وضعت الفأس على أصل الشجرة !!
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
صدق الله العظيم
سعدت، كآلاف القراء، بالمقال الرصين، الذي كتبه الأستاذ تركي الحمد، ونشرته صحيفة العرب اللندنية، في عددها رقم 9651 بالصفحة السادسة، بتاريخ 17/8/2014م. ذلك أنه مقال نادر بين كتابات المثقفين العرب المسلمين. فقد أوضح بجلاء، عمق الأزمة التي نعيشها في كافة بلادنا العربية والإسلامية، حيث نتأذى كل يوم، من مختلف الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي اصبحت تجتاح المدن، والقرى، تقتل الأبرياء، وتسبي النساء، وتحطم المنشآت، وتثير الذعر والخراب، باسم الإسلام !! وحين نهرع الى علمائنا، وأئمة مساجدنا، ووعاظنا، مستنجدين بهم من فظائع ما تفعل بنا “داعش” ، أو ” القاعدة” ، أو غيرها من الجماعات المتطرفة، لا نسمع منهم إدانة لهذه الجماعات، ولا فتاوى ضدها، ولا تحريض للمسلمين عليها !! والسبب في كل ذلك الخذلان، هو ما ذكره الكاتب، من أن فقهاءنا، وعلماءنا، ووعاظ مساجدنا، لا يختلفون في فكرهم، عن فهم هذه الجماعات المتطرفة، وإن قصروا في فعلهم عن منكراتها !! يقول الأستاذ تركي (الأزمة كل الأزمة يا سيدي الكريم تقبع في ذات الفكر، وذات الخطاب، ومفردات الفقه الذي يحمله هؤلاء عبر القرون والسنين، ولا يستطيعون النظر من منظار غيره، ولذلك هم غير قادرين على التصدي لجماعات العنف والتطرف وحزّ الأعناق، لا لكسل أو تكاسل، بل لكون الجميع يشتركون في ذات الفكر وفي ذات المقولات، وينطلقون من ذات الفقه، ويقولون بذات الخطاب، ولذلك كيف يمكن لهم أن يتصدوا لفكر هم أنفسهم يحملون أسسه في دواخلهم، وتلافيف أدمغتهم؟)(صحيفة العرب 17/8/2014م).
الإجتهاد يجب ان يكون في النص:
ولعل جوهر المشكلة هو أن فقهاءنا نقلوا عن السلف، دون تفكير، وقدسوا آراءهم، دون النظر فيها بعمق، رغم اختلاف زماننا، وطاقة، وحاجة، ومشاكل، مجتمعاتنا عن الأمم الماضية .. وعن ذلك قال الأستاذ تركي (مشكلتنا تكمن في فقهنا الذي نستمده من هذا وذاك من سلف عاش أيامه واجتهد مشكورا في استنباط أحكام قدسناها رغم أنها تخص ذاك الزمان ومشكلاته، ولكنها أحكام لا تصلح لزماننا)(المصدر السابق). ومن أخطر ما تناقله علماؤنا عن السلف عبارة ( لا أجتهاد مع النص) التي رددوها كثيراً واتفقوا عليها وكأنها حق مطلق .. وخطورتها أنها قفلت كل السبل للإجتهاد الحقيقي، فما دامت الأحكام التي جاءت بها النصوص باقية كما هي، لا يمكن فهمها بصورة أخرى، فسيظل الناس أسرى لها .. والجماعات المتطرفة، التي تقوم بالقتل اليوم، وتعتبره جهاداً في سبيل الله، تدعم كل أفعالها حتى سبي النساء، واسترقاقهن، وبيعهن، بالنصوص القرآنية ونصوص الحديث النبوي !! ولهذا لا يستطيع الفقهاء معارضتها، ما داموا يرون أن احكام النصوص باقية كما هي، وأن فهمها الأكمل، هو ما تناقله السلف، عن الأصحاب رضوان الله عليهم ..
