مذكرات البكباشى/ زاهر سرور الساداتى.. عن حرب فلسطين 1948 ..وصور حصرية تنشر لأول مره ...
مذكرات البكباشى / المقدم (م)
حربنا ضد اليهود :
بعد نشوب الحرب بين العرب و اليهود تطوعت للذهاب للميدان للحرب ضد اليهود سنة 1948م سافرت على رأس أول سرية من المتطوعين و بارحنا الخرطوم بالقطار فى 21-5-1948م بين تهليل كبير من
الجمهور من نادى الخريجين بامدرمان حتى محطة السكة بالخرطوم فى طابور عظيم و قوبلنا فى الخرطوم بحرى و شندى و عطبرة ووادى حلفا بحفاوة بالغة ووصلنا الشلال و ركبنا القطار الى محطة باب الحديد بالقاهرة و عند وصولنا لها قابلنا رئيس هيئة أركان القوات المصرية اللواء عثمان المهدى باشا و صافحنا مرحبا مسرورا و ركبنا العربات المخصصة لنا وذهبنا الى معسكر هاكستيب الذى يقع شرق مطار القاهرة الدولى ووجدنا بعض المتطوعين من الحجاز و تونس و المغرب فقابلونا بحفاوة بالغة و كنا نحن القوة النظامية المدربة و كنا نعلم المتطوعين كيفية استعمال السلاح و رمى القنابل اليدوية و بعد يومين حضر لنا بالمعسكر الفريق محمد حيدر باشا وزير الدفاع و القائد العام للجيش المصرى و كنا مصطفين فى ارض الطابور و استعرضنا و خطب فينا مشيدا بحسن النظام و شجاعة الجندى السودانى و قال ايضا انه مسرور لحضورنا لمؤازرة الجيش المصرى الذى لا ينسى اخوته السودانيين ، و فى مساء نفس اليوم تحركنا الى محطة القاهرة و ركبنا القطار و عبرنا قنال السويس و دخلنا سيناء و فى مساء اليوم الثانى وصلنا الى غزة و هناك قابلنا الاميرالاى محمد نجيب بك قائد الالاى الضارب بالموقع و رحب بنا و معه كل ضباطه و احضروا لنا الشاى و البسكويت ثم عشاءا ساخنا و كانت مقابلة لا تنسى من ذلك القائد الملهم و الاديب الممتاز .
فى اليوم الثانى تحركنا بعربات الجيش المصرى الى (المجدل) و هى مقر رئاسة القوات المصرية بفلسطين و قد قوبلنا بحفاوة بالغة من اللواء أحمد محمد على المواوى باشا و هيئة اركان حربه و تناولنا الغذاء بميس الضباط و من ثم صدر الامر الى قوتنا و سرية مكونة من خمسة ضباط و 125 جندى بالتوجه الى (اسدود) الخط الأول للقوة المصرية أمام العدو اليهودى ووصلنا هناك بعد ساعتين فلا تسل عن الحفاوة و الابتهاج الذين قوبلنا بها من الالاى الثالث المصرى المعسكر هناك و هو يحتوى على الكتائب الرابعة و السادسة و السابعة و كان قائد الالاى هو الاميرالاى محمد أبوالعينين ، و كان قائد الكتيبة السادسة هو القائمقام جاد سالم و كان بالسودان بسلاح الهجانة ببارا و أركانحرب الكتيبة هو الصاغ جمال عبدالناصر(الزعيم العظيم فيما بعد) و القائمقام عبدالحميد بدران و هذا الضابط كان برتبة الملازم ثانى بفرقة العرب الغربية بالفاشر عندما خرج الجيش المصرى من السودان سنة 1924م ووالده اليوزباشى ابراهيم بدران الذى كان مأمورا لمركز النهود بمديرية كردفان و مدة وجوده بالسودان تزوج كريمة الامير يونس الدكيم التعايشى المشهور فى المهدية و رزق منها بعبدالحميد هذا و لذا كان يحضر الى معسكرنا باستمرار لان السرية السودانية ألحقت من حيث الضبط والربط بالكتيبة السابعة و كان يطلب منا ان نعمل له القهوة السودانية و ملاح الويكة التى كان يحبها كثيرا ، القوة المصرية باسدود كانت مستحكمة بشكل نصف دائرة مرتكزة على البحر الابيض المتوسط شمالا و الى الجنوب فوق التلال المقابلة للعدو الذى هو محتل التلال الشرقية و بيننا وادى عميق يفصلنا و المسافة بيننا 300 ياردة فقط و نحن نرى العدو بوضوح و يرانا
