بسم الله الرحمن الرحيم
لقد استوقفتني مقدمة كتاب(( التخطيط الاستراتجي للاقتصاد السوداني البعد المفقود)) الذي أللفه الأستاذ محمد حسين أبو صالح في عام 2002، وبلادنا تمر بهذا المنعطف الخطير في ابريل المقبل عند ظهور نتيجة الانتخابات وما يعقبها من أحداث والتي تحدد أن يكون السودان أو لا يكون، ونسأل الله أن لا يكون مصيرنا مثل كثير من دول المنطقة التي عمتها الفوضى والانفلات الأمني بعد ظهور نتيجة الانتخابات .
حيث يقول المؤلف:
علي الرغم من مرور 46 عاما علي تحقيق الاستقلال .. وعلي الرغم من الإمكانات والموارد الهائلة التي يتمتع بها السودان ، لا زال يرزح في برك الفقر والتخلف ويقف في مؤخرة دول العالم لماذا..؟
ظهرت دول علي الساحة الدولية كقوي اقتصادية جديدة كانت عند الاستقلال في ظروف أسوأ من السودان .. يتضح ذلك من المقارنة التي أجريناها بين السودان وبعض دول شرق أسيا.
* السودان يمتلك موارد طبيعية ضخمة قلما توجد في مكان واحد في العالم وبكميات اقتصادية..مقابل دول فقيرة تماما في تلك الموارد .
* أراضي زراعية خصبة وبمساحات شاسعة ومياه وفيرة من الأمطار والأنهار والآبار .. مقابل العكس تماما .
* موقع جغرافي مميز علي البحر الأحمر قرب الأسواق العالمية .. مقابل تلك الدول الأبعد جغرافيا عن أسواق العالم.
* خدمة مدنية متقدمة في السودان كانت سببا في لجؤ العديد من الدول لتدريب أبناءها فيه .. مقابل ظروف أسوا في تلك الدول نتيجة خروجها منهكة من الحرب العالمية. (سكة حديد السودان كانت الثانية عالميا بعد الخطوط البريطانية .. جهاز الأشعة الذي دخل السودان يقال انه الثالث بين دول العالم وهذا يعكس مدي تقدم الخدمة الصحية .. الدقة في المواعيد والانضباط في الخدمة المدنية تعكس مدي تقدم الخدمة عموما)
* ظروف اجتماعية رفيعة ومتقدمة في السودان مقابل تشوهات اجتماعية رهيبة في فترة ما بعد الحرب من انتشار للمخدرات والفسخ الأخلاقي وهبوط المعنويات الناجم عن الحرب والفقر المدقع.
* موارد بشرية سودانية تتمتع بذكاء فطري يتميز علي كثير من شعوب العالم وفقا لدراسات أجنبية وليس سودانية.
* بالرغم من كل هذا يتأخر السودان صاحب كل مقومات النهضة ويتقدم الآخرين .. أمر غريب حقا.
وبنظرة فاحصة لتجارب عدد مقدر من تلك الدول في فترة ما قبل الوفاق الوطني يتضح لنا البعد الذي ظل مفقودا في السودان منذ ذلك الوقت سنتناولها في حلقات ،البعد الأول :
يتمثل في غياب المنهجية العلمية وعدم استخدام علوم ونظريات وفنون الإدارة ..مقابل أسس اتفاق وطني في تلك الدول يقف علي رأسها الالتزام القاطع باستخدام المنهجية العلمية..
إن غياب المنهجية العلمية وعدم استخدام علوم الإدارة مع عدم وجود الأهداف الإستراتجية للقوي السياسية السودانية أدي إلي فوضي والدوران في حلقة مفرغة ، ولعله من المعروف في الإدارة أن من لا هدف له لا يستطيع الوصول إلي شي والعكس صحيح ،يضاف إلي ذلك إن كل محاولات الاتفاق الوطني بين القوي السياسية السودانية كانت تنتهي بالفشل للعديد من الأسباب أهمها علي الإطلاق هو عدم وجود الأهداف الإستراتجية وغياب الفكر الاستراتيجي .
