هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
صداح فاروق وراق

صداح فاروق وراق



أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Empty
مُساهمةموضوع: أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟   أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Icon_minitime1السبت 3 يوليو 2010 - 7:49

سيميولوجيا السواد في خطاب الهوية السوداني

بقلم: محمد جميل أحمد


--------------------------------------------------------------------------------

لا تفترض هذه الكتابة عن سيمولوجيا السواد في خطاب الهوية السودانية تأويلا مسبقا لحمولة تاريخية أو جمالية أو اجتماعية عن اللون الأسود . ولا تنزع إلى تحيزات ذاتية تمنح الشعور الجمعي بهذا اللون قيمة خاصة من داخل حقل التعاطف والمشاركة الوجدانية ، التي لا تسلم عادة من ردود أفعال لتحيزات لونية أخرى.
بل تهدف إلى قراءة دلالة اللون الأسود وانعكاساته في تعبيرات الهوية التي تستجيب لتأثيره السلبي والإيجابي ، قراءة ً موضوعية عبر تأمل المعنى وتأويلاته التي تتذرر في دلالات مختلفة : دينية جمالية وأخلاقية واجتماعية ؛ ينشأ من مجموع تأويلها الخام ردود أفعال تعبر أحيانا ـ بفعل تشابك تلك الدلالات ـ عن مفاهيم توحي بمعنى النقص أو النبذ لذلك اللون .
وهذه الطبيعة الشائكة لتعبيرات (السواد) في تلك الحقول المختلفة ، وضرورة قراءة الفرز المعرفي بينها ، وانعكاسات ذلك الفرز في النتيجة النهائية للخروج بقيمة موضوعية ؛ يحتاج إلى تدوير الزوايا في هذه القضية عبر استبطان القراءات الدينية والجمالية والأخلاقية لقضية اللون الأسود من أجل التأويل المعرفي/الإنساني .
ولعل في استخدامنا لمصطلح (سيمولوجيا) ، فلسفيا ، ما يتجاوز المعنى المباشر لمفردة (العلامة / السيمياء) إذ أن استخدام مصطلح (السيمولوجيا) في هذه القراءة يستجيب لشمول النظر في حقل المعاني المختلفة التي تختزنها دلالة السواد؛ بحيث يصبح التعاطي معها محاولة لتحقيق أكبر قدر من الفهم الموضوعي الذي ينتبه لتجلياتها المتعددة ، ويختبر فرزها في الحقول المتباينة للوصول إلى أقصى حدود التأويل الإنساني .
ومن الطبيعي أن هذا المدخل مدخل شائك ، وينطوي الاستقراء فيه لتلك القضية على ضرورة المرور بحيثيات دينية ، وجمالية ، وتاريخية ، وأخلاقية ، واجتماعية للكشف عن جذور التعبيرات المختلفة والملتبسة التي تنشأ في وعي الناس عبر خلفياتهم المتعددة في نظرتهم لمسألة اللون الأسود.
وهذه القراءة محاولة للتعبير عن تأويل خاص بكاتب هذه السطور لقضية اللون الأسود وتعبيراته في خطاب الهوية السودانية سلبا وإيجابا ؛ يحاول من خلالها قراءة دلالات اللون عبر مجموع تأويلاته الدينية والجمالية والأخلاقية…ألخ ؛ من أجل الوصول إلى معنى إنساني يختزن سموا عميقا للاختلاف اللوني بين البشر.
لكن الانطباع العام للحس البشري المتواطئ مع عوائده ، وتبلد الطبع ، والميل الفطري إلى حب الصور بطريقة مطردة منعكسة … والكثير الكثير من التراكمات التاريخية المختلفة لمعنى اللون الأسود في وعي الجماعات البشرية ؛ كل ذلك ، تاريخيا ، نزع في الوعي البشري الخام إلى تأويلات تخالف ذلك المعنى الإنساني الذي يدرج (السواد) في اختلاف الألوان ، في خانة اختلاف الألسنة .
وبحسب الآية القرآنية : ( ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) فإن اختلاف الألوان بين البشر تماما كاختلاف ألسنتهم يقتضي المغايرة ، ولا يقتضي المفاضلة و لا يعني تفوقا بالضرورة.
لكن إدراك قيمة هذا الاختلاف اللوني بمعناه الإنساني البسيط ـ كما هو في الآية القرآنية ـ يصبح أكثر تعقيدا في تاريخ المجتمعات البشرية ، و يحتاج إلى إيمان عميق بحكمة الخالق ، و الفطرة الإنسانية ، والصبر على الكثير من ردود أفعال :
( عصبية اللون) التي ربما اختزنت تعبيرات عنصرية خفية و مبطنة ـ خصوصا في مجتمعات متخلفة كمجتمعاتنا العربية المعاصرة.
بداية يمكننا التأكيد على أن المعطيات الدينية ، والجمالية ، والأخلاقية المجردة ، لا يمكن أن تنزع إلى اعتبار السواد في الجسد البشري نقيصة أو علامة سالبة أو دونية. فالنصوص المؤسسة للإسلام مثلا ( القرآن وصحيح السنة النبوية ) تنطوي على تأويلات إنسانية صافية وواضحة في هذه القضية : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ( ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) وفي السنة ( لافضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) وكلمة (فضل) هنا معناها الحصري هو (الزيادة) أي ليس هناك من إنسان يحمل قيمة مضافة على إنسان آخر بمجرد لونه أو عرقه . بل بكسبه فقط كالتقوى والعلم والأخلاق . ومعنى (الزيادة) هذا لكلمة (فضل) يفسره حديث آخر في نفس المعنى (الناس سواسية كأسنان المشط) أي لا تفاضل بينهم من حيث الأصل .
بيد أن التحيزات عادة تنشأ في مراحل متأخرة حين ينتشر الجهل والعصبيات ، فمن يستقرئ سيرة وحياة المجتمع الإسلامي الأول ـ جيل الصحابة ـ يجد تطبيقات وحوادث ووقائع متعددة نابذة لعنصرية اللون و تعزز المعنى الديني والحقيقي لمفهوم المساواة الإنسانية في مسألة اختلاف الألوان .
لكن دلالة التعبير بالسواد ، التي تأتي في بعض آيات القرآن بمعنى سالب ، وربما أوحت ـ في تأويل ناقص ـ بمعنى عنصري في بنية النص الديني المؤسس (القرآن) كقول القرآن ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) للدلالة على أصحاب الجنة وأصحاب النار يوم القيامة ؛ بيد أن قراءة المعنى بدقة في القرآن لا تدل على ذلك التأويل الناقص . ذلك أن دلالة البياض والسواد هنا دلالة رمزية بلاغية ناشئة من طبيعة نظام المفردات ومعانيها التي تأخذ طابعها في التقبيح والتحسين من أسلوب التعبير اللغوي الخاص لمفهومي البياض والسواد في استعمالات العربية ؛ لأن القرآن نزل بلغة لم يكن أهلها يعرفون سواها . وعليه فدلالة السواد والبياض لا يمكن أن تحمل طابعا عنصريا ـ لأن ذلك يعني تناقضا ً جوهريا ً في منطوق القرآن .
الإشكال الكبير ينشأ عادة من تحويل الإحساس العام بجماليات البياض في الجسد البشري ـ وهو إحساس فطري تتواطأ عليه الأمزجة ـ إلى حقول أخرى كالعلاقات الإنسانية . فكون البياض في الجسد البشري ينطوي على دلالة جمالية لا يبرر بأي معنى من المعاني تحويل هذه الحقيقة إلى معنى آخر يمنح الإنسان الأبيض قيمة مضافة على الإنسان الأسود أو الملون لمجرد البياض الذي هو هبة وهوية طبيعية قـَبيلة واضطرارية ، تماما كالسواد الذي هو أيضا ، هبة وهوية طبيعية قبلية واضطرارية. هذا التطابق الذي يحول القيمة الجمالية للبياض إلى قيمة مضافة للإنسان الأبيض على الإنسان الأسود ، في حقل العلاقات الإنسانية ـ أي حين يقع الخلط بين القيمة الجمالية للبياض والسواد من حقل الذوق والجمال (على ما فيه من نسبية) وينسحب ذلك على خلق علاقات تفاضل عنصري بين البيض والسود في القانون والمجتمع ؛عند ذلك يصبح هذا الخلط عادة هو الذي يمثل التعبيرات الظاهرة و الخفية للعنصرية في المجتمعات التقليدية والمتخلفة ـ كالمجتمع العربي والمجتمع السوداني ـ ويظل هذا الالتباس ( الذي يحتاج إلى سبر وتقسيم معرفي ينبني عليه نظام أخلاقي قانوني كشرط للتحضر الذي نفتقده ) هو الذي يعيد انتاج التعبيرات العنصرية بعد أن تصبح أعرافا مثلا ، أو حين تشتغل كإحساس خام ينحو بمثل شعبي مثل (اللون يحن) إلى تحيزات عنصرية . وتتحول طريقة اشتغال ذلك الخلط في تغذية التعبيرات والممارسات العنصرية الصامتة والناطقة إلى أسلوب عام في نظام اجتماعي يجد في مجموع الموروثات التاريخية الملتبسة لبنية الثقافة العربية الشعبوية وممارساتها التي نشأت في ظل تراكمات طويلة في السودان ، ملاذا يمنح الفرد ذلك التماهي مع التعبيرات التي تختزن معاني العنصرية بصورة توشك أن تكون طبيعية وعادية من ناحية ، ويشكل له ضغطا عصبيا مدمرا حين يحاول مخالفة تلك الأعراف ( سواء لسبب إنساني بسيط وعميق وعابر للألوان والأعراق ـ كـالحب والزواج ـ أو لسبب معرفي عميق كالوعي الحقيقي بغير جدير العنصرية) من ناحية ثانية.
وهذه التعبيرات العنصرية الصامتة والناطقة هي أيضا ً تأويل للسلطة الثقافية التقليدية المتنفذة رمزيا أو فعليا . فمن خصائص السلطة الثقافية الآيدلوجية في المجتمعات التقليدية ، أنها تنطوي على تفعيل إحساس طاغط لدى الفرد لناحية تمثل العنصرية كسلوك يتغذي من ذلك الخلط الملتبس والمريح لمجتمعات الجهل والتخلف المتمثل في بنية راسخة من الأمثال والمقولات والعادات والرموز ، والتماهي مع تأويلاتها ومفاهيمها للعنصرية الناشئة من المزج بين دلالات البياض والسواد في حقول مختلفة والمحيلة لها إلى معنى واحد وثوقي يبلور تلك العنصرية اللونية كقيمة مضافة للأبيض على الأسود ، أو حتى للملون على الأسود ، كما للخلاسي الهجين على الأسود بحسب اختلاف المجتمعات .
و المفارقة هنا أن هذه السلطة الآيدلوجية للعنصرية تتصرف في تأويلها للنقاء اللوني بخلاف قابليات الفطرة البشرية، أي ظهور اللون الهجين حين ينشأ من لقاء البيضاء بالأسود أو الأبيض بالسوداء ، وهذه الفطرة من أكبر علامات كشف الآيدلوجيا العنصرية المغلقة كنظام وثوقي متوهم يقوم على : أن تميز العنصر مبني على ضرورة اختلاف الأصول الجوهرية . مخالفا بذلك حكمة : أن ما تقبله الفطرة هو من حقائق الحياة . ولهذا فحكمة الخالق التي تسمح بظهور اللون الهجين ذي الهوية المتميزة عن الأصلين المختلفين من ناحية اللون ، تتحول في سلطة آيدلوجيا العنصرية اللونية القائمة على نقاء العرق من ناحية ، وعلى احتقار اللون الأسود من ناحية أخرى ؛ تتحول إلى تابو مسكوت عنه . بحيث يتم فرز الهجين الجديد عن العرق الصافي/الأبيض ، و إلحاقه بدائرة الطرف الأضعف أي اللون الأسود حفاظا على نقاء متوهم . وضمن هذه الرؤية صنف البيض في أمريكا (الخلاسيين) المتولدين من لقاء العرقين الأبيض والأسود( من أمثال باراك أوباما المرشح الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية ) في دائرة السود .
