مياه النيل, السدود و الانفصال (3) : الغاء اتفاقية مياه النيل
مصطفى عبد الجليل مختار
mustafashalaby@gmail.com
الغاء اتفاقية مياه النيل مطلب قومي عاجل
اذا حدثتك عزيزى القارئ بأن السودان سيفقد حقه في أى قطرة من مياه النيل خلال سنوات قليلة, و أن سليل الفراديس سيتحول الى أثر تاريخي و معلم سياحى نرتاده للنزهة و السباحة, و ربما اختلسنا منه رشفة ماء بعيدا عن أعين الرقيب المصري. أظنك حينئذ سترمينى بالجنون أو الخرف المبكر, لكن هذه هي عين الحقيقة التي تفرضها علينا المادة 5,2 من الاتفاقية و التي تنص على أنه ( اذا طالبت دول حوض النيل الأخرى بحصة في مياه النيل, و اذا ما أدت المفاوضات معها الى قبول هذه المطالبة, فسوف تخصم الكمية المطلوبة من حصة البلدين بالتساوي ).
اذا قرأنا هذه الفقرة و اضعين في الاعتبار المتغيرات الحالية و المتمثلة في فاقد التبخر المتوقع من سدود الشمالية و المقدر ب 5 مليار, مما سيخفض حصتنا الى 13 مليار. و اذا عرجنا بعد ذلك على طاولة المفوضات و التي تشهد حاليا مطالبات شرسة لدول حوض النيل الأخرى, و من ثم تأملنا في الانخفاض المتوقع في الايراد بسبب التغيرات المناخية, يمكن بتقدير واقعي جدا أن تصل جملة المياه التي سيفقدها السودان و مصر الى 26 مليار, و بالتالي يخصم من نصيب السودان 13 مليار,ليصير رصيدنا من المياه صفرا كبيرا.بغض النظر عن المظالم و السلبيات المذكورة سابقا, فان هذه الفقرة منفردة كافية لنسرع الخطى و نسابق الزمن لنتبرأ من الاتفاقية قبل أن نتورط في أخرى تلوح في الأفق و تضم اليها دول حوض النيل الأخرى بعد أن تنال حصصا في مياه النيل, فاذا ما تم هذا التعديل و السودان على ذمة اتفاقية 1959 فعلى نيل بلادنا سلام.
هذا السناريو ليس ضربا من الخيال, بل سيكون الأقرب للحقيقة اذا ما تمسكنا بالاتفاقية التي تفرض علينا توحيد الموقف التفاوضي مع مصر, لتنتهي بنا المفاوضات الى الرصيد الصفري, بينما يتراجع نصيب مصر تراجعا طفيفا الى 53 مليار, تشق طريقها عبر السهول و الوديان السودانية التي سوف يقتلها الظمأ و هي تحمل هذه المليارات لأسفل الوادي.
لقد أصبحت الاتفاقية عمليا في حكم المتوفاة, و غالبا ما تصدر شهادة الوفاة خلال الشهور القادمة بعد أن توقع دول مبادرة حوض النيل على الاتفاق الاطاري المقترح و الذي ينهى الاحتكار المصري للمياه. و قد بدأت نذر التمرد على الاتفاقية منذ ميلادها, فأثيوبيا و هى أهم مصدر لمياه النيل, لم تعترف بها أصلا. و قد سعت منذ بداية الستينات في اعداد دراسات لعدد كبير من مشاريع الرى و الكهرباء, لكن عدم الاستقرار و ضعف الامكانيات و تأثير مصر على مؤسسات التمويل الدولية قد عطل هذه المشاريع. تغير الوضع الآن اذ شهدت السنوات القليلة الماضية عودة الحياة لهذه المشاريع, و التي يمكن أن تستهلك ما يزيد عن 8 مليار. و تؤكد أثيوبيا دوما حقها في استغلال المياه لرى أراضيها الخصبة لتوفير الغذاء لتسعة مليون مواطن تأثروا بموجة الجفاف و لتطوير قدراتها الكامنة بانشاء مجموعة من السدود تهدف لتصديرالكهرباء. وفي نفس الوقت تشن الجهات الرسمية و الشعبية في أثيوبيا هجوما متواصلا على الاتفاقية التي تحرمها من مياه هي مصدرها, و تمنحها لمصر لتستغلها في مشاريع صحراوية عديمة الجدوى.