في المقابل قادت المنهجية العلمية إلي وضع تخطيط استراتيجي لتلك البلاد راعي الظروف المحلية وفتن الاستعمار(مشكلة الجنوب في السودان مثلا) والظروف الإقليمية والدولية والفرص المتاحة والتطورات العلمية والسياسية والنظريات السائدة..الخ ومن ثم تم وضع التخطيط الاستراتيجي العلمي المتقن الذي يحقق النهضة لتلك الدول ..ولعله من السهولة أن نكتشف استحالة إحداث تطور كالذي حدث في اليابان وكوريا الجنوبية في ظل سياسة كالتي يشهدها السودان .وقد لا يستوعب كثيرين أهمية النهج العلمي بالرغم من المقارنة المذكورة والنتائج الماثلة أمام العالم لتطور تلك الدول المعدمة الفقيرة آنذاك الأكثر بعدا عن أسواق العالم ،المقعدة بالتشوهات الاجتماعية في ذلك الوقت .. ويتخلف السودان الغني بالموارد البشرية والطبيعية والموقع المميز .. الخ هنا أسوق مثالا واحدا بسيطا قد يوضح الأمر،إن اليابان علي سبيل المثال الآن تستورد الحديد والمواد الخام من الغرب وتدفع فروقات هائلة لنقله إلي اليابان ،ثم تقوم بتصنيعه في شكل منتجات نهائية من سيارات وأجهزة وما إلي ذلك ،ثم تقوم مرة أخري بشحنة إلي الغرب متحملة تكاليف النقل الباهظة ، وبالرغم من ذلك لم يتمكن المنتج الغربي من منافسة الإنتاج الياباني بالرغم من امتلاكه للمواد بأسعار أفضل وبالرغم من توفيره لتكلفة النقل .. عند استفحال هذا الأمر وبروزه كأزمة دولية أو ما يسمي آنذاك بالغزو الأصفر ،اجري الغرب دراسات عديدة بل وتم عمل بحوث إستراتيجية عمدت إلي تقليد وحدات يابانية بأكملها وبمنتهي الدقة وقاموا بتهيئة نفس الظروف والمتطلبات ونوع المعدات وعدد العمال .. الخ وبالرغم من ذلك فشل الغرب في منافسة النمور الأسيوية وكانت خلاصة تلك الدراسات هي الاعتراف بالميزة النسبة لتلك الدول الناجمة عن التخطيط الاستراتيجي العلمي المتقن فكانت توصية تلك الدراسات هي إن السبيل الوحيد لمواجهة ذلك التقدم هو ما يسمي الآن بالتعاون الدولي أو الشراكات الدولية .. فأصبح العالم يعرف شركة التويوتا اليابانية الأمريكية . شركة سوزوكي اليابانية الألمانية ..وقد يعتقد البعض إن سر التفوق الياباني أو الكوري هو انخفاض الأجور ،ولكن إذا نظرنا إلي معدلا ت الأجور باليابان يتضح إنها من اعلي المستويات في العالم . هل يا تري قدمت أحزابنا السياسية طرح مماثل ونحن الأكثر استعدادا لنكون نمر أفريقيا القوي. الإجابة حتما لا.
ومن أهم الأسباب أيضا لتفوق لدول النمور وبإتباعها للمنهجية العلمية هو لجوؤها للتخطيط الاستراتيجي من منظور دولي أي أنها كسرت الحدود تماما وهي تتولي عمليات التخطيط فكان أن حددت أهدافها من هذا المنظور فنجد إن الهدف التسويقي كان هو اقتطاع حصة معتبرة من السوق العالمي لذلك نجد الطاقة التصميمية للوحدات الإنتاجية تساوي مئات أضعاف حاجة الدولة ويرجع هذا لحجم الهدف . والحصة الدولية لا توثر في حجم الإنتاج فقط بل وفي النوع والمواصفات ومتطلبات الذوق العالمي وما إلي ذلك..
تلك الخطط الإستراتيجية التي عملت علي تحقيق حصص إستراتيجية كبري لتك الدول في أسواق العالم هي العمود الأساسي أو الفقري لتحقيق الميزة النسبية وبروز تلك القوي الدولية الجديدة أو ما يسمي بالنمور الآسيوية .. ولم تكن الحصص الإستراتيجية هي العام الوحيد وإنما كانت هناك عوامل مكملة لها داخليا يمكن أن نطلق عليها ترتيب البيت من الداخل بخطط محددة تمكن جميعها من تحقيق المزايا النسبية وسوف نتناولها في موضوع منفصل بإذن الله .
في المقابل نجد عدم وجود أي أهداف إستراتجية لأي من القوي السياسية السودانية وعدم وجود رؤى إستراتيجية تحقق مصالح البلاد (وما توفر منها كان عبارة خطط وبرامج قصيرة ومحدودة المدى لا تتناسب وحجم الهدف والمكانة المرجوة للسودان بحكم امتلاكه لهذه الثروات الهائلة ).. وغياب ذلك أدي إلي دوران الأمة في حلقة مفرغة قادت البلاد إلي حلبات الصراع السياسي حول السلطة ولم ينتبه المشغولون بهذا الصراع إلي ماذا يفعلون بهذه السلطة .. والنتيجة انقلابات عسكرية تجد القبول والسند الجماهيري عند قيامها ليس كرها أو مقتا للديمقراطية وإنما كرها للممارسة السياسية التي تضع الوطن ومصالحه في آخر القائمة إن لم تغفلها تماما ، وفي الوقت الذي كانت القوي السياسية في دول شرق آسيا تقود بلادها باقتدار ومسؤولية وعلمية نحو مصاف دول العالم المتقدم ..نجد إن كل الهم الحزبي للقوي التقليدية السودانية هو بنود سياسية ظلت دائما تغفل المصالح الإستراتيجية للدولة .. حتى الطرح المقدم للوفاق الوطني لا يحمل أي رؤى تعمل علي تحديد وكيفية تحقيق المصالح الإستراتيجية للدولة السودانية في وقت توصل فيه العالم إلي إن أفضل وسيلة لتحقيق الاتفاق الوطني هو لغة العلم والممارسة السياسية الرشيدة .