ويمكننا ـ بقياس مع الفارق ـ القول أنه بفعل سلطة رمزية شعبوية للون الأبيض في المجتمعات العربية يتم إدراج هوية العنصر الشمالي السوداني (نقصد الشمال السياسي بما في ذلك شرق السودان وأجزاء كبيرة من غرب السودان) خارج الهوية العربية المركبة ، ضمن مشاكلة لونية ، تهدر الشروط الحقيقية المتماثلة لنشأة الهوية العربية لشمال السودان ، تاريخيا ، مع شروط نظيراتها في البلاد العربية الأخرى . وهو إدراج يؤسس على غيرية اللون ، غيرية المعنى والمضمون بفعل اقتران شرطي نابع من سيولة نظرة شعبوية في المجتمعات العربية تتوهم ـ بطريقة اقتران لا شعوري ـ اللون كهوية مغلقة وقائمة بذاتها شرطا حصريا للانتماء العربي ؟! (رغم أن نشأة الهوية العربية في شمال السودان ، ديمغرافيا ، تناظر نشأة الهوية العربية في البلاد العربية ، فهي في السودان قائمة على ثنائة الزنج والعرب التي تناظرت تماما مع ثنائية العرب والقبط في مصر ، والعرب والبربر في شمال أفريقيا ، والعرب والفينيقيين في الشام ، والعرب والآشوريين والفرس في العراق) .
والحال أن الفارق الذي تتوهمه هذه النظرة الشعبوية في ذلك التصنيف لا ينبع من اختلاف شروط نشأة الهوية العربية في شمال السودان عن مثيلاتها في البلاد العربية وإنما بسبب نظرتها إلى اختلاف اللون الأسمر الهجين والمختلف عن اللون الذي تتوهمه شرطا للانتماء العربي
وضمن تأمل هذه الملاحظات لتفسيرها عبر حقائق الواقع التاريخي دون أن تكون تبريرا في حد ذاتها ، نحاول رصد تأويل السواد في الهوية السودانية بعيدا عن أي تحيز لأحد ضد أحد .
و ربما كان من نماذج هذه السلطة الشعبوية القائمة على (عصبية اللون الصامتة) ـ إن جاز التعبيرـ : ما نراه في برامج إعلامي معروف في قناة عربية شهيرة يبدي اهتماما بقضايا العرب في برنامجه الأسبوعي الحواري المفتوح . وحين تفيض حاجته عن قضايا العرب يلجأ إلى جيرانهم في (إيران) و(تركيا) دون أن يخصص حلقة لقضية (دارفور) التي ملأت الدنيا وشغلت الناس . والحال أنه لايمكن استبعاد هذا التجاهل لأهل دارفور في ذلك البرنامج العربي إلا في حالة (العنصرية الصامته والمسكوت عنها في بنية الممارسات الإعلامية للمجتمع العربي المتخلف) .
أما تأويلات هذه القضية وتجلياتها في المجتمع السوداني ؛ فلها وجوه وأقنعة شديدة التعقيد ، وردود أفعال في ناحيتي السلب والإيجاب .
ويمكننا القول أن تسوية قضية اللون ومفاعيلها في المجتمع العربي والسوداني هي جزء من صيرورة هذه المجتمعات ضمن سباق المسافات الطويلة في دروب الوعي والتحضر الإنساني والأخلاقي .
والعلامة الاجتماعية/ الثقافية المعبرة عن ذلك التقدم في القضاء على العنصرية اللونية بمستوياتها المختلفة وغيرها: هي في السخرية منها دون حساسية ؛ سخرية تشبه جدوى نظرية الضحك لدى (ميخائيل باختين) . فحين يسخر المجتمع بكل فئاته من غير جدير العنصرية ، دون أن يستدعي ذلك عراكا وثأرات وشتائم ؛ ستكون تلك السخرية السوية نتيجة ، لعلامتين فارقتين : الأولى عدم الاستحياء لدى جميع فئات المجتمع من الكلام عن واقع الظلم والاستعباد والعنصرية وكل أصناف الاعتداء العنصري الرمزي والفعلي لكشفه وفضحه أخلاقيا وإنسانيا .
والثانية تشريعات قانونية وجزائية نافذة ضد الممارسة العنصرية في الحياة العامة (قضية السخرية عادة ترتبط بالفن والكوميديا وهي مجالات تجوز فيها تلك السخرية للسياق الإبداعي والإنساني للفن عادة) .
لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الحالات المتقدمة من التسوية لقضية العنصرية اللونية في السودان وارتباطها بقضية الهوية ، ستكون التعبير الأسمى لوصول المجتمع العربي والسوداني آفاق رحبة ، يحتاج الوصول إليها وقتا ً طويلا ً ضمن جهد تاريخي كثيف ونضال وطني أخلاقي مديد.
وفي ذلك الأفق ستنتهي قضية العنصرية القائمة ضد اللون الأسود . وهذا يعني أن قضية العنصرية اللونية لا يمكن تسويتها إلا ضمن تسوية قضايا التخلف أصلا ، التي تتجلى في كل جانب من جوانب المجتمع العربي و السوداني.
كما أن ذلك يعني بالضرورة أن أغلب المقاربات والتأويلات والكتابات الشعبوية اليوم عن قضية السواد وارتباطها بالهوية السودانية ستظل تحمل طابعا لا يكاد يسلم من إسقاطات التخلف ، شئنا أم أبينا ، لأن التخلف بنية واحدة لا تتجزأ . اللهم إلا في بعض الكتابات النادرة التي تحاول باستمرار اجتراح مقاربة القضية من خلال منهج معرفي غير آيدلوجي .
وحتى الوصول إلى ذلك الأفق الإنساني الذي يرى في جوهر الإنسان قيمة عابرة للألوان والأعراق والأديان ؛ ستظل آليات إنتاج خطاب الهوية السوداني المرتكزة على مفهوم السواد ، سلبا أو إيجابا ، تتجدد عبر العديد من الأقنعة التي تنطوي على مقولات أو أفكار مركوزة في الفضاء التاريخي والاجتماعي لصيرورة العلاقات في المجتمع السوداني وأعراقه وثقافاته .
ذلك أن التمايز عن الآخر بإطلاق ، لا يمكن أن يشكل ضغطا قويا لتأسيس الهوية الخاصة بالأنا على حساب هذا الآخر ؛ إلا إذا كان هذا الآخر يشاطرها جوهرا ما ، بحسب صالح بشير. يقول صالح بشير : (الآخر هاجس مقيم أصلي لدى كل كائن إنساني يلابس مختلف أوجه كينونته تلك في أبعادها النفسية والاجتماعية والحضارية ، مشكلة كل (أنا) هو الآخر ، ليس الآخر بإطلاق ، ليس الآخر المطلق ، بل ذلك الذي يشاطرها جوهرا ما . أي ينازعها جوهرا ما ، لا سمات خارجية أو نافلة . الآخر الناجز الغيرية محسوم أمره فهو إلى الحياد أو إلى اللامبالاة أدعى . أما الآخر النسبي ذلك الملتبس في اختلافه والملابس في تماثله ، فهو التحدي والإشكال ، وهو التهديد الماثل دوما بفقدان الذات وفنائها في المثيل أو الشبيه ، لذلك يكون التمايز عنها جهدا دؤوبا وفعلا دراماتيكيا ، أي فعل تأسيس ووجود) 1
ذلك أن هذه الفكرة : فكرة تأسيس الأنا على آخر يشاركها جوهرا ما ، وجوديا عبر تميزها عن هذا الآخر ـ هي بالفعل فكرة تكاد تكون مطردة المعنى في تمثلاتها لتلك الشروط . إذ تكشف عنها صيرورة العلاقات التاريخية في التمايزات التي أنشأتها المجموعة المستعربة في شمال السودان تجاه المجموعات الزنجية فيه.
بيد أننا سنجد دلالة اللون الأسود هنا ليست هي العنصر الكافي لتأسيس التمايز الذي قام على الفرز العنصري في بنية الثقافة العربية الشعبوية في السودان . إن السواد هنا ـ ولأنه الجوهر المشترك بين المجموعات المستعربة الهجينة في السودان وبين المجموعات الزنجية فيه ـ والذي لكونه كذلك ، شطرا مشتركا بين المجموعتين ، يقوم عليه تأسيس وجود الهوية الغالبة والقوية ؛ فإن دلالته هنا ستتجاوز محض اللون إلى الرمز الذي يدل عليه العنصر الأسود أي الزنجي صاحب اللون الأصلي المنتقل إلى المجموعات الشمالية المستعربة عبر الهجنة . وهذا يعني بالضرورة الملامح العضوية المتصلة باللون الأسود في معناها العنصري .
أي أن اللون الأسود هنا لا يأخذ دلالته العنصرية من كونه لونا ، بل من الخصائص البيولوجية والعضوية للعنصر الزنجي . فدلالة السواد في وعي المجموعة الشمالية المستعربة لا تشترك بالضرورة في بنية واحدة ، أوهي دلالة لونية منزوعة القيمة من حيث اللون ، ولا يتم تأويلها كدلالة نقيصة وقائمة على العبودية إلا حين ترتبط بالخصائص العضوية الأخرى للزنوجة . والمفارقة هنا أن علامة السواد ـ لكونها جوهرا مشتركا بين المجموعتين السودانيتين ـ تأخذ دلالة تكاد تنزع عنها المعنى الشايع للون الأسود في كونه تأويلا للعبودية في العديد من الثقافات والأساطير البيضاء .. حتى أصبح اللون الأسود بفعل ذلك المعنى الآيدلوجي العنصري ، ينزاح على حقول تستوي مع تلك الدلالة في معناها الذي يفيد النبذ والتهميش أي أن السواد قد يأخذ معناه السياسي كعلامة على المهمشين سياسيا أو نوعيا ـ ولو كانوا بيضا أو ملونين ـ كالأقليات ، والنساء اللواتي يقع عليهن الفصل العنصري النوعي مثلا . على ما ذهبت إلى ذلك الناشطة والباحثة السودانية بجامعة فيينا الدكتورة إشراقة مصطفى في العديد من دراساتها المكرسة لهذا المفهوم.
فبالرغم من أن اللون الأفريقي الأسمر الداكن هو الغالب على جميع سكان السودان ـ بدرجات متفاوتة (تبدو غير ذات معنى للآخر الناجز الغيرية من ناحية اللون كالعرب مثلا) ، إلا أن الأساطير المؤسسة لنقاء العنصر الهجين ـ تأمل في مفارقة الهجنة ـ لدى المجموعات الشمالية المستعربة ، عن العنصر الأفريقي الصرف والذي هو جزء أصلي من مكونها البيولوجي(المجموعات الشمالية المستعربة) ، كانت توهم نفسها بتحيزات عنصرية بشعة تأسيسا على مقولات بغيضة، تحولت فيما بعد، إلى ماركة عنصرية تمييزية ، وأخذت شيوعها كأمثال شعبية للهوية والفرز العنصري مثل مقولة : ( العبد رأس) التي تستند في دلالتها إلى نظام شامل يقوم على الفرز العنصري المستفاد من معناها . هذه المقولة الشنيعة التي هي المثل الخاص لتعريف (العبد) لدى المجموعات المستعربة في الشمال ؛ لا يمكن فهمها إلا في إطار تلك الفكرة المطردة في طريقة اشتغال تأسيس هوية الأنا المتوهمة على الآخر الذي ينازعها جوهرا مشتركا . فالآخر ـ الذي هو هنا المجموعات الزنجية في السودان ـ ؛ ولأنها تشاطر المجموعات المستعربة لونا واحدا ـ وإن بدرجات مختلفة ـ لجأت المجموعات الشمالية المستعربة إلى اختراع هذه الوصفة (العبد رأس)‍ ؛ ذلك (العبد) الذي لا يشبهها إلا في اللون . وبالتالي فإن هوية (العبد) لدى هذه المجموعات المستعربة ليست ناشئة من لونه ، وإنما من رأسه (أي في الشعر الأكرت والأنف الأفطس ، والشفاه الغليظة) ـ وهذه كلها يجمعها الرأس ـ (على رغم تهافت هذه المقولة بيولوجيا) ؛ فالهجنة البيولوجية تنتج السواد في سلالاتها مع عناصره الأخرى .
