تأخذ يومك، وتدخل في جيبك قليل من المال وفي بطنك طعام لا
يخلو من قليل اللحم والدسم. علها تطرد يباس بطنك، وامساك له زمن يلازمك.
الموسم، ثمة نقود تتحرك بيننا، جلاليب وثياب الزراق والبنغالي ومراكيب صنعت في
غرب السودان تهدى ذبائح، تشبعنا وتكثر الحداءآت في سمائنا، عظام تشبع الكلاب
والنمل، وكل متحرك له نصيب. وأنت يا فضل المولى، لك من كل ذلك بعض نصيب.
سيقصد بيتك صبى ويقول لك،
(فضل المولي قالوا لك، تعال، أضبح لنا البهيمي وأسلخها وكسرها وقطعها)
سيدهن شحم الذبيحة أصابعك االجافة مثل الحطب.
غافلهم، وأدهن اليدين و وجهك الناشف كبرش قديم.
أرسل ابنهم الذي يلازمك ليغسل الكرشة في الحفير.
وكل من الكبد وسن البرق تلك الأجزاء التي تحبها، وبك غرم لها.
أنفخ الرئتين ولفهما، أعصرهما بكلتا يديك، ليحدثا ذلك الصوت، صوت البالون وقد ملاه الصبية هواء وعبثوا بسطحه، دع رائحة اللحم والدم والشحم من كشنة وزفارة تملأ أنفك و صدرك
لتطرد أبخرة الجوع والحرمان، فقد لا تمس اللحم إلا في عامك القابل، ولم تعد العين تملأها
التراب.
خذ من الدهن وزيت أعوادك، التي تحملك، قدميك والساقين حتى الركبتين.
مثلما فعلت خلال الأعوام الماضية في مثل هذه الأيام.
ستفطر يا فضل المولى، وتأخذ رأس الخروف والجلد وشي من المال وقد يكون معها
عراقي جديد أو مستعمل.
ولاندري، هل تحمل البطن الساقين ، أم يحملانها؟ أو كما كنتم تسألونا ولا نجيب
:
(قريبي شايلي شعيبي أم شعيبي شايلي قريبي؟)
ويبدأ النيل في الانحسار يزول هم احتمال الفيضان المدمر، وعائد الحصاد وصل
وجرى في الأيادي.
آن الزواج، الختان ولبس الجديد، حل الديون السنوية ( الجرورة) وأنت في جزء من العام
يصير العيش فيه مختلفا وممكنا بقريتنا.
وفضل المولى في حال طيب، يعطي ويأخذ.
(فضل المولى تعال كسر لنا الحطب وأملأ الازيار)
أعمال وطعام وقروش، فهذه أيام رحمة تزرع في جدبك بعض الخضرة وفي جيبك شي من
الفرج، وتشد أزرك لتواصل.
هذا فصل النفير والفزعة، بناء غرفة أو ترميم بيت، غرس شتل، أتفاق لمزارعة بين
صاحب نقود فائضة ومالك لأرض بور.
حلالك، يا فضل المولى ود بخيتي، فأنت وآخرين، من سيحولون الأرض إلى مشروع
بستان، فالموسم يأتي بخيره، صيانة تحفظك لعام قادم.
أيام لدى البعض، فرصة لا قتناء الذهب، أثاثات وأواني منزلية جديدة، بعضنا يكتفي
بصابونة بوكية أو فنيك ( صابونه أم ريحي) ليغير صابونة الغسيل التي تغسل الملابس
وأواني الأكل والناس لبعض الوقت.
الفأس ومعدات تسوية الأرض وتنظيفها من واسوق وأربل وكارديق، كذلك التيس وفحل
الحمير، هذه ملكيات عامة بقريتنا تنتقل حسب الحاجة وبلا مقابل. مضى زمان أعفى النار
وإبرة الخياط من التنقل.
الموسم، زوجات لم يغشيهن الأزواج لشهور، يكثرن من الحناء ويتصاعد دخان الطلح
وروائح أخواته ويجعلان قريتنا مسرحا لعشق مباح ومتاح ورجاء ذرية لرجال عادوا
وسيرجعون لبقاع أرزاقهم، سيحملنها الأمهات ويضعنها لرجال غائبين في الصعيد.