والحقيقة إن عبارة ( لا اجتهاد مع النص)، والتي تعني أنه لا يجوز الإجتهاد، في أمر وردت فيه آية، أو حديث، ويمكن الاجتهاد فقط فيما لم ينزل فيه نص، عبارة خاطئة من عدة وجوه .. ولكن ابرز هذه الوجوه هو ان الأمور التي لم ينزل الله فيها نصاً من قرآن أو حديث، لا أهمية لها عنده سبحانه وتعالى، فلو كانت مهمة، لأنزل فيها نصاً .. فلماذا نجتهد في أمور عديمة الأهمية عند الله، ونترك الأمور المهمة، التي أنزل فيها الله سبحانه وتعالى النصوص ؟! إن الإجتهاد الحقيقي يجب ان يكون فيما ورد فيه النص، بمعرفة الحكمة وراء النص. فإذا خدم النص غرضه، حتى استنفده، يجب ان يترك العمل به، ويطبق النص القادر على استيعاب حاجة وطاقة المجتمع، في الوقت المعين. ولنضرب لذلك مثالين : أما المثال الأول فهو أيقاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة فقد جاء في ذلك الأمر :
(فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات ، ولم ينكر أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا أبا بكر وسألوه أن يكتب لهم خطا كتابة رسمية بسهامهم ، فأعطاهم ما سألوه ، ثم جاءوا إلى عمر ، وأخبروه بذلك ، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام ، فأما اليوم فقد أعز الله دينه ، فإن ثبتم على الإسلام ، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف ، فانصرفوا إلى أبي بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنه … ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله )( مجلة البحوث الإسلامية الجزء 29 ص 117). ومعلوم ان حق المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وارد في صريح النص القرآني الكريم، قال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ومع ذلك منعهم عمر رضي الله عنه، لفهمه الحكمة وراء النص، ثم زوال هذه الحكمة، بعد ان قويت شوكة الإسلام.
وأما المثال الثاني، فهو الحديث المشهور، في صحيح البخاري (عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة). فإن الحكمة وراء تحريم التصوير، والتماثيل، والرسومات، هي أن الناس حين كانوا حديثي عهد بالاسلام، يخشى عليهم إذا رأوا التصاوير، الحنين الى عبادة الأصنام، التي اعتادوا عليها زمناً طويلاً .. أما المسلمون اليوم، فإن هذا الأمر لا يقوم في حقهم، بل إذا رأى أحدهم لوحة متقنة، أو نحت لتمثال متقن، أعجبه صنعه، فإنه سيرى فيه قدرة الله، التي وهبت الفنان، هذه المهارة الفذة، ولن تحدثه نفسه بعبادته. ثم ان الصورة أصبحت من ضرورات حياتنا، فلا يخلوا منها بيت، وهنالك الصورة المتحركة في التلفزيون، وفي الكمبيوتر، وفي الجوال والتي نحتاجها في عملنا وفي دراستنا، فلا يصح أن نلغي كل هذا، بسبب الحديث، بدعوى ان أي نص واجب الاتباع، ولا يمكن الإجتهاد فيه.
تطوير التشريع الإسلامي :
يقول الاستاذ تركي (آن أوان التجديد، والخروج من عباءة أصبحت ضيقة علينا، ومعيقة لحركتنا، دون سند من دين أو عقل، بل هو التقليد المميت بخيره وشره. وقانا الله شر الأزمات، ما ظهر منها وما بطن، ولكن لنتذكر دائما أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه عاقبة الأمور). وإني إذ أتفق مع الأستاذ تركي، في ان الوقت قد حان لطرح فهم جديد، من الدين، يحل مشاكل عصرنا، أقترح عليه، وعلى القراء، النظر، والتأمل، والبحث الصبور، في ما طرحه المفكر السوداني، الشهيد الأستاذ محمود محمد طه (1909-1985م) فيما أسماه تطوير التشريع الإسلامي. فقد ذكر أن الإسلام كما جاء في القرآن الكريم، وكما بلغه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن مستوى واحداً، وإنما كان من حيث التشريع مستويين. أحدهما أصل، والآخر فرع، أي أحدهما هو مراد الدين بالاصالة، والثاني مستوى فرعي تنزل عن الأصل، حتى يناسب حاجة المجتمع في القرن السابع الميلادي، والقرون التي تلته مما هي مثله.