وعلى هذه المقولة ينشأ الفرز العنصري لهذا الآخر الشبيه ، ويظل التمايز عنه باستمرار هو مبرر الوجود والقيم والعلاقات البينية القائمة على التعالي والنبذ . وهي علاقات لا تزال تضمر مفاعيلها في الواقع السياسي والاجتماعي في السودان . وتشتغل في حقل الإجماع السكوتي لتلك العلاقات ، التي تظهر طاقاتها التدميرية الشعبوية المستندة على الاستعلاء العنصري المبطن في الحروب والكوارث السياسية مثل حرب الجنوب التي تجسدت فيها تلك النزعات ضمن التأويل العام للحرب الانفصالية ، فيما كانت بواعث بعض الممارسات القتالية طوال سنواتها المتقطعة تتغذى من ذلك الفرز العنصري البغيض ، وهو فرز من طبيعة استئصالية تنتج ردود أفعال مثيلة لها عند الآخر . وهذه الطبيعة الإستئصالية تنتفي معها أو تذوب كل الأهداف السياسية المعلنة في الشعار العام للحرب لدى الجانبين ، فبعض رواسب العداء القوية ـ بالإضافة إلى تلك الناشئة عن التهميش السياسي والتباين الديني ، وسياسة الفرز الاستعمارية بين الشمال والجنوب ـ تعود إلى تلك النظرة العنصرية كجزء من ثقافة شعبوية تاريخية لمجموعات الشمال المستعربة ، تفعل فعلها في الممارسات بطريقة تبدو عادية جدا ومبررة حتى في القتال .
وربما كانت المفارقة الأقوى تبدو بصورة واضحة في مأساة دارفور التي اندلعت بطريقة كارثية منذ العام 2003 . ففي هذا النزاع ـ المتجدد دائما في الصراعات القبيلة عبر تاريخ منطقة دارفور بين Sadالعرب) الرعاة وبين الزنوج (الزرقة) المزارعين ـ والذي تم تسييسه من طرف نظام الإنقاذ الإسلاموي بوقوفه ودعمه لمجموعات (الجنجويد) ؛ كان من فاعليات التأجيج لهذا الصراع هو: استبطان الميز العنصري لمجموعات الجنجويد تجاه (الزرقة) ـ وهو اسم محلي يقصد به المجموعات الزنجية لمواطني دارفور وأهلها الأقدمين مثل قبائل " الزغاوة" و " الفور" و"المساليت " وغيرهم ـ أن وصل إلى صورة تتماهى مع حدود (عادية الشر) ـ بحسب حنة أرندت ـ إذ تمارس تلك المجموعات قتل (الزرقة) بشهوة استعلائية تصل حد التبرير ، عبر استبطان الميز العنصري المسنود بقوة دعم الحكومة المركزية في الخرطوم . وهكذا حين انفجر هذا الصراع بعد أن تم تسييسه ، وانتقل من حدود الطبيعة إلى حدود السياسة ، كان ـ في وجه من الوجوه ـ تعبيرا نشطا عن طريقة اشتغال هوية الأنا المتمايزة عن الآخر الشبيه في أشد صورها عنفا ، وهي بطبيعتها تلك تبدو مثالا واضحا على قوة الطاقة الاستعلائية والتدميرية لدى المجموعات الهجينة تجاه مجموعات الزنوج ، بالرغم من الدين الواحد ، واللون الذي يكاد أن يكون لونا واحدا .
وكان لكل هذه الحيثيات المركبة في تعبيرات السواد في معناه السلبي وانعكاسه على العلاقات الاجتماعية التاريخية ، في ضوء طريقة اشتغال الأنا المتوهمة ، وصناعة ذاتها عبر محاولات إلغاء وتهميش الآخر الذي يشاطرها جوهرا واحدا ؛ كان لكل ذلك ردود أفعال قوية بدأت مفاعيلها مع قيام دولة الاستقلال التي قامت على أكتاف الطبقة الشمالية المتعلمة ، ولكنها لم تنفجر على نحو فعال إلا مع الاندلاع الجديد لحرب الجنوب الذي فجره الدكتور (جون قرنق) في العام 1983 م استئنافا للنضال من أجل قضية الجنوب ضمن رؤية جديدة للسودان ، واحتجاجا على تطبيق الرئيس النميري للقوانين الإسلامية في ذلك العام .
لكن الانفجار الأكبر كان مع قيام انقلاب نظام الإنقاذ الإسلاموى في العام 1989م الذي زامن انهيار نظام القطبين ونهاية الحرب الباردة ، وبداية العولمة . وتطبيقه لآيدلوجيا إسلاموية خلفت آثارا كارثية في النسيج الوطني والاجتماعي ، والبنية الكيانية المختلة أصلا ، وأججت الحرب في الجنوب على خلفيات صراع ديني مدمر وجففت الكثير من ملامح الحياة السودانية التي كانت تختزن صورة ما لهوية قابلة للتطور باتجاه ذاتها .
ضمن هذه التحولات نشأت ردود أفعال منعكسة في خطاب الهوية السودانية ؛ تستعيد سرديات جديدة حاولت أن تؤسس خطابها على مركزية السواد واللون الأسود الأفريقي كهوية أصلية للسودان ، و تقرأ الهوية التاريخية للسودانيين على ضوء حضارة (كوش) القديمة في السودان . بل وتجاوز بعضها منطقة السودان إلى (مصر) فمن ضمن الأفكار التاريخية للراحل الدكتور جون قرنق ـ مؤسس ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ في تفسيره لجدوى السودان الجديد والموحد : فكرة الأصل الزنجي للحضارة الفرعونية ، وأن الحضارة الفرعونية انتقلت من شمال السودان إلى مصر ، مستتندا في ذلك على أبحاث المؤرخ السنغالي (شيخ أنتا ديوب) صاحب كتاب : (الأصول الزنجية للحضارة المصرية)2 الذي ترجم من الفرنسية إلى الإنجليزية والعربية ونشر في مصر ، وكتب أبحاثا في هذا الصدد انطلقت من مفهوم مضاد للمركزية الأوربية يعتمد على ترجيح المركزية الأفريقية التاريخية للعالم القديم ، وفكرة المهد الجنوبي للحضارة الإنسانية ، مستضيئا في ذلك ببعض كتابات الأوربيين من أمثال (مارتن برنال) صاحب كتاب (أثينا السوداء) الذي ذهب إلى أرجحية المهد الجنوبي (الأفريقي) للحضارة الإنسانية .
ولقد لقيت هذه الأدلوجة الجديدة أصداء في شمال السودان من خلال كتابات بعض المثقفين الشماليين الذين أرادوا رد الإعتبار للأصل الزنجي وفكرة السواد كأساس لهوية جميع السودانيين من أمثال المثقف الشمالي د. الباقر العفيف 3 صاحب كتاب (أزمة الهوية في شمال السودان … متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء) الذي انطلق من ضرورة البحث عن الأسباب والأصول العنصرية الراسبة في أعماق المجتمع السوداني تحت دعوى العروبة ضد الزنوجة لفهم وتفسير الحرب الأهلية الطويلة في جنوب السودان وأكلافها الباهظة (مليونا قتيل ).
وحاول (الباقر العفيف) استقراء بعض مقولات الهوية وتعريفاتها ومظاهرها لدى (شارلس تايلور) و(توماس شيللنج) مستندا في كل ذلك على مفارقة اللون . فهو يؤسس مقولته على أن الشماليين ليسو عربا ، لا من خلال الحيثيات التاريخية المركبة للهوية الثقافية العربية ونشأتها ، بل على ضرورة محايثة اللون الأسود للغاته وثقافاته المحلية المسكوت عنها بفعل سطوة النظام الاجتماعي العربي (الإسلامي) التاريخي على الحياة في شمال السودان. ذلك أن تلك الثقافات المحلية كانت تعبيرا عن وجود حضاري كوشي نوبي عريق بشواهده الأركلوجية . والغريب أن الكاتب يستثمر تلك النظرة الشعبوية في المجتمعات العربية التي تدرج الشماليين في السودان في منزلة على هامش العروبة المقترنة في وعيهم باللون الأبيض ، يستثمرها إلى أقصى حدود التناقض ويبني عليها (حقائق) ، كالتالي : بما أن عرب الشام ومصر والخليج هم الذين يمثلون المركزية العربية بألوانهم البيضاء (الصافية) فلابد أن يكون الهامش السوداني الهجين ـ خارج الدائرة العربية ـ في حاجة إلى تأكيد عروبته عبر تطويب ذلك المركز ، ولذلك فإن استحقاق الشماليين في السودان للهوية العربية استحقاق وهمي لأن ألوانهم تختلف عن ألوان عرب المركز !؟
والحال أننا نجد أنفسنا أمام قضية تتعلق بموضوعة اللون أكثر منها أو بالهوية (الهوية بمعناها المركب) . فالكاتب يتماهى عكسيا مع تلك النظرة الشعبوية للمجتمع العربي المعاصر دون أن يدري أن مثل هذه المقارنات لا تصلح لقراءة معرفية جادة في قضايا الهوية ، أو تنتج عنها ؛ فلا تلك النظرة العربية الشعبوية المستندة فقط إلى اللون الأبيض يمكن أن تكون معيارا لحيثية الهوية العربية المركبة ، ولا تعبيرا سويا لرؤية إنسانية متقدمة وواعية للمجتمع العربي الذي يعيش أسوأ مراحل انحطاطه. ولا اختلاف اللون في سحنة الشماليين السودانيين يهدر القيمة الموضوعية لمعنى الهوية العربية ونشأتها وعناصرها التاريخية المركبة في الشمال . هذا فضلا عن تلك الرؤية المغلقة والدوغمائية من طرف الكاتب التي تجد في بياض اللون محض عروبة عرقية صافية في تلك المجتمعات العربية؟ ولهذا ـ بحسب هذا المنطق ـ يكفي اللون الواحد لتذويب كل الأعراق الكردية والبربرية والقبطية …ألخ ، ضمن هوية متماسكة وصلبة في تلك المجتمعات !؟
هكذا تنوس سمة(السواد) بين حدين أقصيين في خطاب الهوية السودانية ، دون أن تمتلك تأويلها الإنساني الأسمى ضمن خطاب معرفي للهوية سياسيا واجتماعيا ووطنيا ، يفكك كل الآيدلوجيات والسرديات القائمة على سمة (السواد) . ويردها إلى معناها الطبيعي المؤسس على محض الاختلاف اللوني الذي يجمّـل الروح الإنسانية .
وهذا التردد بين الحدين الأقصيين لتعبيرات السواد في خطاب الهوية في السودان ، هو الوجه الآخر لأزمة الكينونة ، فالهوية ليست معطيات قبلية فحسب كاللون واللغة؛ وإنما هي أيضا صيرورة وصناعة تنطلق من تلك المعطيات ضمن متخيل مشترك في منظومة من القيم والقوانين تحتاج إلى مصهر وطني خلاق .
هذه الهوية موجودة بالقوة ، وغائبة بالفعل ـ كما يقول المناطقة ـ لعجز النخب الثقافية السودانية عن اجتراحها وخلقها على مثالات تحققت بعمق وجمال في الفن السوداني : الشعر والغناء والتشكيل ، أي في أجمل تجليات هذه الهوية الصافية ؛ فالغناء في السودان استقطب تناقضات الهوية في كلماته العربية وإيقاعاته الأفريقية وجسد أقنوما جماليا صافيا يشد كل السودانيين إلى وتر واحد رغم اختلاف أعراقهم وأديانهم (الفنان السوداني الموسيقار محمد وردي أجمل من جسد هذه الهوية في ألحانه) .
وإذا كانت الهوية السودانية تملك وضوحا صافيا في الفن والشعر والغناء ؛ فلأن الفنون هي أصفى تعبيرات الروح حين تتصالح مع ذاتها وتصغي إلى ما هو إنساني وجميل في أعماقها . كذلك جسدت مدرسة (الغابة والصحراء) في الشعر السوداني أقنوما جميلا لتك الهوية بين حدي الزنوجة (الغابة) والعروبة (الصحراء) لهذا هتف رائد هذه المدرسة الشاعر السوداني الراحل د. محمد عبد الحي بعد أن عاد من التيه المضني عن هويتة ؛ ليكتشف معناها في أقنوم الزنوجة والعروبة الذي يجري بدماء مختلطة في أهل مدينته / وطنه ، تماما كالصوفي المعذب أبي يزيد البسطامي الذي عاد إلى بلدته ليجد فيها ما خرج باحثا عنه … يقول عبد الحي :
(أفتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
ـ بدوي أنت ؟
ـ لا
ـ من بلاد الزنج ؟
ـ لا
ـ أنا منكم / تائه عاد يغني بلسان / ويصلي بلسان)


