أجراس الحرية / رأي الشعب
ابريل 2010م
الحاج وراق
رسالة عملية :
القائد الحق لا يتحول الى ديوث
•احد ابناء دارفور, لجأ الى الخرطوم بعد القيامة هناك , رأى فى ترشيح ياسر عرمان رداً للاعتبار – رداً لاعتبار الحرائر اللائى تعرضن لاذلال الاغتصاب , للاطفال الذين ألقوا فى النيران , للقرى التى مسحت عن الخريطة بدم بارد ؛ وردا لاعتبار الناس العاديين : الذين بلا ميراث وبلا بزة عسكرية , يصعدون للمنافسة على السلطة بلا سلم سوى اكف المستضعفين الطاهرة ..... نموذج لملايين السودانيين الذين الهمتهم حملة الامل والتغيير : عمال كلات فى بورتسودان قذفوا بلا مبالاة الى قارعة الطريق , ومتاثرى سدود فى الشمال قيل لهم بكل بجاحة الفاشست ستخرجون من بيوتكم كما الفئران ! ومزارعين فى الجزيرة يرون كيف تسيل ريالة الطفيلية طمعاً فى حواشاتهم ! ونساء تلهب ظهورهن وارواحهن سياط الشائهين المدعين انهم فوق الملائكة وتكشف ممارساتهم العملية انهم ادنى من البشر ! جنوبيين , ونوبة , ومستضعفى النيل الازرق , الذين لاكثر من خمسين عاماً لم يأتهم المركز بالتنمية ولا بالخدمات , وانما اتاهم بنموذج بيت الاشباح الباكر , مايسمى بالبيت الابيض , حيث يعذب المعتقل حتى يتمنى الموت , ثم تستغلى عليه طلقة الرصاص , فيقتل بالسونكى وبالساطور ! واتاهم بطائرات الانتينوف تئز فوق الرؤوس وتحيل مراتع الصبا الى حرائق وذكريات !.. وعمال ومهنيين وارباب اعمال من شتى الاصقاع يتجرعون المذلة يومياً , كما قهوة الصباح , مذلة الحسابات التى لاتلفق , ومذلة الرسوم والجبايات , ومذلة علاج الاحباء حين تنسد الدروب ولاينفتح سوى درب التسول ! ومذلة الباشبوزق المتغطرسين يتربعون فى عصر الانحطاط على مرافق الخدمة العامة وايما واحد منهم على قناعة بانه قدّ من طينة غير طينة البشر !
ملايين المغبونين , والحزانى , والمهانين , الهمتهم حملة التغيير واعطتهم املاً , نموذجهم الواقعي – من لحم ودم – ذلك الكادح من دارفور , والذى حين سمع بمقاطعة عرمان للانتخابات طفرت دمعتان الى عينيه , وابتلع ريقه وبصق , فبصق دما من الحرقة ! مشاعر جياشة اجتاحت افئده الالاف , وكلها مشاعر طبيعية ومشروعة ومفهومه .
ولكن مابعد تفريج المشاعر – مشاعر الحزن والحرقة والغضب -, يبقى ضرورياً فهم ان المشاعر وحدها لاتكفى فى السياسة .. لابد من الحساب الدقيق , خصوصاً فى واقع معقد كالذى تشهده بلادنا حالياً . وما يجعل القادة الكبار كباراً بحق , ليس مجرد احساسهم بالمشاعر العامة , وحسب , وانما كذلك فهم المصالح السياسية والاجتماعية العميقة التى تقف خلفها , ومن ثم اعطاء هذه المصالح تعبيرها الاستراتيجى والتاكتيكى , ورسم خارطة الطريق الصحيحة التى تفضى الى تحقيقها , حتى ولو خالفت هذه الخارطة, فى هذه المحطة او تلك , المشاعر العامة مؤقتاً . وايما تحليل معمق لمقاطعة عرمان للانتخابات يقود الى فهم حقيقة انه تصرف كقائد كبير , استجاب للمصالح الجوهرية لجماهيره , واتخذ موقفاً تاريخياً ستتكشف سريعاً مبدئيته وصوابيته .