أما المستوى الأصل، فقد جاء سائره في القرآن المكي، وقليل من القرآن المدني، الذي نزل في أول العهد بالمدينة، ولهذا سمى الأستاذ محمود القرآن المكي، قرآن الأصول .. وهو الذي طرح مستوى إنسانياً، رفيعاً، يقوم على المسؤولية، ولذلك أعطى الحرية الكاملة، والمساواة التامة، وقرر كرامة الإنسان، من حيث هو إنسان. ولقد ظل النبي الكريم، عليه السلام، يدعو الى هذا المستوى، الأصل، ثلاثة عشر عاماً، هي عمر الدعوة في مكة. ولهذا أكد على حرية الإعتقاد، قال تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) فأعطى أهل مكة الحق في ان يكفروا ثم يذهبوا موفورين !! ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم، وفياً لهذا الأصل، فلم يقاتل في مكة أحداً، ولم يدفع الأذى عن نفسه، ولا عن اصحابه، الذين كان يعذبهم جبابرة قريش، في بطحاء مكة .. وكانت الدعوة بالتي هي أحسن، وكان القرآن المكي، يخاطب ب ” يأيها الناس” ويا ” بني آدم”، ليؤكد الدعوة الإنسانية، التي في ظلها يتساوى البشر، دون تمييز بينهم، بسبب إختلاف أديانهم .. وقد أمر الله تعالى النبي صلى لله عليه وسلم أن يخبر الكفار بقوله (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .. فهو وان إختلف معهم في العقيدة، يقر لهم بأن ماهم عليه دين، ولا يطلب منهم إلا الاعتراف بدينه، كما اعترف بدينهم !! ولقد استمر هذا المستوى الرفيع، ثلاثة عشر عاماً حتى قامت الحجة على القرشيين، أنهم لا يستحقونه، وهو لا يصلح لهم، بدليل أنهم تآمروا على الرجل، الذي دعاهم بالحسنى ليقتلوه، ويفرقوا دمه بين القبائل، وحين لزمتهم الحجة، بعجزهم عن المستوى الرفيع، نسخ في حقهم، وأحكم فيهم المستوى الثاني-المستوى الفرع من الإسلام، الذي يقوم على الوصاية، ومصادرة الحرية بحد السيف، وقد جاء سائره في القرآن المدني، الذي أسماه الأستاذ محمود قرآن الفروع.. ولقد تدرج هذا الخطاب بالناس، حتى جاء قوله تعالى من سورة براءة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). جاء في تفسير هذه الآية ( ” فاذا انسلخ الاشهر الحرم ” أي اذا انقضت الأشهر الاربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم … قوله ” فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ” أي من الأرض وهذا عام والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم .. قوله ” وخذوهم ” أي وأسروهم إن شئتم قتلاً وان شئتم أسراً قوله ” واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ” أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم . بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم الى القتل او الاسلام ولهذا قال ” فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم ” ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وامثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الافعال وهي الدخول في الاسلام والقيام باداء واجباته …
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ” أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ” الحديث … وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم انها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة وانسلاخ الاشهر الحرم …)(تفسير ابن كثير – الجزء الثاني 317 -318 طبعة دار الحديث القاهرة) . أما أهل الكتاب من يهود ونصارى فقد قال تعالى عنهم (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) جاء في التفسير ( قوله تعالى ” قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين آتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ” … وهذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب أمر الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع … قوله ” حتى يعطوا الجزية ” أي إن لم يسلموا ” عن يد ” أي عن قهر وغلبة ” وهم صاغرون ” أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام واذا لقيتم احدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه …) (المصدر السابق ص 332 ). ومن هنا من مستوى الإسلام الفرع، وليس الاصل، قام الجهاد، وتبعته ملحقاته من الاسترقاق، وملك اليمين، وعدم المساواة بين المسلمين وغيرهم، وعدم المساواة بين الرجال والنساء، وكافة صور الوصاية، التي فصل فيها القرآن المدني. وما كان من الممكن أن تقوم أحكام الإسلام الفرع في التطبيق، إلا إذا نسخت الآيات التي يعتمد عليها الإسلام الأصل، ولهذا نسخت آيات الفروع آيات الأصول .. ومن هنا نسخت آية السيف، آيات الإسماح، ونسخت أحكام الوصاية العديدة، أحكام المسؤولية والحرية. وكان هذا النسخ بمثابة تنزل التشريع من الاصل، وهو الحرية، الى الفرع وهو مصادرة الحرية بالسيف، تقديراً لحاجة وطاقة المجتمع، في القرن السابع الميلادي. إذ دعا النبي صلى الله عليه وسلم، على رفعة خلقه، الناس بالتي هي أحسن، فلم يستجيبوا، ودلوا على أنهم دون مستوى تلك المسؤولية، فصودرت عنهم، وأحكم فيهم، ما يتناسب مع ثقافتهم وطاقتهم من الحرب والقتال. ولما كانت أحكام الوصاية التي جاءت في فروع القرآن،والتي قامت عليها الشريعة الإسلامية، لا تناسب طاقة وحاجة مجتمعنا المعاصر، فقد عجز دعاة الشريعة عن تطبيقها، في كل مكان، في وقتنا الحاضر .. ولقد فهم السلف أن النسخ إلغاء دائماً لحكم النص المنسوخ، ولهذا ظنوا أن أحكام الشريعة، القائمة على فروع القرآن باقية الى يوم القيامة !! ونقل عنهم علماؤنا المعاصرون، هذا الفهم الخاطئ، مع أن النسخ إرجاء وليس إلغاء. ولقد كان الاستاذ محمود يسأل الفقهاء : إذا كانت الآيات التي نزلت في أول العهد، وعجز الناس عن تطبيقها، في الماضي، ونسخت سيظل نسخها سرمدياً، فما هي الحكمة من إنزالها ؟! ولم تكن هنالك إجابة . فكان يقول لهم إذن النسخ إرجاء، وليس إلغاء، وإلا أصبح تغيير رأي، وعن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.