عدل سابقا من قبل صداح فاروق وراق في السبت 3 يوليو 2010 - 8:27 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صداح فاروق وراق

صداح فاروق وراق



أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Empty
مُساهمةموضوع: متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء بقلم د. الباقر العفيف   أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Icon_minitime1السبت 3 يوليو 2010 - 7:59

متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء
بقلم د. الباقر العفيف
خلفية الدراسة :
تشتعل في السودان حرب هي الأطول عمراً في أفريقيا، وربما في العالم كله. استمرت هذه الحرب ثلاثين عاماً، قتل فيها 1،9 مليوناً وشرد 5 ملايين. وقد قتل منذ أن استولت هذه الحكومة على الحكم عام 1989م، بسبب الحرب والمجاعة الناتجة عنها، عدد أكبر مما قتل في الحروب البوسنية والرواندية والصومالية مجتمعة . وفي محاولاتهم لفهم جذور الحرب، اتبع المؤرخون والمحللون السياسيون السودانيون، منهجين. الجيل الأول من هؤلاء ركز بصورة أساسية علي القوى الاستعمارية، ومخططاتها المحسوبة لفصل الجنوب عن الشمال ببذر بذور الكراهية في الجنوب. و لكن وبعد أكثر من أربعة عقود من الحكم الوطني ما تزال الحرب قائمة فحسب، بل تفاقمت, واتخذت سيماؤها الدينية الكامنة, شكلها الواضح والمكتمل. وقد دفع هذا الواقع أجيالاً جديدة من السودانيين للتفكير في الأمر بصورة مختلفة. وهنا برز المنهج الثاني، لينقل مركز الاهتمام من العدو "الخارجي" إلى العدو "الداخلي" عندما يحاول الوصول إلى جذور الحرب، باعتبارها نزاعاً بين الهويتين الرئيسيتين في البلاد: الشمال والجنوب. وهناك الآن اتفاق واسع بين السودانيين، شماليين وجنوبيين علي حد سواء، أن بلادهم تعاني أزمة الهوية الوطنية. وأصبحت الحرب بالنسبة لهم وبصورة جوهرية، حرباً للرؤى، كما عبر عن ذلك تعيراً بليغاً، فرانسيس دينق ، الشخصية السودانية الجنوبية البارزة . وقد سعى الشمال الذي يشعر بأنه عربي ومسلم، إلى تعريف البلاد كلها على هذا الأساس. وهو لم يكتف فقط بمقاومة كل محاولات القطاع غير العربي لتوصيف السودان باعتباره جزءً من أفريقيا السوداء . بل بذل جهداً خارقاً لاستيعاب الجنوب من خلال سياسات التعريب والأسلمة، وسعى إلى تحويل الهوية الجنوبية إلى انعكاس مشوه للذات الشمالية. ولكن الجنوب، الذي نظر إلى المشروع كنوع من الاستنساخ الثقافي، قاوم هذه الاتجاهات دون هوادة.
ولكن هذه الدراسة تذهب خطوة أبعد، وتبحث، على مستوي اعمق، عن جذور هذه الحرب.أنها تسلط الأضواء على النزاع داخل الهوية الشمالية التي تقود إلى النزاع الأكبر بين الهويتين الجنوبية والشمالية.أنها تحاول الكشف عن العلاقة بين الانشطارات التي سببتها النخبة الشمالية الحاكمة علي مستوى البلاد، وتصدعات النفس الشمالية ذاتها، وتحديد ما إذا كانت الأولى، هي في نفس الوقت ، عرضاً للثانية وعلامة عليها. وهكذا فإن هذه الدراسة تحاول إنجاز تحول أخر، بنقل الانتباه من الازدواجية الخارجية التي تميز الانقسام الشمالي/ الجنوبي، إلى الازدواجية الداخلية التي تعاني منها الذات الشمالية.
تعريف الهوية:-
يعرف قاموس وبستر الجديد، للغة الإنجليزية، الهوية باعتبارها "تماثل الخصائص الجينية الأساسية في عدة أمثلة أو حالات أو تماثل كل ما يحدد الواقع الموضوعي للشيء المعين: تماثل الذات، الواحدية ، تماثل تلك الأشياء التي لا يمكن التمييز بين آحادها إلا بخصائص عرضية أو ثانوية. الإدراك الناتج عن التجربة المشتركة، هو أحد حالات هذا التماثل. أو وحدة الشخصية واستمرارها: وحدة وشمولية الحياة أو الشخصية أو حالة التوحد مع شئ موصوف، مزعوم أو مؤكد أو حيازة شخصية مدعاة" .
إذا شئنا تحديد هوية الشخص، فربما نحتاج لمعرفة اسمه أو اسمها، لونه، خلفيته الاثنية أو الثقافية، والموقع الذي يحتله وسط الجماعة. هناك، إذن ، وجهان للهوية، أحدهما أصلي، بدائي، ومعطى، والأخر مصنوع ومختار . فالهوية في نفس الوقت ذاتية وموضوعية، شخصية واجتماعية، ومن هنا طبيعتها، المتفلتة ، العصية على التحديد. ويملك الأفراد تشكيلة واسعة من الهويات الممكنة. إذ يمكن أن تكون لهم هويات عرقية أو اثنية، قومية أو دينية، أو حتى هويات خاصة بالمدن التي يقيمون فيها . ويرتبط الحديث حول الهويات الشخصية، ارتباطا وثيقاً، بمجال الخطاب الجينوي. ومع إن الخصائص البيولوجية هي خصائص موضوعية، إلا أن الهويات الفردية تعني شيئاً أكثر من ذلك. فهي تشتمل على دلالة ذاتية لوجود مستمر وذاكرة منسجمة ومترابطة منطقياً .
الدلالة الذاتية للهوية هي الإحساس بالوحدانية والاستمرارية الشخصية ، الإحساس بالانتماء إلي منظومة راسخة من القيم التي تكون الاتجاه العقلي والأخلاقي للمرء، وتعطى الأفراد خصائصهم المتفردة. إنها تمكن الفرد من تحقيق حياة ممتلئة وكثيفة. في مثل هذه اللحظات يمكن أن يقال أن الشخص حقق ذاته أو ذاتها. وصار "متصالحاً مع جسده أو جسدها". وعلى وئام مع بيئته أو بيئتها ومع نظامه أو نظامها الرمزي. ولكن الذي يقوم هذه الدلالة الذاتية، هو الخصائص الموضوعية، والتي يمكن التعرف عليها من قبل الآخرين.
الهوية دينامية أيضاً ومستجيبة للظروف المتغيرة. وهي قابلة للتحول مع التقنيات والنظم الثقافية والسياسية المتغيرة . وهي استراتيجية. فالناس يتبنون هويات معينة لأسباب استراتيجية مثل "التمكين" وقبل كل هذه العوامل وبعدها، هناك الإرث التاريخي لأجدادنا الذي "يحط بثقله في تحديد من نحن وماذا يمكن أن نكون . الهوية إذن إدعاء للعضوية يستند إلى كل أنواع النمطيات مثل العرق، الجنس ، النوع، الطبقة ، الطائفة، الدين، الثقافة ... الخ . إنها الطريقة التي يعرّف بها الناس أنفسهم، ويعرفهم بها الآخرون، على أساس من الأنماط السابقة .
تعريف التماهي :-Identification
