كاتبة الرسالة : كمالا بابكر النور
_________________
التاريخ : 22 - 04 - 2009
_________________
"هذا المقال أو - إن شئت - رسالتي التي إدخرتها كل هذه السنين، المؤسف فيها أن الذي حلم يوماً بأن أكتبها أو أقولها أو اسرد سيرته فيها لن يقرأها... وإن تنبأ بها ذات يوم قبل أن تُكتب. هو لن يقرأها الآن لأنه ببساطة أضحي في عالم آخر.
نعم لن يقرأها أبىّ الذي رحل عن دنيانا منذ ما يناهز الأربعة عقود زمنية مؤمناً بقضيته ومتمسكاً بمبدأه ومخلصاً لفكره، ولكن حتماً سيقرأها بعض أعضاء الحزب الذي انتمي له أبي، مثلما سيقرؤها آخرون، بيد أنني على يقين بأنه سيصعب على هؤلاء أو أولئك، تلمس مشاعر إنسانه كانت في مدارج الطفولة عندما رحل عنها والدها، وشبت عن الطوق بقلب يقطر دماً كلما ترآءى لها طيفه، أو هتف منادٍ بأسمه، أو سطر مؤرخ سيرته، ثم انه كثيراً ما كانت يومذاك تناديه وهي لا تعلم بأنه لن يجيبها، وتنظر للآباء حولها يطوقون أبنائهم وبناتهم بحبهم وحنانهم، وتتذوق أحياناً بحسرة طعم الحرمان المر، وتتساءل ببراءة فى أحايين أخري: تري هل سيكون للحياة طعماً ولوناً ووجهاً آخراً لو أنه كان يعيش بيننا؟!
لقد ظللت كل هذه السنين أحاول أن أملأ الفراغات التي فُرضت علىّ، في محاولة لمعرفة ما كان يمكن أن اعرفه أو اتعلمه منه شخصياً لو كان حياً يُرزق، فلم أمِلّ قراءة كل حرف كتب عنه، ولم أُرهق من البحث عن سيرته من أفواه كل من كان يعرفه سواء من الأهل أوالأقارب أوالأصدقاء أوالزملاء، وكم كانت تسعدني الروايات التي أجمعت على هدوء طبعه، والأخري التي أكدت طيبته التي لا تحدها حدود، وتلك التي أشارت إلى إحترامه الزمالة حد التقديس، وقد قال لي آخرون أنه كان يحب مهنته حباً جماً... كان صبوراً مسامحاً ومتسامحاً، وقال لي بعض آخر أنه كان يبدو كراهب نذر نفسه للعلم والمعرفة، أما الذين تحدثوا عن جُرأته وإقدامه وشجاعته، فهم قد تحدثوا عن الشيء الوحيد الذي يعلمه القاصي والداني بعد أن تضمنت فصوله خاتمة حياته ورحيله المفجع!
لا أقول ذلك من باب المزايدة أو المبالغة، فلعل القليلون الذين إطلعوا على آخر كلماته والتي لم يجد غير صندوق (سجاير) صغير يحتويها بخطه الجميل، والذي يدل على مدي قدرته على الثبات ورباطة جأشه في ذلك الموقف الذي تُختبر فيه شجاعة الرجال، هذه الشجاعة التي لم يكن في حاجة لقولها تعميماً في كلماته الأخيره (إن مت شجاعاً وإن عشت شجاعاً) ولا تخصيصاً كالذي وجهه إلى إبنه خالد (عندما تكبر تذكر أن أباك مات موت الشجعان ومات على مبدأ) ولا تكراراً لابنته هدى (لك حبي وسلامي حتى اللحظات الأخيرة، وأذكري أن اباك مات شجاعاً وعلى مبدأ) ولا ختاماً لمسك حياته حينما جاءه الموت حقيقة وهو يسعي على قدمين فلم يجد غير أن يقول له (عاش نضال الشعب السوداني...عاش السودان حراً مستقلاً)!
يا لها من شعارات عزيزة نطق بها رجل ينتمي لهذا الشعب العظيم، إسترخص نفسه ووهب له حياته لينضم لكوكبة الشهداء الذين عطروا تاريخ هذا الوطن، أنها الكلمات التي أصبحت بالنسبة لي نبراساً إهتدي به في حياتي كلما تنسمت سيرته العطرة، ووجدت في مبادئه ما أعانني على فهم الحياة، وكيف يمكن للديمقراطية أن تكفل الحريات التي تعزز كرامة الانسان، وتحقق العدالة الاجتماعية لكل البشر!