•ولو كان عرمان انتهازياً او مجرد باحث عن الاضواء او الشهره لما قاطع المسخرة , فمن بين جميع المرشحين الديمقراطيين هو الاوفر حظاً , لديه ما لا يقل عن ثلاثة ملايين صوت فى الجنوب (المسجلين اربعة ملايين وتسعمائة الف ) مما جعل ديمقراطيين مستقلين كثيرين ومن احزاب غير الحركة الشعبية يدعمون حملة عرمان الانتخابية باعتبار انه عمليا المرشح الديمقراطى الاقدر على تحدى مرشح الشمولية . وهذا ما اقر به الشموليون انفسهم , وحاولوا إغراء عرمان به لمواصلت الحملة , ففى اخر الاجتماعات بين قادة الموتمر الوطنى والحركة الشعبية , وبحضور فاقان وعرمان , قال احدهم لعرمان : الافضل ان تواصل فتسجل رقماً (تاريخياً !) لانك ستاتى الثانى بعد البشير وسيكون الصادق المهدى بعدك بكثير , مما يوطد نفوذ الحركة الشعبية فى مواجهة الاحزاب التقليدية !!
أى انه وعلى عكس مايعتقد الكثيرون فان (الصفقة) التى يفضلها المؤتمر الوطنى – بعد ان اكمل البنية التحتية للتزوير – ان يستخدم عرمان كديوث لانتخابات السفاح ! وفى تناغم تدوزنه المصالح والاوهام يتردد صدى (الصفقة) المطلوبة لدى قريشن ووسطائه الذين حضرت بالصدفة اجتماعهم الملحاح مع ياسر عرمان ! ويتردد لدى دوائر فاسدة ومعزولة فى الجنوب من الذين يتحججون بانه من الافضل تصحيح الانتخابات أياً كان شكلها حتى يتم التفرغ للاستفتاء ! وربما هكذا يتوهمون ! ولكن عرمان بدلاً من الاستجابة للضغوط و (الصفقة) يتمسك بالمبدئية ويوجه اقصي (صفعة) للشمولية ومروجي اوهامها.
•ومن حيث المبدأ لا تثور اسئلة اساسية حول المسخرة الجارية حاليا، فلا تزال القوانين المقيدة للحريات سارية في البلاد، ولم تتوفر حرية الاعلام ولا حرية التعبير اللازمتين لاي انتخابات حرة ونزيهة. و لا يزال المؤتمر الوطني يسيطر علي كل اجهزة الدولة، سواء الخدمة المدنية او الشرطة او القضاء، كما يسيطر علي مفوضية الانتخابات نفسها، بل ولا يهتم حتي باعطاء انطباع بحياديتها : فمسؤول اعلامها المرشح من قبل المؤتمر الوطني سارق مقالات معروف يتداول المجتمع الصحفي فضيحته المجلجلة! وليس لمسؤول تدريبها الحد الادني من النزاهة الذى يجعله يرفض تحويل ملايين الجنيهات من ميزانية التدريب الي معهد التدريب الذى يخصه! ومن فرط ضعفها واستخذائها فان المفوضية تسمح للمرشح البشير ان يقطع في شئونها قبل ان تتداول فى الامر ! .
ولهذا لم يفاجأ احد حين اسلمت المفوضية بياناتها ومعلوماتها لاحد عناصر المعلومات في المؤتمر الوطني، من الذين يعملون تحت الاشراف المباشر لمسؤول السد ، والاخير كما هو معلوم، يشتغل -وهو مسؤول عن موارد السد المهولة-كمقاول (باطني) لحملة البشير الانتخابية! ولم يفاجأ احد حين خالفت المفوضية اتفاقها مع القوي السياسية ومع بعثة الامم المتحدة لتحول بطاقات التصويت الي مطبعة العملة التى يديرها احد عناصر حملة البشير في سنجة!! مما ادي الي النتيجة المعروفة بطباعة البطاقات طباعة (مضروبة)، فالرقم المتسلسل في الكعب وحده وليس في البطاقة والكعب معا!
ولكل هذه الاسباب وغيرها،حق وصف المفوضية بانها مفوضية (الاصم) ، التى تصم آذانها عن مطلوبات النزاهة والاستقامة!
•ومما يؤكد طبيعة المسخرة الجارية حاليا، انه في اجواء يفترض انها اجواء انتخابات، تم اقتياد عبد الله مهدي-من حركة قرفنا-الي بيت الاشباح وتم تعذيبه بالسياط والكهرباء، بل وباجباره علي نزع ملابسه وتصويره عاريا!! وتم تعذيب عدد من الاطباء! ومنع نازحو معسكر كلما في نيالا من ركوب البصات للتوجه الي ندوة الحركة الشعبية، وحوصر النازحون في الفاشر بحوالي خمسة عشر دبابة لمنعهم من حضور الندوة! وتم ضرب واعتقال العشرات لمجرد رفعهم صور عرمان! هذا خلاف اعتقال العديد من نشطاء الاحزاب والمجتمع المدني في بورتسودان والقضارف ودنقلا ومروى... الخ!!.