قاموس العلوم الاجتماعية يعرف التماهي باعتباره "الميل للتقليد،و/ أو عملية تقليد سلوك شئ ما. وربما يدل كذلك على عملية التمازج العاطفي، أو حالة هذا التمازج الناجزة، مع هذا الشيء ذاته." . وقد استخدم س. فرويد، هذا المصطلح في علم النفس، لأول مرة عام 1899. إذ قال أن "التماهي هو التعبير المبكر عن الرابطة العاطفية مع شخص أخر". يتماهي الفرد مع شخص أخر "كمثال للذات " بوصفه شخصاً يريد أن يكونه، أكثر مما يريد أن يمتلكه. وهذا ما يجعله مهماً في سلوك المجموعات. وهو يفسر حاجة الفرد ومقدرته علي الارتباط، وقوة الروابط العاطفية. المشار إليها، كخصائص جوهرية للبشر. وهو يذكر في نفس الوقت" الأصل الطفو لي لعملية التماهي، ويفترض أن هذا الأصل الطفولي هو الذي يفسر بقاءها على مستوي اللاوعي، وقوتها كعامل تحفيزي، وتظاهراتها اللاعقلانية والنكوصية في بعض الأحيان. ولكن التماهي بالنسبة إليه ليس مجرد محاكاة، بل هو بالأحرى تمثل يستند إلى سلسلة سببية متشابهة .
ن. سانفورد يعارض مقولات فرويد ويقول أن التماهي، علي عكس ما يقول فرويد ، هو عملية واعية ، وأن المحاكاة هي اللا واعية، ويعرف ج. ب سيوارد، التماهي بأنه "استعداد عام لمحاكاة سلوك أحد النماذج" ويتحدث فرويد عن ثلاثة مستويات للتماهي. وتقول فرضيته أن التماهي يتخذ أولاً شكل الارتباط العاطفي بشيء ما. ثم يصبح بديلاً عن الرابطة الجنسية، وكأنما يتخذ شكل امتصاص أو تشرب أو تمثل الشيء في الذات. ثم يؤدي في النهاية إلى بروز إحساس جديد بخاصية مشتركة مع شص أخر ، أو مجموعة أخري. ويميز شيلر بين نوعين من أنواع التماهي، هما الايديوباثي أي الذاتي؛ والهتروباثي، أي الغيري. يحدث التماهي الايديوباثي من خلال "اضمحلال الذات الأخرى وامتصاصها من قبل الذات المتماهية"، بينما في التماهي الهتروباثي "تتضاءل الذات المتماهية أمام هيمنة وجيشان النموذج" .
تكوين الذات:
المفهوم الكلاسيكي يقول أن الذوات الاجتماعية تمثل معطيات أصلية، أو بدئية، موروثة مثل الخصائص البيولوجية. ولكن هذا المفهوم يخلي الساحة الآن لمفهوم أخر هو أن الهويات تتكون وتصنع اختيارياً ، وهي في حالة مستمرة من التكوين . ولكن اختيارات الناس لهوياتهم محكومة ومحدودة بالعوامل المعطاة مثل ملامحهم، أسرهم ، جماعاتهم، تواريخهم، ثقافاتهم...الخ, تكوين الشخصية ، بالنسبة لاريكسون ، عملية يستطيع الفرد من خلالها :
"أن يحكم على نفسه على ضوء الطريقة التي يعتقد أن الآخرين يحكمون عليه من خلالها، مقارنين اياه بأنفسهم، وينمط حيوي بالنسبة لهم، ولكنه في نفس الوقت يحكم على الطريقة التي يتصورنه بها على ضوء تصوره هو لذاته بالقياس إليهم،وبالقياس إلى الأنماط التي أصبحت هامة بالنسبة إليه" .
"يقول خبراء علم النفس الاجتماعي، إن تماهي الفرد مع أية مجموعة، مثلاً، الطبقة الاجتماعية، أو الجماعة العرقية أو الاثنية،هو في الغالب الأكثر شمولاً من كل العمليات النفسية المرتبطة مباشرة بالسلوك الاجتماعي .التماهي مع المجموعة المهيمنة مثلاً يحدث عندما "يستبطن (الفرد) منظومة الأدوار الخاصة بالمجموعة، ويعتبر نفسه أحد أفرادها" وهذا يحدث من خلال التمثل الثقافي. ويعبر ديفيد ليتين عن ذلك بقوله:
"التمثل الثقافي شبيه باعتناق الدين، وكما توضح أدبيات التحولات الدينية بصورة قاطعة، فإن ما يعتبر مسلكاً برغماتياً بالنسبة لهذا الجيل،يعتبره الجيل الذي يليه أمراً طبيعياً. ولذلك فإن الأطفال الذين ينشئون في ظل الجماعات الدينية، سيلجأون، مدفوعين بضغوط السلطات الدينية، إلى توبيخ آبائهم على ما يعتبرونه مسلكهم المنافق" .
وهذا الرأي يشابه مفهوم دي فواه عن الهويات المصنوعة" كهويات منحرفة". فهي تدل بالنسبة إليه "على نفعية بلغت مبلغ الشطط" وتمثل علامة على "الاختلال الداخلي" ، الذي يحدث في شروط اجتماعية محدده تمارس تأثيراً هائلاً على الإدراك الذاتي للهوية الشخصية . فرغم طبيعتها المصنوعة، فإن "مكونات الفرد تستطيع إدراج الفرد في سياقها بل حتى استعماره" .
في ثنايا تكوين الهويات الاجتماعية، هناك دائماً مجموعة داخلية، تمثل الهوية الاجتماعية المبتغاة، ومجموعة هامشية، تحتاج إلى الموازنة حتى تتماهى مع النموذج. وفي مثل هذه الحالات، فإن الأولى تمثل اللب، وتحتل مركز الصدارة من تلك الهوية الاجتماعية، بينما تمثل الثانية الدائرة الخارجية وتحتل الهامش. الأولى مستحوذة على الامتيازات، والثانية تبحث عن ذلك. الأولى تملك صلاحيات إضفاء الشرعية على الثانية أو حرمانها منها. ويلجأ شارلس تيلور إلى استخدام مصطلحي "التعرّف، والغيرية". ويقول أن هويات البشر "تتكون جزئياً بالتعرف أو غيابه، أي بالانتباه إلى غيرية الآخرين" .
وعلى سبيل المثال، بينما تمثل الطبقات الوسطي والعليا، مركز الهوية الأمريكية، فإن السود واليابانيين ...الخ الأمريكيين يمثلون تخوم هذه الهوية. ويحتكر المركز الحق في الاعتراف أو عدمه، بهذه المجموعات. ويمكن للتوتر بين المركز والتخوم أو الهوامش أن يظل مكتوماً، أو فاعلاً علي مستويات أدنى في الأوقات العادية والسلمية. وتبدو عباءة الهوية وكأنما هي قادرة على نشر أجنحتها ومد ظلالها على كل المجموعات التي تكون الأمة. ولكن المركز يلجأ في لحظات التوتر إلي استغلال صلاحيات الاعتراف أو إساءة استخدامها. ويمكن حينها أن يسحب المظلة عن أية مجموعة هامشية إذا رأى أن الضرورة تستدعى ذلك. وقد حدث هذا بالفعل في الحرب العالمية الثانية، حينما تم احتجاز اليابانيين الأمريكيين في معسكرات الاعتقال، لأن ولاءهم لأمريكا صار موضع شك من قبل مركز الهوية الأمريكية، ويمكن الاستدلال على الأسلوب الانتقائي للمركز في استخدام صلاحيات الاعتراف وسحب الاعتراف، بأن الأمريكيين الألمان لم يتم اعتقالهم، بالرغم من أن ألمانيا كانت هي القوة الرئيسية في دول المحور الأوربية. ولذلك قرر المركز أن يسحب الاعتراف عن الأمريكيين اليابانيين أثناء الحرب، وإعادته إليهم بعدها. ويمكن أن تقول نفس الشي عن بريطانيا، حيث تمثل الهوية الإنجليزية مركز الهوية البريطانية. فمن الملاحظ أن مصطلح "إنجليزي" يستخدم كثيراً من قبل المجتمع الإعلامي ندما يكون المقصود "بريطاني"، وهو ما يسبب الضيق للوطنيين باسكوتلاندة وويلز.
وتلاحظ الجماعات السوداء البريطانية أيضاً أن وسائل الإعلام البريطانية المركزية تطلق على الرياضيين الأفرو كاريبيين صفة "بريطانيين" عندما يكسبون الميداليات لبريطانيا، وصفة "كاريبيين" عندما يخسرون.هذه الأمثلة توضح التوترات بين المركز والهامش داخل كل هوية، كما تشير إلى ديناميات وعمليات الاعتراف وسحب الاعتراف التي تشتغل بين المركز والهامش.