فى يوليو سنة 1948م زارنا باسدود صاحب الجلالة الملك فاروق القائد الاعلى للقوات المسلحة المصرية و ملك مصر و قبل حضوره صدر الامر من قائد الالاى لكل الضباط بالحضور الى خيمة الرئاسة و لما اكتمل العدد جمعنا و قال لنا احلفوا اليمين على ان لا تقولوا لاحد ما سوف ألقيه عليكم فحلفنا اليمين ، و هنا قال لنا ان جلالة الملك سيحضر باكر بالطائرة الى المجدل و منها بالعربات المدرعة الى اسدود و سيزور كل وحدة فى موقعها و عليكم ان تخبروا الجنود فقط عن حضور ضابط كبير لمشاهدتهم و اثناء مروره لا أحد يلتفت للخلف لرؤيته بل كلهم يكونوا فى حالة الاستعداد متجهين الى خنادق العدو بدون اى كلام و لا أى حركة ، و انصرفنا كل ضابط الى موقعه بالقطاع و صرفنا الاوامر بصفة سرية وكررنا الامر بأن لا يتكلم أى أحد عن الزائر ، هذا الاستعداد و التصرف هو لمنع تسرب الخبر الى العدو لأن العدو اذا عرف ميعاد وصول الملك فإنه بلا شك سوف يرتكب حماقة كبرى و يهجم بالطائرات و المدرعات لقتله لأنه وقع بين يديه على مسافة قريبة جدا .
وصل الملك ومعه الفريق محمد حيدر باشا وزير الحربية و نحو عشرة من كبار ضباط الجيش و مر على كل مواقع الجنود مشيا على الاقدام و كان لابسا لبس الميدان و بدون علامات على الاكتاف و لا شرايط على الصدر و هكذا كل الحاشية التى كانت برفقته ، و كان الملك اطول قامة بين كل الضباط المحيطين به عدا الفريق حيدر الذى كان مساويا له فى ارتفاع القامة و امتلاء الجسم ، و لما وصل موقع الجنود السودانيين اعطيته التحية العسكرية فسلم علىّ باليد و قال لى انه مسرور جدا لوجود الجندى السودانى كتفا لكتف مع الجندى المصرى و انه يعرف من قبل تاريخ الجندى السودانى و شجاعته و قوة شكيمته ، و سألنى هل تلزمكم أى حاجة فأجبته لا يا صاحب الجلالة بل نحن فقط مستعدون لتلقى الامر بالهجوم على العدو و هنا إلتفت الملك الى الفريق حيدر و قال له اصرف للعساكر السودانية كل شيئ يريحهم خصما على ميزانية قصر عابدين و فى هذه الأثناء كان جنودى فى حالة الاستعداد الكامل متجهين للعدو و البنادق معمرة و السونكيات مركبة و القبعات الحديدية على الرؤوس و كنا نحن أقرب لمواقع العدو من كل مواقع باقى الوحدات فى الميدان و كانت المسافة بيننا و بين العدو لا تزيد عن 200 ياردة و يفصلنا وادى عميق يكبر أى صوت و ذهب الملك الى خيمة الرئاسة و دعى كل الضباط لمقابلته و قال لهم أنه مسرور جدا من حالة الجنود و صحتهم و روحهم المعنوية البادية و أمر بأن أقدم ضابط و أصغر ضابط فى كل وحدة ان يذهبوا الى العريش لتناول طعام الغداء معه بمنزل محافظ العريش و ذهبنا فى رتل طويل محاطا بالقوة الكافية لحمايتنا و عند وصولنا و هى مسافة 100 غربا من اسدود وجدنا الاكل الملوكى الشهى قد أحضر من قصر عابدين بالقطار من القاهرة و هى انواع من الاكل لم نراها من قبل و بعضها لم نعرف كيف تؤكل مع ادوات المائدة الكثيرة التى وضعت بين تلك الصحون ، و كان الملك يتوسط المائدة و كان يظهر عليه المرح و الانبساط و ينكت مع الضباط و نادانى و قال لى يا قائد السودانيين تعال و أقعد جنبى و هنا قام أحد اللواءات من كرسيه بجانب الملك و جلست عليه و فى الواقع انى كنت فى غاية الاضطراب لهذه الجلسة التى ما كانت فى خيالى فى يوم من الايام و كان الملك متبسطا معى طوال تناول الطعام و من وقت لآخر يقول لى كل كل كل أنت ضيفى ، و هذا التكريم لى من الملك كان موضع إعجاب من كل الضباط و عددهم أربعمائة ان يروا الضابط برتبة الصاغ(رائد) يجلس على يمين (المشير) و هى رتبة الملك فى القوات المسلحة المصرية .