هذه أيام في قريتنا، يصير خلالها التفاهم سهلا، فكل له بعض مما يجرى ويحدث.
الطقس معتدل، فتلك أيام تعقب صيف الصحراء الغليظ، أنسام متقطعة نهارا وتطول ليلا،
تمطر أحيانا يفرح الصغار ويشفق الكبار على محصولهم، هواء جنوبي رطب يسبق
شتائها الجاف وهوائه الشمالي غارس البرد.
الموسم، وقت ارتخاء ومزاج طيب لدى الجميع، ضغوط العيش رفعت مؤقتا، هناك رغبة
في المشاركة والحرص أن تكون جزء من الكل.
أراك مسحت على شاربك، يا فضل المولى، وحركت يدك اليسرى بين فخذيك عدة
مرات، أظنك شميت العافي يا فضل المولى؟ هنيئا لك، فكلنا نفعل ذلك، ولسنا أفضل
منك.
تزدحم المساجد، تعقد فيها الزيجات، وتثار من جديد مسائل زيارة الأولياء وقبابهم،
والقباب عندنا أقدم من المدارس ونقط الغيار وكل عام يحاول البعض إثبات حرمة
التمباك، والكل يحضر ليالي المولد العثماني و حلقات المديح.
هذه أيام خصوبة عيش و آمال، أحضان النساء تشتاق العائدين، أراضي أعدت لزراعة
برسيم جديد أو رقاعة قديم، فحول الحمير والماعز تتنقل فوق ظهور إناثها بعد علف
وافر، خالطه فاسد البلح، وبعض فتية مراهقون بتلك الإناث يتربصون.
(فضل المولى، قالوا لك التمر خلاص نشف، تعال عبيه وخيط الشوالات)
وقد يكون في الأمر فطور وغداء مع الأجر يا ود بخيتي.
أيام يفد إلى قريتنا خلالها الرحل, الحسا نية والهواوير جالبين الحرجل والحمريب والعطر
ون، للعمل في لقيط البلح أخذ نصيب من خيرات الموسم بذلا أو خلسة أحيانا.
نزل النيل وأنحسر، الجروف لينة شبقه للسلوكة وبذور اللوبيا، الفاصوليا، الترمس و
القرعيات، حين تجدها منفلقة تعلم أن أهلك قد طابت خواطرهم وان في الزمان فسحة
وتمنى لا يخيب أحيانا.
(مبروك، يا فضل المولى، العراقي الجديد، والصلاة على النبي، كمان المركوب جديد؟
والطاقية، حمدتو ماجحتو، تقطعن بعرق العافي ، إن شاء الله)
فرحت الصبريدو، بالجديد الذي أصبته، ترجتك أن تذهب للنهر وتستحم، أصرت أن تذهب
معها، لتفش لك العراقي و لتعطيك ما تبقى لها من بروة صابون، استحلفتك:
(عليك سيدي، إترشا بالموية بعدين ألبس الجديد، هي وب علي تسكت تلبس فوق كدوبك دا؟)
قرأت في عينيك ما قلته لنفسك ( أها العراقي أتفشى، أنا البيفشني شنو؟ ومنو؟)
ثم أفرغت القاطرات ديارنا، و أخلت اللواري وافدي الموسم، ذهبت بهم جنوبا وشرقا
وغربا، أحس فضل المولى بالهجر كثيفا يحل بالمكان. رحلت الحركة مصطحبة العشم،
وحل السكون وخدر الإنتظار.
انطوت مع العائدين خيوط أرزاق الموسم، خيوط معلقة بهم، يفكونها عند وصولهم البلد،
وأثناء مكوثهم بها، ثم تنطوي أو يطوونها معهم. مثل الضوضاء والزحام والأحاديث التي
ترافقهم سنويا، تنتظرها، تفرحك، تربكك، وتخرب الطبع فيك، ولا تدوم طويلا.
كنسيم ورزاز ينعشانك قليلا، نور أضاء لك برهة وتلاشى، جرعة سنوية تمدد حبل صبرك .
(فضل المولى ود بخيتي ، قول يا حي للسنة الجاي)
بقي معك خيطك القديم، وقذف فضل المولى ود بخيتي، بخيط سنارته في النهر، علها
تأتي بشي من الرزق الذي غادر البلد.
سيدأحمد العراقي
sideragi@hotmail.com