تغيير الهوية:-
مستنداً على نموذج ابتدعه توماس شيللنج، يحاول ليتين تفسير تحولات الهوية عن طريق "منظومات" السلوك وما يترتب عليها من "ميول". وتحدث منظومات السلوك عندما يتكون سلوك الناس أو أفعالهم مستندة إلى، ومدفوعة بتوقعاتهم لما يمكن أن يفعله الآخرون. وعندما تفكر أعداد كبيرة من الناس في المجموعة، أن أعضاءها الآخرين سيفكرون بطريقة معينة، وسيتصرفون وفق ذلك التفكير، فإن المجموعة"تميل" أو "تنتقل" فجأة من نظامها المعتاد قبل نمط السلوك الجديد، إلى نظام آخر جديد. ولتوضيح كيفية "ميل" المجموعات واستوائها يورد ليتين المثال التالي:" خذ حالة واحد أو اثنين من الأفرو –أمريكيين يشتريان منزلين بضاحية "بيضاء" مستقرة. فجأة تفكر العائلات البيضاء، وقد اندفعت كل منها بالخوف من أن تكون آخر أسرة بيضاء بالضاحية، في بيع منازلها. ولكن الأفرو أمريكيين هم وحدهم الراغبون في الشراء. وبسرعة خاطفة "تتحول" أو "تميل" الضاحية من بيضاء إلى أفرو- أمريكيين" .
تتحول الهوية بنفس الطريقة، أي تستوي وتنتظم في سياق متخيل . ويعطينا ديفيد ليتين، في دراسته الميدانية للجالية الروسية بأستونا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتقلص حدوده، مثالاً واضحاً على تحول الهوية. وقد قام بشرح الجهود التي بذلها الأفراد الروس، وقد وجدوا أنفسهم غرباء وسط مجتمعات كانوا يهيمنون عليها في يوم من الأيام، للتأقلم مع الواقع الجديد. وقد اجتهد الروس باستونيا للحصول على الجنسية الأستونية. فبدأوا يدرسون اللغة الأستونية التي لم يشعروا بضرورة دراستها قبل انهيار الاتحاد، إذ كان الأستونيون هم المجبرون على دراسة اللغة الروسية. ويستنتج ليتين أن رغبة هؤلاء الناس في الحفاظ على سلامة عائلاتهم، وفي تفادي الإبعاد، أعطتهم حافزاً لتحويل الهوية. وهذا بدوره يضع الأساس لصنع هوية أستونية لأحفادهم، وهذا يعني إنهم كمجموعة، يتحركون نحو "انقلاب" هويتهم .
تعيش المجتمعات عادة في توازن. وفي هذه الحالات تشعر الجماعات أن العالم ثابت ثباتاً مطلقاً. حينها تكون الهويات بمأمن من الشكوك، ولا تكون هناك حوافز للتغيير، ويشترك الجميع في تصور ضمني لمن يكونون. وتضطلع النخب الثقافية والسياسية، لكل مجموعة،بإصباغ المعني على هذا التوازن، بإنتاج المعتقدات، والمحاذير، والمبادئ ، والأساطير والنظم الرمزية. في هذه المرحلة يمكن وصف المجموعة بأنها حققت ذاتها، أي إنها تعيش في انسجام مع بيئتها، وتري العالم بأم عينها. ولكن الحوادث والاضطرابات يمكن أن تزلزل التوازن، وتشيع عدم الاستقرار وسط الجماعة، وتقود إلى أزمة هوية، وتدفع بعض الناس إلى استكشاف هويات جديدة. في هذه الحالة غالباً ما تنقسم النخبة الثقافية والسياسية إلى أولئك الذين يحاولون الدفاع عن الوضع القائم، وأولئك الذين يحاولون خلق منظومة جديدة، تحقق توازناً جديداً .

أبعاد الهوية :-
ليس بمقدور أية نظرية منفردة، من النظريات التي تم تلخيصها فيما سبق، أن تفسر تعقيدات الهوية السودانية الشمالية، ولذلك تنشأ الضرورة لصياغة تركيبة منها جميعاً لتحقيق هذه الغاية. واستناداً إلى ما سبق، يمكن للمرء أن يضع اليد علي ثلاثة عوامل، تستطيع إذا ما تفاعلت مع بعضها البعض، أن تفسر كل هوية اجتماعية. العامل الأول هو تصور المجموعة لنفسها. العامل الثاني هو تصور الآخرين للمجموعة. العامل الثالث هو الاعتراف أو عدمه من قبل مركز الهوية بهذه المجموعة. إذا تفاعلت هذه العوامل الثلاثة بصورة منسجمة، أي إذا كان تعريف الناس لها مقبولاً و واقعياً.
وإذا كان مركز تلك الهوية يمحضها اعترافه، حينها يقال أن تلك المجموعة تعيش في توازن. وهنا تتقدم النخبة الثقافية والسياسية لإعطاء هذا التوازن معناه، مزودا إياه بمنظومة من المعتقدات، والقيود، والمبادئ ، الأساطير والنظام الرمزي. ويحاول النظام الرمزي إشاعة الانسجام في كل العالم المحيط بهذه المجموعة أو بمعني آخر، يحاول جعل العالم كله يبدو وكأنما ينبثق من الذات الجماعية للمجموعة، أو كأنما هو بعد واحد من أبعاد هويتهم. في هذه المرحلة يمكن وصف المجموعة بأنها صارت ذاتها، وأنها ترى العالم بعيونها أصالةً. أحد الأمثلة على الكيفية التي يشتغل بها النظام الرمزي، هو الكيفية التي أعادت بها الثقافات الغربية رسم صورة المسيح لجعله شبيهاً بالانجلو –ساكسون. وقد حدث هذا رغم حقيقة أنه يهودي، ولم يكن له بأي حال ما الأحوال شعر أشقر ولا عيون زرقاء. ومع ذلك كانت إعادة التركيب والصياغة هذه ضرورية من أجل تحقيق الانسجام في هوية البيض، لأن الناس يدركون العالم بصورة افضل، عندما يعبدون آلهاً يشبههم، وليش آلهاً غريباً عنهم.
ومن الجانب الآخر، إذا تفاعلت العوامل الثلاثة بصورة متناقضة، إي إذا كانت تصورات الناس لأنفسهم لا تنسجم مع الطريقة التي يعرفهم بها الآخرون؛ أو، وهذا أخطر الأمور؛ إذا كانت القوى المالكة لصلاحيات إضفاء الشرعية، لم تقبل تعريف الجماعة لنفسها، فإن هذه الجماعة توصف بأنها تعيش تناقضاً، وعدم انسجام. في هذه الحالة لا ينبثق النظام الرمزي من الذات الجماعية للجماعة، بل يكون مستعاراً في العادة من مركز الهوية التي تهفو إليها تلك الجماعة، وترغب أن "تكونها".
هذه الشروط تعد المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا المجتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى تسد عليه الأفق.

أزمة الهوية:-
يمكن لأزمة الهوية أن تحدث علي المستويين، الشخصي والاجتماعي. على المستوي الشخصي، تنشأ الأزمة عندما تحين لحظة إحداث التوافق بين التماهيات الطفولية وبين تعريف جديد وعاجل للذات، وأدوار مختارة لا يمكن النكوص عنها . يضاف إلى ذلك أن الهوية الشخصية تقوم علي جهد يستمر كل الحياة، كما يقول اريكسون، والفشل في تحقيقها يسبب أزمة ربما تكون لها نتائج مدمرة على الأفراد . أما على المستوى الاجتماعي، فتنشأ الأزمة عندما يفشل الناس، وهم يصنعون هوياتهم ، في العثور على نموذج يناسبهم تماماً، أو عندما " لا يحبون الهوية التي اختاروها أو اجبروا على تبنيها" ولأن الهويات الاجتماعية يتم تكوينها عادة " من التشكيلة المتاحة من التصنيفات الاجتماعية، فإن ظهور الخلعاء يكون حتمياً" . كذلك يمكن أن تحدث الأزمة عندما يسود الغموض نظرة الناس إلى هويتهم، أو يفتقرون إلى هوية واضحة . وفى حالة أخرى يمكن أن تنشأ أزمة الهوية عندما يكون هناك تناقض بين هوية الشخص ونظرة الآخرين إلى الهوية ذاتها. وأخيراً يمكن أن توجد أزمة الهوية إذا كان مركز الهوية، أي الجهة التي تملك صلاحيات إصباغ الشرعية، لا تعترف بادعاءات الهامش.
عوامل الأزمة في شمال السودان:-
من ضمن العوامل التي تسبب أزمة الهوية في أية جماعة، يمكن وضع اليد علي ثلاثة عوامل، تنطبق على السوداني الشمالي. أولاً هناك تناقض بين تصور الشماليين لذواتهم، وتصورا ت الآخرين لهم. فالشماليون يفكرون في أنفسهم كعرب، ولكن العرب الآخرين لهم رأي أخر، فتجربة الشماليين في العالم العربي، وخاصة في الخليج، أثبتت لهم بما لا يدع مجالاً للشك، أن العرب لا يعتبرونهم عرباً حقاً، بل يعتبرونهم عبيداً. وقد تعرض كل شمالي تقريباً للتجربة المريرة بمخاطبته كعبد. يمثل عرب الشرق الأوسط، وخاصة عرب الجزيرة العربية، والهلال الخصيب، لباب الهوية العربية التي تهفو أفئدة الشماليين إليها، وتطمح للانتماء إليها. فهؤلاء "العرب الأصلاء الأقحاح" يحتلون مركز هذه الهوية، ويتمتعون بصلاحيات إضفاء الشرعية أو سحبها من ادعاءات الهامش. ويمثل الشماليون، من الجانب الأخر، الدائرة الخارجية من الهوية العربية، ويحتلون الهامش ويتطلعون إلى إدنائهم للمركز، كعلامة من علامات الاعتراف. سحب الاعتراف عن أية مجموعة من قبل الأخريات، وخاصة إذا كانت هذه الأخريات يمثلن مركز الهوية، يمكن أن يلحق أثراً مؤذياً بهذه المجموعة . وكما قال شارلس تيلور: "يمكن أن يلحق بالشخص أو المجموعة من الناس، أذى حقيقي، وتشويه حقيقي، إذا عكس لهم المجتمع الذي حولهم، صورة عن أنفسهم، تنطوي على الحصر والحط من الكرامة والاحتقار . وقد كان المركز أبعد ما يكون عن الاعتراف بالشماليين عندما سماهم "عبيداً" ، وأبقاهم بالتالي،إذا استخدمنا مصطلح تيلور، "على مستوى أدنى من الوجود" .
العامل الثاني في أزمة الهوية بشمال السودان، يتعلق "بالغموض" حول الهوية. وقد وقف الشماليون وجهاً لوجه أمام هذه الظاهرة، خاصة في أوروبا وأمريكا ، حيث يصنف الناس حسب انتماءاتهم الاثنية والاجتماعية. ففي عام 1990 ، عقدت مجموعة من الشماليين اجتماعاً بمدينة بيرمنجهام لمناقشة كيفية تعبئة استمارة المجلس، وخاصة السؤال حول الانتماء الاثني. فقد شعروا أن أياً من التصنيفات الموجودة ومن بينها "ابيض ، أفرو- كاريبي ، أسيوي، أفريقي أسود، وآخرون " لا تلائمهم.الذي كان واضحاً بالنسبة لهم إنهم ينتمون إلى "آخرون" ولكن الذي لم يكن واضحاً هو هل يحددون أصلهم "كسودانيين، أو كسودانيين عرباً ، أو فقط كعرب؟ ".و عندما أثار أحدهم السؤال : لماذا لا نؤشر على فئة "أفريقي-أسود" ؟ كانت الإجابة المباشرة هي: "ولكننا لسنا سوداً" وعندما ثار سؤال أخر لماذا لا نضيف "سوداني وكفى؟ كان الجواب هو:" "سوداني" تشمل الشماليين والجنوبيين، ولذلك لا تعطي تصنيفاً دقيقاً لوصفنا" ولوحظت ظاهرة الغموض حول الهوية كذلك في الشعور بالإحباط والخيبة الذي يشعر به الشماليون، عندما يكتشفون لأول مرة، أنهم يعتبرون سوداً في أوروبا وأمريكا. وتلاحظ كذلك في مسلكهم تجاه المجموعات السوداء هناك. إطلاق كلمة اسود على الفرد الشمالي، المتوسط ، كانت تجربة تنطوي على الصدمة. ولكن الجنوبيين يرونها مناسبة للمزاح، فيقولون لأصدقائهم الشماليين : "الحمد لله، هنا أصبحنا كلنا سوداً " أو "الحمد لله، هنا أصبحنا كلنا عبيداً" . مسلك الشماليين تجاه المجموعات السوداء بهذه البلدان، شبيه لمسلكهم إزاء الجنوبيين. وغالباً يطلقون عليهم كلمة "عبد" وقد أشار واحد ممن استطلعت أراءهم، إلى الافرو –كاريبيين كجنوبيين .
العامل الثالث من عوامل الأزمة يتعلق،" بخلعاء" الهوية، أو أولئك الذين لا يجدون موضعاً ملائماً داخلها. فالشماليون يعيشون في عالم منشطر، فمع إنهم يؤمنون انهم ينحدرون من " أ ب عربي" و" أم أفريقية" فإنهم يحسون بالانتماء إلى الأب الذي لا يظهر كثيراً في ملامحهم، ويحتقرون الأم، الظاهرة ظهوراً واضحاً في تلك الملامح. هناك انشطار داخلي في الذات الشمالية بين الصورة والتصور؛ بين الجسد والعقل، بين لون البشرة والثقافة، و بكلمة واحدة بين " الأم والأب". فالثقافة العربية تجعل اللون الأبيض هو الأساس والمقياس، وتحتقر اللون الأسود. وعندما يستخدم الشماليون النظام الدلالي للغة العربية والنظام القيمي والرمزي للثقافة العربية، فأنهم لا يجدون أنفسهم، بل يجدون دلالات وقيماً تشير إلى المركز. فالذات الشمالية كذات غائبة عن هذا النظام، ولا تُرى إلا كموضوع، من خلال عيون المركز، ومن هنا جاء " الخلعاء".