•اذن فما يجرى حاليا ليس انتخابات وانما مسخرة، الهدف منها شرعنة البشير في مواجهة العدالة الدولية، ومثلها مثل اي انتخابات (صدامية) ستنتهي بتتويج (الفائز سلفاً) – الفائز حتي قبل طباعة بطاقات الاقتراع!!
والذين يحاججون في صحة موقف عرمان سيرون اليقين حين اعلان النتائج، وسيرون حق اليقين حين يضع البشير برنامجه الانتخابي موضع التنفيذ!
•بماذا يعد البشير اهل السودان ؟ قالها صراحة في ختام تدشين حملته الانتخابية : (فلترق كل الدماء)! وقالتها ملتصقات حزبه: (40 مليون فداك يا البشير) ! الشعب كله فداء للزعيم وليس الزعيم فداء للشعب!! وبالطبع ليس هذا بمستغرب على سلطة تصرف على قصرها الجمهورى اكثر مما تصرف علي وزارة الصحة ووزارة التعليم والرعاية الاجتماعية وعلي دعم الادوية المنقذة للحياة ودعم العلاج!.
البشير يقود البلاد الي عملية انتحار جماعية، ليس لديه برنامج لتوحيد السودان علي اسس جديدة، وليس لديه القدرة علي احتمال انفصال الجنوب –بسبب حاجته الي موارد النفط، خصوصاً بعد تدميره لقطاع الصادرات التقليدية من الزراعة والثروة الحيوانية،ولذا فليس لديه سوي خيار الحرب! وبسبب خطابه الخارجي القائم على وضع العالم كله تحت جزمته(!) فانه سيودى بالبلاد الي الحصار،مما يقوض امكان جذب الاستثمارات والاعانات والقروض، وقد بدات تلوح منذ الان نذر هروب واسع للرساميل من البلاد!.
وهكذا فانه في ازمة مع العالم، ويتجه الى ازمة اقتصادية حتمية، وازمة مع الجنوب، ومع جبال النوبة والنيل الازرق، خلاف الازمة القائمة مع دارفور ، بل وفي ازمة داخل حزبه،لان الكثيرين وبرغم غبار التهريج والمنافقة باتوا يرون حقيقة ان البشير تحول الي عبء علي الوطن وعلي المؤتمر الوطني نفسه!!.
وبالنتيجة فان البشير الغارق في الازمات ليس له من حل سوي القهر والحرب! القهر يسكت به كل الاصوات ، والحرب يحول بها ازماته الشخصية والسياسية الي قضية وطنية عامة!.
•ولو ان للبشير حرصا علي السودانيين وعلي وطنه، لسلم بالحقيقة، بانه لم يعد يصلح رئيساً، وبدلا من ادخال البلاد في مزاد سياسي (مغشوش) لكان بادر باعلان رغبته في التنحي،وقاد جهود الاجماع الوطني الى تتمتها المنطقية : برنامج توافقي وحكومة توافقية ورئيس توافقي بديلا عنه،حتي تنفرغ البلاد لتعبئة مواردها لكسب معركة تقرير المصير ومعركة بنائها الوطني ! ولكن البشير لا يبحث في شروط الخلاص الوطني وانما في حيثيات خلاصه الشخصي، ومثل هذا البحث لا يمكن ان تحركه الا نفسية (اراقة كل الدماء) واقامة مجد الدين في المقابر!!.
•وهكذا فان سؤال الموقف المبدئي من المسخرة لا يتطلب كثير عناء، ولكن تتجلي المعاناة الفكرية والسياسية والاخلاقية حين تبحث السياسة العملية او التاكيتكات، فالبنسبة لديمقراطيين ربما كان الاوفق استخدام الحملة الانتخابية للتعبئة والتنظيم ومن ثم الانتفاضة لحظة اعلان النتائج المزورة،وهذا ما ظل احد شواغل عرمان،ولكنه كتاكتيكي من الطراز الاول، حلل الاوضاع والشروط الموضوعية والذاتية للانتفاضة،وتوصل بعد كثير من المعاناة وتقليب النظر الي ان شرط الانتفاضة الحاسم - كما تؤكد تجربتا اكتوبر 64 وابريل 85 - وجود حرب ساخنة خارج الخرطوم ، ترهق وتدمي النظام وتشغل الاقسام الرئيسية من قواته! واما حاليا فلا يزال هناك هدوء نسبي في الجنوب , ودوائر واسعة من القوميين الجنوبين تعيش في حالة انتظارية، بل ومن بينها مجموعات محددة تتبني ذات رؤية قريشن الساذجة – التى تقوم على ابتلاع وترويج دعاية المؤتمر الوطني بانه يريد فصل الجنوب في يناير 2010م، كأنما المؤتمر الوطني حزب (مخملي) يتقبل انفصالا مخمليا كانفصال تشيكوسلوفاكيا!! ومثل هذه المجموعات لا تحركها الاوهام وحسب،وانما كذلك مصالحها في حراسة الاوضاع القائمة- بكل ما تعني الاوضاع القائمة من امتيازات وموارد نفط بل وفساد تتشابك علاقاته مع المركز، وهم ليسوا استثناءا في ذلك فالمركز الريعي في الخرطوم له تشابكات فساد، في كل القوي السياسية، وفي كل النخب ،بما فى ذلك نخب الهامش، وهذا احد اهم اسباب ارتباك القوي السياسية المعارضة ، فعلاقات الزبائنية السياسية مع الدولة الريعية تشمل ضمن من تشمل امناء عامين وقيادات ورجال اعمال يمولون الاحزاب !!.