و في حوض النيل الأبيض, نجد أن تنزانيا قد أعلنت رفضها للاتفاقية بمجرد استقلالها, و اعتبرتها ارثا استعماريا غير ملزم, و تبعت ذلك بتنفيذ مشروع صغير للرى في العام 2004 من غير اخطار مصر, الشئ الذي اعتبرته مصر خرقا للقانون الدولي, لكنه كان حقيقة خرقا لجدار الاحتكار المصري للنيل, و أنبوبة الاختبار لما هو آت. وقد سارت كينيا و يوغندا في نفس المنحي, و شرعت كلاهما في اقامة عدد من المشاريع التي تؤكد حقها في استخدام مياه النيل
لقد تغيرت الأوضاع التي سمحت لمصر باحتكار المياه, فكل دول حوض النيل تواجه زيادة كبيرة في السكان, و موجات جفاف و هبوط في معدلات الأمطار, كما أن هذه الدول قد أصبحت لديها قدرات فنية و اقتصادية تمكنها من تنفيذ كثير من المشاريع و التجاوب مع الضغوط الشعبية التي لا تفهم سببا لاحتكار مصر لمواردها. و قد تعدى الأمر ذلك بعد أن قامت مجموعة من البرلمانيين من هذه الدول برفع دعوى لدى محكمة العدل الدولية ضد الحكومة المصرية تتهمها باستلاب حقوقهم و المساهمة في افقارهم بمنع مشاريع التنمية.
لقد لفت هذا الصراع الصامت انتباه العالم, و الذي أدرك خطورة الموقف و ضرورة تفادى التصعيد و عواقبه الوخيمة, فجاءت مبادرة دول حوض النيل و التي أكملت عامها العاشر قبل شهرين. نجحت المبادرة في تحقيق اطار مشترك للتعاون و بدأ العمل في عدد من المشاريع المشتركة. لكنها فشلت في إثناء 8 من أصل 10 دول عن رفض الاعتراف بالحقوق التاريخية و المكتسبة كما تسميها مصر, و سوف يشهد الشهر القادم محاولة جديدة للوصول الى اتفاق و تقريب الشقة بين دول المنبع التي تريد استخدام جزء من مياه النيل و مصر التي تسعى لمواصلة الاحتكار. أما السودان فهو يساند مصر باستحياء لأنه مكبل بقيود الاتفاقية و لأنه الأقرب من العصا المصرية الغليظة, و لأن البقاء على كراس السلطة المغتصبة يفرض أداء فروض الولاء و الطاعة و السكوت للحكومة المصرية.
قراءة الواقع الحالي توجب على السودان الشروع الفوري في الغاء الاتفاقية, و هو موقف تمليه علينا المصلحة الوطنية, و المنطق السليم و القيم الأخلاقية. و نحن , و لله الحمد, نفتخر بوطن يضم نخبة ممتازة من جهابذة القانونين, و قد خبرهم الشعب السوداني مدافعين شرسين عن حقوقه, و لا شك أنهم لن يترددوا لحظة في الاطاحة بهذه الاتفاقية اذا ما أعطتهم الحكومة الضوء الأخضر. و يؤكد ذلك وجود كثير من المؤشرات القوية على سلامة موقفنا القانوني, و التي أذكر منها بصفة عامة و غير متخصصة:
- الاتفاقية غير شرعية لأنها وقعت من قبل حكومة جاءت بانقلاب عسكرى على الديمقراطية, وقد وافقت هذه الحكومة فور تسلمها السلطة, و بتغييب كامل للارادة الشعبية, على ما ظلت ترفضه الحكومات المنتخبة لأربعة سنوات. كما استمرت الاتفاقية طوال خمسين عاما بسبب سيطرة الدكتاتوريات العسكرية على الحكم, و ظلت مصر تحتضن هذه الحكومات, و توفر لها الدعم مقابل سكوتها عن الاتفاقية.
- الاتفاقية تصرفت فيما لا تملك, من غير علم شركاء أصيلين لهم حقوق في مياه النيل, و قد أعلنت كل هذه الأطراف عدم اعترافها بالاتفاقية, لذلك فهي غير شرعية.
- الاتفاقية ظالمة و بعيدة عن روح القانون الذي يسعى لنشر قيم العدل و الحق, و لا يمكن أن يساهم في نصرة الظالم.
- عدم التكافؤ كان سببا رئيسىا في توقيع الاتفاقية وتمرير كثير من بنودها الظالمة, فالجانب السوداني لم يكن يملك القدرات المؤسسية و الخبرات المهنية القادرة على التفاوض مع الجانب المصرى المتفوق تماما في ذلك الوقت. و قد انتشرت بعد التوقيع طرفة تتلخص في أن رئيس الجانب السوداني, اللواء طلعت فريد الادارى و اللاعب السابق بفريق المريخ, رفض تماما التوقيع لأنه لا يعرف ما هو المليار, و أنقذ الموقف أحد الظرفاء عندما شرح له بأن المليار يساوى مئة مرة سعة أستاد المريخ, حينها ابتسم اللواء و أمسك بقلمه ليوقع على مصير السودان لأجيال قادمة.