و امتد البساط مع الاكل اللذيذ و المزاح و التنكيت لغاية الساعة 30 4 مساءا و هنا استأذنت جلالة الملك فحضرنا من مواقعنا باسدود و الان الظلام يوشك ان يخيم علينا و نحن لم نعطى كلمة( سر الليل) لجنودنا و ذهابنا بهذا الطابور الطويل من العربات سيكون هدفا بارزا للعدو و هى منورة فالتمس من جلالتكم ان تسمح لنا بالانصراف لأن وراءنا مسئوليات ، و هنا صفق الملك بكلتا يديه و قال مظبوط مظبوط فأذهبوا و أنتم مشكورين و الله يساعدكم و مع السلامة . ولما ابتدأنا نركب العربات اجتمع حولى كثير جدا من الضباط و قالوا نهنئك أنت شجاع قوى ما حدش كان قادر يقول للملك الكلام ده .
عدنا من الغداء الملوكى الى مواقعنا و بعد يومين من زيارة الملك صدرت الاوامر بالهجوم على العدو فى 18-7-1948م ، و قد جمع قائد الالاى كل الضباط و بسط لنا معلوماته من واقع ما وصله من مدير مخابرات التجريدة و من ثم صدر أمر العمليات كتابة لكل قائد كتيبة و قائد الكتيبة ان يصد أمره المفصل أقرب من مواقعها للعدو ان تبدأ الهجوم ، وقائد الكتيبة السابعة جمع الضباط و كنت انا ضمنهم لأن السرية السودانية كانت ملحوقة بتلك الكتيبة و كان العدو متجمعا فى منطقة (بيت دوراس) جنوب شرق اسدود و بعد المناقشة و الحوار بين قادة السرايا اتفقوا على ان تكون السرية السودانية راس الحربة للهجوم و عينوا ساعة الصفر30 03 ميعادا لابتداء المعركة و ذهبت انا الى مركز قيادتى و جمعت الضباط قادة الفصائل و هم المرحوم اليوزباشى عثمان عبدالله ، و المرحومين الملازم اول على رمضان ، و الملازم اول على محجوب ، و الملازم اول آدم محمد ، و الملازم اول حسين احمد خليفة الذى قتله المتمردين بتوريت سنة 1955م ، و المرشد الدينى للسرية المرحوم الاستاذ عبدالله شوقى الاسد ، و اخبرتهم بأوامر الهجوم و كيفية التحرك من موقعنا لجهة العدو و أمرتهم بالذهاب كل منه الى موقعه و يخبروا فصائلهم فصائلهم و جماعاتهم و يستعدوا و يعطونى التمام و عادوا لى فى الساعة 0200 وقالوا لى كل شيئ جاهز و هم على أتم استعداد للتحرك ، محل العدو معروف لنا و لكن خوفا بأن يكون هنالك كمين او خنادق معروشة او ديدبان على رؤس الاشجار لأن المنطقة كلها مزروعة باشجار الحوامض و بها غابة كثيفة من شجر النيم ، ذهبت انا بنفسى ومعى ثلاثة عساكر للاستكشاف و بعده اضع نظام الفصائل للهجوم و اقتربت الى مسافة انى شفت ديدبان اليهود و لكن وجدت الوادى كله مغطى بالقمح الذى لم يتمكن اصحابه العرب من عملية الهرس .