ولن أخفي على القارىء سراً إن قلت له أن تلك العدالة المرجوة إفتقدتها بقدر ما نشدتها...ذلك حين إطلاعي على وثيقة الحزب الشيوعي حول تقييم حركة 19 يوليو (التصحيحية) ورغم أن الصفة الملحقة بالقوسين تكفي لبيان كثير مما إلتبس، ففي تقديري ان الاختصار الذي شاع حتى كاد أن يصبح مرجعية (تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه) هو إبتسار مخل لحركة ثورية كان يفترض أن تكون محل تحليل عميق وإهتمام مكثف، لا بمثل ما ذهب إليه التقرير، وبخاصة أن الوثيقة إنطوت على إعتراف صريح، ومهما يكن ففي تقديري أيضاً أن الافتراضات التي وردت في التقرير تبدو كوجهة نظر أحادية الجانب، ولا أدري كيف لتاريخ أن يوثق بعد 25 عاماً ومن طرف واحد دون الطرف الآخر الذي يمثل الثقل الأكبر في المعادلة نفسها، وهم العسكريين الذين شاركوا في الحركة (التصحيحية) ومنهم من قضي نحبه كما نعلم، وبالطبع منهم من ينتظر!
دعونا نتفق بشفافية الحد الأدني حول أن الحزب حارب السلطة المايوية بسلاحها، أي سلاح الانقلاب العسكري، وهنا قد لا يجدي التفسير كثيراً إن كانت الموافقة صريحة أو ضمنية، بقدر ما المهم الاجابة على سؤال النهايات هل ما حدث كان يمكن أن يفتح الباب لحكم الجبهة الوطنية الديمقراطية؟ لاسيما وأنه الانقلاب الذي سطر بيانه الشهيد عبد الخالق محجوب، والرفيق محمد إبراهيم نقد او على الأقل تضمن رؤية اللجنة المركزية ولا أقول موافقتها، وأنه الانقلاب الذي جلّ عضوية مجلس وزرائه المقترح شيوعيون، وكذا أعضاء الحركة نفسها من الضباط الثوريين، وبرنامجه هو برنامج سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية؟ وهذا بغض النظر عن الحزب نفسه قد ذهب من قبل في اتجاه تأييد حركات إنقلابية أقل شمولاً وأدني تمثيلاً؟
أوليس الأجدر بالحزب الشيوعي بكل تاريخه العتيد أن يقول إبتداءاً وقطعاً للجدل الذي لا يرجي من وراءه طائل، أنه يشرفه ويشرف عضويته أن تلك الكوكبة المناضلة والشجاعة، قامت بفعلتها تلك جهاراً نهاراً من أجل إسترداد الحرية والديمقراطية للشعب السوداني، ولم تكن ترجو مغنماً أو صيتاً، أوليس الأجدر بالحزب أن يفتخر بأن هذه الكوكبة أقدمت على عمل جسور قبيل الانقلاب نفسه وهو تخليص زعيم الحزب من براثن النظام وتهريبه بنجاح؟ لماذا المداراة بإسلوب الطغمة اليمينية الرجعية التي ذهب نصفها للحبس ونصفها الآخر للقصر؟ أوليس مخجلاً أن يقال عنهم (إنها طبيعة البرجوازية الصغيرة التي تضيق بالنضال وتلجأ للانقلابات العسكرية وصولاً للسلطة) أي حديث يقلب المواجع كهذا، أنهم قبل ذاك كانوا في قلب السلطة، ولو ساوموها لبقوا فيها مثل آخرين وحتي نهايتها، كما ان تاريخهم النضالي يؤكد صلابة معدنهم، ويحمد للذي عنونت المقال بإسمه أنه عبّر عن لسان حالهم وطلب منا أن نبلغهم
(قولوا للذين أحبهم أنني عشت من أجلهم وسأموت من أجلهم)!
ليس للصمت تفسير طيلة هذه الفترة الطويلة، ذلك للذين يتساءلون إن كان لما خلف للسطور من تفاسير يصعب البوح بها، ذلك أنني ما زلت أكن للحركة التقدمية كل إعزاز وتقدير، ولا داعٍ للتأكيد على أني ما زلت أناضل من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وما حدا بي لكسر حواجز الصمت خشيتي على الحزب الشيوعي السوداني العريق من أصدقائه أكثر من أعدائه، وبما انه الآن على رحاب عقد مؤتمره الخامس الذي طال إنتظاره، فقد رأيت أن الظرف قد يسمح ولو نسبياً بفض إسار الصدور، لاسيما ونحن على مشارف الذكري السابعة والثلاثين للحركة (التصحيحية) نفسها، مع تمنياتي بالنجاح والتوفيق للمؤتمرين، ولكن من هنا نبدأ من الرسالة التي لن يقرأها أبي... وقد تنبأ بها في وصيته الأخيرة في ورقة (صندوق سجاير) هي بالنسبة لي اليوم كنز من كنوز الدنيا، وعليه ليس بكثير أن أحلم بها وقد أصبحت وثيقة من وثائق المؤتمر؟!"
_____________________________________________
وهنا تنتهي رسالة كمالا لوالدها و سأورد هنا وصية بابكر النور لزوجته خنساء و أبنائه و بناته ، و التي لم يجد مكاناً يكتبها فيه سوى ظهر صندوق سجائر " بنسون " لأن عسكر النميري ضنوا عليه بالورق