- الاتفاقية سقطت بتغير الأوضاع بسبب خروج ثلاثة دول عنها هي تنزانيا و كينيا و أوغندا بعد أن نالت استقلالها, و خروج هذه الدول يجعل من غير الممكن عمليا تطبيق كثير من بنودها الأساسية
- الاتفاقية مخالفة لمبادئ القانون الدولي للمياه و الذي يضع منهجا واضحا لتقسيم المياه بين الدول التي تتشارك في مجرى نهرى واحد.
لقد استلب الاعلام المصرى ارادة الكثيرين بما خلقه من أساطير صارت حقائق مقدسة و أثرت كثيرا في اتجاهات الرأى العام, أولى هذه الأساطير أن مصر هبة النيل, و هو تضخيم مقصود للواقع, و الحقيقة أن أى دولة لديها حد أدنى من الاحتياجات لمقابلة الاستهلاك الآدمي, و ما زاد عن ذلك فهو قابل للاقتسام حسب قانون المياه العالمي و الأعراف و المنطق. فكون مصر في حاجة ماسة لمليار واحد سنويا لا يعطيها الحق في الاستيلاء على الجمل بما حمل, و لا يسمح لها باقامة 3 مشاريع كبرى في صحاري سينا و غرب الدلتا و الوادي الجديد بمساحة اجمالية قدرها مليون و نصف مليون فدان, و هي مشاريع أثبتت دراسات مكتب استشاري أمريكي متعاقد مع الحكومة المصرية أن العائد الداخلى IRR لها سالب, بعنى أنها ليست عديمة الجدوى فحسب بل تشكل استنزافا للموارد المصرية. و قد أثبتت دراسة أخرى للبنك الدولى أنه بينما تستخدم مصر 85% من مواردها المائية فى الزراعة, فهى تشكل 14% فقط من الناتج القومى الكلي, و في نفس الوقت تستخدم الصناعة 8% من المياه لتساهم ب34% من الناتج القومي. مصر يمكنها اذا أن تعيش بكميات أقل كثيرا من المياه من غير أن يؤثر ذلك على الدخل القومي و يهدد حياة المواطنين بالهلاك كما يدعى الإعلام المصرى.
أسطورة ثانية هى الحديث عن أن مياه النيل خط أحمر, تجاوزه يعتبر بمثابة اعلان حرب. لم يقتصر التهديد على الجهات الحكومية, حتى أجهزة الاعلام و المواطن العادى يرددون هذا الحديث في كل مناسبة, و آخرها تهديد وزير الري المصري لكينيا العام الماضي. و الحقيقة ان شن حرب على دول حوض النيل أمر غير قابل للتنفيذ, و اذا حدث فالجدران الزجاجية للبيت المصري ستكون أول و أكبر المتضررين, و هو ضرر لا يعرف الا الله مدى تبعاته على مستقبل الأجيال القادمة في مصر.
ثالثا أسطورة المؤامرة الاسرائيلية للسيطرة على منابع النيل, و هي محاولة لذر الرماد في العيون حتى تعميها عن رؤية الحقيقة و هي سعى لتأليب الدول العربية و الاسلامية لتدعمها في معركتها الخاسرة. كما أن الحديث عن الأيادي الاسرائيلية الخفية هو مواصلة للنظرة الاستعلائية التي تصور شعوب حوض النيل بأنها فاقدة الارادة لا تتحرك الا من خلال محرك خارجي و تنكر حقها في الحياة و في المطالبة بحقوقها.
رابعا أسطورة القيد القانوني و الادعاء بأن القانون الدولى لا يسمح بنقض اتفاقيات المياه بين الدول بدليل وجود سابقة في محكمة العدل الدولية تم الحكم فيها برفض الانسحاب الأحادي من اتفاقية مياه. و لكن السوابق القضائية لا تطبق في أى قضية الا في حالة تطابق الوقائع و الا اذا كان التطبيق يتسق مع روح القانون في توخي العدل, و هو ما لا يتوفر في حالة مياه النيل.
كل هذه الأساطير لا تعدو أن تكون صروحا من خيال ستهوى عند أول مواجهة علمية و قانونية, و حينها سوف ينعتق السودان من أسر الاتفاقية و ننشد جميعا مع أم كلثوم:
آه من قيدك أدمى معصمي .............لم أبقيه و ما أبقي على
و ما احتفاظي بعهود لم تصنها .. و الام الأسر و الدنيا لدى
من بوست مدحت عثمان / سودانيزاولاين