إن الموارد الطبيعية التي يمتلكها السودان من الضخامة بحيث إنها تعني حتمية التعاون مع العالم لاقتطاع حصص في تلك الأسواق باعتبار إن استهلاكها محليا مستحيل ..كما إن الاستقرار السياسي مرتبط إلي حد كبير بمدي تحقيق المصالح محليا بما ينعكس إيجابا علي المواطن ،ومدي تحقيق الترتيبات الإقليمية ووجود التعاون الولي ، لذا فأينما توجد ثروات طبيعية توجد نزاعات وتدخل دولي لذا فان عدم انتباه القوي السياسية التقليدية لهذه الحقيقة وهي تتولي أمر البلاد انعكس سلبا علي البلاد ..والواقع يشهد علي ذلك بل إن التعمق في ذلك يعكس بوضوح التهديد الحقيقي للأمن القومي السوداني الناجم عن إغفال التخطيط الاستراتيجي السوداني والفكر الحزبي السوداني لهذه الحقيقة ، حقيقة وجود ارتباط للمصالح الإستراتيجية بالأمن .
إن الخطر القادم أو ما يسمي بالاستعمار الجديد أمر لا يمكن مقاومته إلا بالتفوق العلمي للدولة في عصر العولمة والمعلومات ،ولا تستطيع الدولة التفاعل مع العالم إلا باستخدام لغة العلم والتقنية وعبر ممارسة سياسية للقوي السياسية ترتكز علي شعبتي العلم ومصالح الوطن أولا وهي لغة ظلت مفقودة لدي القوي السياسية التقليدية ..
ان القوي السياسية السودانية قد فشلت خلال ألـ 46 عاما الماضية وقد أدي هذا الامر الي افراز واقع غريب قيادات تقليدية تتحدث باسم الجماهير ,وجماهير مدعي عليها سئمت كل تلك القوي السياسية وقياداتها .
عليه إذا كان إهمال العمل وفق المنهجية العلمية والممارسة السياسية السليمة قد أدي إلي ما نحن فيه الآن من تخلف وفقر ومرض ،وإذا استدركنا إن الخطر القادم اكبر بكثير من أخطار الماضي .. وإذا أضيف أننا مطالبون ليس بمواجهة ذلك الخطر فحسب بل والعبور فوقه نحو تحقيق طموحات الأمة وأمال شعبها .. وإذا استدركنا تماما شراسة المرحلة القادمة وطبيعة لغتها التي تعتمد علي العلم والمعرفة والتخطيط الاستراتيجي بعيد ألمدي والممارسة السياسية التي ترتكز علي شعبتي العلم ومصالح الوطن أولا ..بعيدا عن العواطف والمهاترات والخطب الحماسية والمتاجرة بأصوات الجماهير.. إذا استدركنا كل ذلك لاتضح لنا قصور عمليات الوفاق الوطني في تحقيق تطلعات الأمة وتحقيق مصالحها الإستراتيجية إذا استمر بالكيفية الراهنة ووفقا للأسس المتداولة حاليا ..ولاتضح لنا أيضا بأننا بحاجة إلي فكر جديد وجيل جديد وقوي جديدة غير تقليدية تستطيع أن تقود الأمة في العصر القادم عصر العلم والتقنية والتكتلات ألكبري لتحقيق الآمال والتطلعات الوطنية التي تتناسب وإمكانات الدولة البشرية والطبيعية والجغرافية الهائلة ..
هذه دراسة تحمل ملامح التخطيط للاقتصاد السوداني في عصر العولمة نرجو أن تساهم في لفت الانتباه إلي الإبعاد التي ظلت مفقودة في السودان خلال الخمسين عاما الماضية ..
وأرجو أن يأتي ذلك اليوم الذي نري فيه ميثاقنا الوطني يحمل بنودا تدعوا للالتزام بالعمل وفق المنهجية العلمية في ممارسة السياسة وإدارة الدولة ..والعمل لتحقيق الميزة النسبية للإنتاج الوطني ..والتخطيط للاقتصاد السوداني من المنظور الدولي بما يؤدي إلي وضع السودان في مكانه الطبيعي في خارطة العالم كقوة اقتصادية أو نمر إفريقي طالت غفوته ..
وما التوفيق الا من عند الله
وفي الختام نسال الله تعالي أن يجنب بلادنا شر الفتن وان يولي من يصلح