آثار الهوية الهامشية على النفسية الشمالية:-
لا شك إن هذا الموقع الدون، كانت له آثاره على نفسية الفرد الشمالي، فعندما أفاق هذا الفرد، على إن الخصائص المعيارية، المثالية، لهذه الهوية، هي البشرة البيضاء، والشعر الناعم المرسل، والأنف الاقني المستقيم، وجد أنه يفتقر إلى بعض هذه الخصائص والصفات، واستشعر الحاجة للحصول عليها أو التعويض عنها، فصار مفهوماً أن اللون كلما مال إلى البياض، كلما صار الشخص أقرب إلي المركز، وكلما صار ادعاؤه بالانتماء العربي أكثر مشروعية. وعندما تتعثر الاستجابة لشرط اللون، كما هو بالنسبة لأغلب الشماليين، يحاول الفرد أن يجد ملاذاً أو مخرجاً في الشَعْر، للبرهان على أصله العربي؛ فكلما كان الشَعْر ناعماً، كلما كان الشخص أقرب إلى المركز . وعندما يفشل المرء في امتحان الشَعْر هو الأخر، يحاول أن يجد ملاذه الأخير في شكل الأنف، وكلما كانت قريبة من المعايير العربية للأنف، كلما كان ذلك أفضل، إذ إنها، على الأقل ستكون شاهداً على أصل غير زنجي.

إحساس باللون مصحوب بالحرج:-
عندما يجد الفرد نفسه مفتقراً إلى ما يعتبره القسمات المعيارية، فإنه عادة ما يحاول التعويض عنها أو إكمالها. ولأن الزواج يعطي الأفراد فرصاً للتعويض والإكمال، فإن الفرد الشمالي المتوسط، يتطلع ويبحث عن الارتباط بآخر يكون قريباً من المثال في اللون والقسمات . فمثل هذا الاتحاد يعطي الفرد، رجلاً أو امرأة، فرصة للتعويض عن سواده )أو سوادها(، كما يعطيهما فرصة لتخليص أطفالهما منه. وفي دراستها الممتازة لقرية شمالية أطلقت عليها الاسم الوهمي "حفريات" توصلت جانيس بودي ،إلى مدى حدة وعي القرويين باللون. فقد عرفت منهم أن هناك تراتبية لونية،حسب الأفضلية "تتدرج من الأصفر، أي الفاتح،وتمر بدرجات أكثر دكنة تسمى "الأحمر" ، "الأخضر" ، و"الأزرق"" ثم تستطرد فتقول أن كلمة )أسود(" تستخدم دائماً للجنوبيين والأفارقة" .
و مع إن هذا المقتطف من "بودي" يبرهن على أفضلية الألوان الفاتحة وسط الشماليين، إلا أن ترجمتها الحرفية للاصطلاحات اللونية الشمالية، مثل أصفر ، أسمر ، أخضر، وازرق ، ربما تسبب بعض التشويش، إذا لم تشرح. ومن أجل شرحها، سأعيد صياغة عبارات "بودي" على النحو التالي: اللون الأول من حيث الأفضلية هو الأصفر ، وهذا هو معناه الحرفي، ولكنه يستخدم مع الأحمر للإشارة إلى البياض. اللون الثاني من حيث الأفضلية هو" الأسمر" وهذا يعني حرفياً الميل إلى الحمرة، ولكنه يستخدم لوصف تشكيلة لونية تتراوح من الفاتح إلى الأسمر الغامض. وهذه التشكيلة تشمل في العادة تقسيمات مثل "الذهبي" ، "القمحي" ، و"الخمري". اللون الثالث هو "الأخضر" ، ويستخدم كبديل مهذب عن كلمة "اسود" عندما يستخدم في وصف الشمالي الداكن اللون .وأخيرا،ً وآخراً "الأزرق" ولكنه يستخدم بالتبادل مع "الأسود" أي لون "العبيد".
إن الشمالي المتوسط ينظر إلي اللون الأسود كمشكلة تستوجب الحل. ومع أن الإناث يتعاملن معها مباشرة باستخدام الأصباغ، إلا أن الرجال يتعاملون معها بطريقة غير مباشرة أي الارتباط بأنثي فاتحة اللون . ولكن وبصرف النظر عن الشعور بالرضى الذي يوفره هذا الإجراء التعويضي والاستكمالي للفرد، إلا أنه يظل باقياً. ما يزال قدر كبير من القلق يفرزه الشعور الملازم للفرد بأنه يحمل معه أينما ذهب ذلك اللون الخطأ. ومن أجل مقاومة هذا القلق يجب توظيف ميكانزمات دفاعية ملائمة. وهنا يصبح اللون الأسمر هو المعيار، ويعطي اللون الأسود اسماً أخر. ولتفادي وصف الذات بأنها "سوداء"، ابتدع الوعي الجماعي الشمالي لفظة" أخضر" والتي كانت تستخدم أصلاً في وصف اللون الداكن للأرض. وبناء على ذلك، بينما يكون الشمالي الداكن اللون "أخضراً" ، فإن الجنوبي الداكن اللون بنفس القدر يسمي "أسوداً".
وفي نقاشه لمفهوم اللون لدى الشمالي، يكتب فرانسيس دينق ما يلي:
"يركز الكبرياء اللوني الشمالي على اللون الأسمر الفاتح للبشرة، ويعتبره المثال والمعيار بالنسبة للشمال، وبالتالي للسودان. إذا صار اللون "فاتحاً" أكثر من اللازم بالنسبة للسوداني، فإنه يصبح مهدداً باعتباره"خواجا" أو "أوروبي"، أو عربي من الشرق الأوسط، أو ، وهذا أسوأ الاحتمالات، اعتباره "حلبياً"، وهو اللفظ المستخدم لفئة الغجر، المعتبرة الأدنى قدراً من جميع الفئات ذات البشرة البيضاء. الوجه الأخر من العملة، هو بالطبع، النظر إلى الجنس الأسود كجنس أدنى، وهي حالة تلطفت العناية الرحيمة بإنقاذ المرء من براثنه. ومن هنا فإن العنصرية السودانية الشمالية، والشوفينية الثقافية، تنزل لعنتها في نفس الوقت بشديدي السواد وشديدي البياض .
ومع أن ملاحظة دينق صحيحة بصورة عامة، إلا أنها تحتاج إلى كثير من الضبط.فأنا أعتقد إن "أحمر" أي "أبيض" هو المعيار اللوني النهائي للشمالي المتوسط، فهو يعتبر اللون المثالي للمجموعة الداخلية، أي مركز الهوية العربية. في حين لا يكون اللون الأسمر معياراً إلا على مستوي أدني، وإلا كآلية دفاعية، مجبرة على تبنيه كواقع لا مهرب منه. وعلى عكس الأبيض، فإن الأسمر ليس جيداً لمزاياه الخاصة، بل فقط كبديل للأبيض الغائب. ومع أن الأغاني الشعبية غالباً ما تتغنى بالنظرات الساحرة للحبيب الأسمر "أسمر يا ساحر المنظر" ، إلا أن النظام الدلالي المهيمن للثقافة العربية الإسلامية، يجعل اللون الأبيض هو المعيار والمثال،كما سنوضح أدناه. ولو كان الشماليون قد استطاعوا تطوير نظام دلالي شامل ومنسجم، يجعل الأسمر معياراً، لاستطاعوا حل الجزء الأكبر من أزمة هويتهم.