بعث الأصول :
إن بعث الإسلام، في الوقت الحاضر، ليواجه التطرف والهوس الديني، لا سبيل إليه، إلا ببعث آيات الأصول، التي تمثل أصل الدين الإسلامي، والتي نسخت في الماضي، لأنها كانت أكبر من طاقة المجتمع، وهي تناسب اليوم مجتمعنا تماماً .. فإذا كان التشريع الإسلامي قد منح الناس حق الكفر في مكة، ثم جاء وصادر ذلك بالسيف في المدينة، فإن هذين مستويين من الحكم لا يقومان في نفس الوقت، فالمسلمون لايمكن أن يشرعوا لقتال المشركين وأهل الكتاب، وعدم قتالهم في نفس الوقت .. فإذا إلتزموا بعدم قتال الوثنيين، وأهل الكتاب، ودعوهم بالتي هي أحسن، فقد طبقوا القرآن المكي-قرآن الأصول المنسوخ، شعروا بذلك أو لم يشعروا.. أما إذا دعوا اليوم الى إحكام الجهاد، وقاتلوا غير المسلمين، من وثنيين وأهل الكتاب، فإنهم قد طبقوا القرآن المدني-قرآن الفروع الناسخ، وهذا ما تقوم به داعش و القاعدة، وطالبان، وكافة الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي تقتل أي شخص غير مسلم، على أساس أنه كافر، وأي شخص مسلم مخالف لهم في الفهم، على أساس أنه مرتد، وتسبي نساءهم، وتصادر أموالهم، كما فعل المسلمون الأوائل، إستناداً على فروع القرآن.. وعندنا في السودان، قد قامت حكومة الأخوان المسلمين، منذ بداية عهدها، بإعلان الجهاد على جبال النوبة، وجنوب السودان، فقتلت عشرات الآلاف، وشردت مئات الآلاف، مما أدى الى إنفصال الجنوب وتمزيق أوصال الوطن في حروب لا تزال مشتعلة حتى اليوم.
إن تطوير التشريع الإسلامي، ببعث آيات الأصول، التي تحوي المستوى الإنساني من الدين الإسلامي، ليس مجازفة بالرأي الفطير، وإنما إتباع لأرفع ما جاء في ديننا، إمتثالاً لقوله تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ولقد شمل التطوير كل أوجه الحياة من إقتصاد، واجتماع، وسياسة، مما ورد تفصيله في مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه، والتي تجاوزت الثلاثين كتاباً، والتي يمكن للقارئ الكريم، أن يجدها مع محاضرات وحوارات مسجلة، بصوته، على الإنترنت على موقع الفكرة
WWW.alfikra.org
طريق محمد
ومما أعجبني في مقال الاستاذ تركي قوله (فلسنا سلفيين أو صوفيين أو سنة أو شيعة، بل نحن مسلمون أولا وآخرا وكفى. نبينا محمد، وليس ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبدالوهاب، نبي الهدى هو محمد بن عبدالله وكفى، و”كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر”، كما قال الإمام مالك بن أنس، وهو يشير إلى قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم). أما الأستاذ محمود محمد طه، فقد ربط بعث الإسلام في مستوى الأصول، بالتربية .. وجعل إتباع النبي صلى الله عليه وسلم منهاج التربية، التي تفضي بصاحبها، الى كمالات الدين العلى. فقد أصدر كتاباً في مارس عام 1966م اسماه ” طريق محمد”، وجعل شعاره في أول صفحاته ( بتقليد محمد تتوحد الأمة ويتجدد دينها).. وجاء في إهدائه ( الى الراغبين في الله وهم يعلمون، والراغبين عن الله، وهم لا يعلمون .. فما من الله بد ). وعن شخصية النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، جاء ( هذه نفس اكتملت لها عناصر الصحة الداخلية، واتسقت قواها الباطنية، وتحررت من الاوهام، والاباطيل، وسلمت من القلق، والخوف العنصري ، البدائي، الساذج .. ما أحوج بشرية اليوم ، كلها، الى تقليد هذه النفس التي اكتملت لها اسباب الصحة الداخلية ، تقليداً متقناً يفضي بكل رجل، وكل إمرأة ، الى إحراز وحدة ذاته، ونضج فرديته، وتحرير شخصيته، من الاضطراب ، والقلق الذي استشرى في عصرنا الحاضر بصورة كان من نتائجها فساد حياة الرجال والنساء والشبان في جميع أنحاء العالم )( محمود محمد طه-طريق محمد –الطبعة الثالثة ص 16).
الدكتور عمر القراي / حريات