وعلى كل فان دوائر وسط القوميين الجنوبين لن تنقشع اوهامها عن امكان انفصال سلمي الا بعد يناير 2010م ,حين يتحققون عملياً بان البشير الذى لا يسمح بحرية نشر المقالات لا يمكن ان يسمح بحرية تقرير المصير! ووقتها حين يترابط النضال الديمقراطي العام مع نضال شعب الجنوب لنيل حقوقه الديمقراطية ستنضج الشروط الموضوعية للانتفاضة ! بما يعني ان التحولات الديمقراطية الكبري في السودان غير راجحة الا بعد يناير 2010م، وبالتالي فان محاولة تنظيم الانتفاضة بالتزامن مع تزوير الانتخابات، في ظل هدوء نسبي في الجنوب،وتوقع وتحضير المؤتمر الوطني للحظة اعلان النتائج، كل ذلك غالباً ما يؤدي الي هزيمة الانتفاضة، والي تعريض الجماهير لخسائر فادحة ، ومن ثم اغراقها في حالة من الاحباط والتراجع ستحتاج الي سنوات للتعافي عنها. هذا بالطبع خلاف الخطيئة الاخلاقية المتمثلة في دفع الشعب الي معركة فاصلة لم تتوفر شروط انتصارها!.
•ولذا فان عرمان اذ يقاطع الانتخابات يرسل رسالة جديدة، من رسائل حملته الانتخابية، رسالة عملية، بان القائد الحق لا يمكن ان يتحول الي (ديوث)،وانه يرفض شرعنة طريق خيانة الشعب وخيانة مصالحه الحيوية في الديمقراطية والعدالة والتنمية والسلام.
انها رسالة ضد الاستسلام لانها ضد شرعنة المسخرة،وفي ذات الوقت رسالة لقوي التغيير بان تستكمل شروط انتصارها، وان تعبئ صفوفها وتشحذ اسلحتها،وتقف علي امشاط اصابعها استعدادا لاوقات التحولات الكبري والقادمة حتماً .
والذين يبصقون دماً من الحرقة , عاجلاً او اجلاً , سينجحون فى ان تبصق البلاد اوضارها من الاستبداد والفساد .
•لقد غرس عرمان (كوكاباً) في الشمولية، قوض شرعيتها ومصداقيتها واظهر المسخرة علي حقيقتها، كاغتصاب غير مشروع للسلطة،واظهر البشير في افضل الاحتمالات كرئيس لمثلثهم المشهور!.
واذ يفعل عرمان ذلك،فانه يتحول الي العدو رقم واحد، فتستهدفه حمم الفاشست من كل صوب،بقدراتها الهائلة علي التشفي والانتقام والايذاء، وبمقدارتها علي فبركة الشائعات وتوزيعها، وخبراتها في اغتيال الشخصية، ومناهجها في قمع وجهات نظر الاخرين او تحريفها، وقد تجلى كل ذلك في الحملة الاعلامية الواسعة، وفي الشائعة التي سرت كالهشيم تتداولها وتوزعها مصادر المؤتمر الوطني في شتى الاحزاب-عن إفك (الصفقة) للتغطية على حقيقة (الصفعة) ! والهدف واضح،اشاعة البلبلة والارتباك وسط قوي التغيير وقوي اعلان جوبا! ولكن الي متي ؟! وثم ماذا بعد ؟! ايام وستعلن النتائج، وايام بعدها او شهور قلائل ويضع البشير برنامجه موضع التنفيذ، حينها سيذكر الناس، وسيسجل التاريخ: (لقد سبق وقالها عرمان)!!.