ومع أن الشماليين يستقبحون اللون الفاتح جدا)أي الأحمر( ،واللون الموغل في السواد، إلا أنهما لا يستقبحان بنفس الدرجة. فالوصمة الاجتماعية اللاحقة باللون "الأسود" ترجع إلى إنه لون "العبيد". أما وصمة اللون "الأحمر" فتتعلق بكونه لون الحَلَب أو الغجر، فالحَلَب ، الذين ينظر إليهم كفئة منحلة أخلاقياً ومنحطة سلوكياً، يعتبرون فئة "منبوذة اجتماعياً" الصيغ الثقافية التي تزدري اللون الأسود شائعة بصورة مزعجة، وعميقة الجذور في الثقافة والأدب العربيين، عكس تلك التي تزدري اللون الأحمر، والتي هي شحيحة ولم تظهر إلا مؤخراً مع الغزو التركي للسودان. وقد جاءت هذه المقولات الثقافية الأخيرة نتيجة للبشاعات التي ألحقها الترك بالمواطنين، والتي جعلت الشماليين ينظرون إلى الأتراك كصور مجسمة للفساد، والشراهة والجبن. وجاءت الثورة المهدية ضد الأتراك، وانتصارها الساحق عليهم، لتكثف وتعمق من احتقارهم في عيون الشماليين. وهذه هي الفترة التي ظهرت فيها عبارة "الحمرة الأباها المهدي" ولذلك فإن اللعنة التي حلت باللون الأحمر، آخذين بالاعتبار هذه الحدود وهذا السياق، لم تكن مطلقة. والواقع أن الأحمر يعتبر بصورة جوهرية، سواء بالنسبة للثقافة العربية أو الثقافة السودانية المحلية، تجسيداً للجمال. ففي" قاموس اللهجة العامية في السودان" قال عون الشريف قاسم ما يلي حول اللون الأبيض:
"إنهم )أي العرب (يسمون الفرد ذا اللون الأبيض "أحمر". فعائشة زوجة النبي كانت تسمى "الحميراء" (وهي تصغير أحمر) لأن لونها كان أبيضاً. وكان العرب يسمون الفرس والروم ، أيضاً حُمراً (جمع أحمر)، لأن ألوانهم بيضاء. ويقصدون اللون الأبيض حينما يقولون "الحسن أحمر" .
وتوضح جانيس بودي كيف كانت نساء قرية "حفريات" ذوات وعي باللون. فبالنسبة لهن "اللون الأبيض نظيف، جميل وعلامة على قداسة كامنة"وقد أخبرنها مراراً وتكراراً أنها كامرأة بيضاء، تملك فرصاً أفضل منهن بمراحل، لدخول الجنة، إذا اعتنقت الإسلام. وأضفن أن فرصها أفضل من جميع السودانيين في دخول الجنة. وكانت الأسباب التي ذكرنها هي : "وذلك لأن النبي محمداً ابيض، وكل البيض من البشر أعلى شأناً لأنهم ينتمون إلى قبيلته البيضاء" .
يضاف إلى ذلك ، أن احتقار الأحمر (أي الأبيض) يبقى فقط علي مستوى التنظير، ولا ينعكس في المسلك الاجتماعي للسوداني الشمالي. فعلى سبيل المثال أبدى الشماليون استعداداً للتزاوج مع البيض، سواء كانوا أوروبيين أو عرباً، ولكنهم عبروا عن تثاقل وصد في التزاوج مع السود، سواء كانوا جنوبيين أو أفارقة عموماً . وبصورة أكثر تحديداً، بينما لا يجد الشماليون حرجاً في تزويج بناتهم للفئة الأولى، إلا انهم لا يتصورون مجرد تصور تزويجهن من الفئة الثانية .

الوعي المحرج بالهامشية:-
يمكننا أن نلاحظ مظهراً أخر من مظاهر تأثير الهوية الهامشية على النفسية الشمالية في المسلك السياسي للطبقة الحاكمة الشمالية. فأول القرارات التي اتخذتها الطبقة الحاكمة الشمالية بعد الاستقرار هو الانضمام للجامعة العربية.
ويخبرنا محمد أحمد محجوب: "سارعنا بالانضمام إلى الجامعة العربية مباشرة بعد إعلان الاستقلال" . ولأنها كانت واعية بموقعها علي هامش العالم العربي، رضيت هذه الحكومة بدور متواضع، ولم تتخذ موقفاً منحازاً في الصراعات العربية الداخلية، سواء مع الراديكاليين أو المحافظين . ومثله مثل أي كيان هامشي، يكاد السودان أن يُنسى تماماً في أوقات الهدوء والانسجام. ويعلمنا التاريخ انه فقط في أوقات الاضطرابات المصاحبة للحروب والانتفاضات، والتي تهز بعنف وتمزق النسيج الاجتماعي، يمكن للنساء والعبيد، كفئات مهمشة، أن ينعموا باعتراف المركز. ,على ذات النسق، فقط عندما كان العرب في قمة الشعور بالمهانة والإحباط ، نتيجة للهزيمة الساحقة التي ألحقتها بهم إسرائيل عام 1967، تذكروا السودان، وأدنوه من المركز، وسمحوا له أن يلعب دوراً حيوياً داخل الجامعة العربية. فحياد السودان، أو قل دور المتفرج الذي كان يلعبه، هو الذي أهله لاستضافة مؤتمر القمة العربية عام 1967. ويخبرنا المحجوب: "كانت الخرطوم هي الموقع الوحيد المقبول سياسياً لعقد المؤتمر، بالنسبة للمحافظين والمتطرفين من القادة العرب" ولكن ما لم يخبرنا به هو أن الهامش صار مكاناً ملائماً بالنسبة للمركز ليلعق جراحه في جنباته.

منهج حمل المتاع:-
المظهر الأخر لتأثير الهوية الهامشية هي ما يمكن أن نسميه منهج" حمل المتاع". فالهوية الهامشية ترنو دائماً إلى المركز كمصدر للإلهام الثقافي، والديني والسياسي، وكمجال للسياحة الفكرية. إنها ميالة لاستعارة المنتجات الفكرية للمركز، وليس متوقعاً منها أن تنتج أو تُعير. يقول شون أوفاهي:"السودان النهري الشمالي تفاعل دوماً مع مصر، أم تطلع عبر البحر الأحمر إلى الجزيرة العربية" فالرابطة الثقافية بين الشماليين والعالم العربي، كانت على وجه العموم طريقاً ذا اتجاه واحد، تنتقل فيه المنتجات الثقافية، من خارج الحدود الشمالية، عكس مجرى النيل، أو من الشرق عبر البحر الأحمر. ومن المثير للدهشة أن كل حزب في العالم العربي، تقريباً، له فرع في شمال السودان، فهناك حزب البعث العربي الاشتراكي، بجناحيه السوري والعراقي، وهناك الحزب الناصري، ومؤتمرات القذافي الشعبية، والحركة الوهابية السعودية، وحركة الأخوان المسلمين المصرية. كل هذه الحركات والأحزاب لها فروعها في السودان. وكانت ثورة 1924، والحركات الاتحادية مؤخراً، في الأربعينيات، والتي عملت كلها تحت الرعاية المصري، تهدف إلى تحقيق الوحدة السياسية مع مصر وبالنسبة للمركز، ليس الهامش سوى خواء ثقافي وسياسي، إن لم يكن سلة للنفايات، ينبغي ملؤها. وهذا هو السبب الذي يجعل مختلف فئات المركز تتسابق لملئه.

التواؤم مع المركز:-
علامة أخرى على تأثير الهوية الهامشية، على نفسية الفرد الشمالي، تتمثل فيما يمكن أن اسميه:"الميل للتواؤم". فمن الملاحظ أن أغلبية الشماليين الذين يعملون في أقطار عربية مختلفة يتبنون لهجات البلدان التي يجدون أنفسهم فيها. وحتى عندما يعودون إلى السودان، يكون الاحتمال كبيراً، أن تصبح هذه اللهجات، أو على الأقل بعض كلماتها وعباراتها، جزء من الذخيرة ا للغوية للشخص المعين. ومن الملاحظ أيضاً أن القلة من العرب الذين يجيئون إلى السودان لا يغيرون لهجاتهم حتى إذا مكثوا وسط السودانيين لعدة سنوات. بل إن الشماليين الذين يختلطون بهؤلاء العرب، في السودان، غالباً ما يعدلون لغتهم ولهجتهم حتى تتوافق مع لسان العرب الذين يعيشون وسطهم .

الوعي بخفاء الهامش:-
نسبة لأن الهامش يشعر بحالة من الخفاء، إزاء المركز، فهو محتاج دائما للإعلان عن نفسه. ولذلك فإن علامة أخري من علامات الهوية الهامشية للشماليين، هي تركيزهم المفرط علي الأصل العربي، فالشماليون، وخاصة نخبتهم، يرددون دائما أنهم عرب. فعبارات مثل : "أنا عربي ولدي شجرة نسب" ، أو "أنا عربي شئت ذلك أم أبيت" أو "نحن عرب العرب" أو "أنا عربي، قوميا وثقافيا" تتكرر دائما في خطاب النخبة السياسية والثقافية. وعلي عكس النخبة في العالم العربي، التي لا تحتاج لإثبات أمر واضح بذاته، يشعر الشماليون بالحاجة للتعويض عن عياب القسمات العربية بالكلمات العربية. وينظر المرء لهذه الظاهرة باعتبارها استمراراً للظاهرة القديمة التي كانت سائدة وسط الشماليين لكتابة شجرة النسب. فالظاهرتان تعكسان الشكوك العالقة بادعاءات الشماليين للعروبة.
وتمثل كل هذه العلامات، شواهد علي أن الشماليين يعانون كل أعراض "عدم الاعتراف"، التي ناقشها شارلس تيلور في كتاب "سياسات الاعتراف"، وخاصة استبطان الدونية، "الحط من قيمة الذات"، و"الكراهية الخانقة للذات".

تكوين الهوية العربية الإسلامية في الشمال :
السودان الشمالي الحالي هو موطن الثقافة النوبية التي ازدهرت لعدة آلاف من السنين قبل مولد المسيح، وهو موطن الممالك النوبية العظمى. وتقف الأهرامات حتى الآن في أرض النوبة، شاهدة علي عظمة الأمة النوبية. وفي القرن الثامن قبل الميلاد قامت المملكة النوبية باحتلال كل أرض مصر وفرضت سلطانها علي وادي النيل . وكانت مملكة النوبة لاعباً أساسيا في المسرح العالمي في العالم القديم، و أقامت الصلات مع عدة حضارات. وكما أوضح لويدس بنغاي "للسودان الشمالي حضارة قديمة مزدهرة، سابقة لحضارة مصر الفرعونية ولمجيء الإسلام. وكانت النوبة ذات علاقة مع كل حضارة ظهرت في مصر .. الإغريق .. الرومان .. العرب .. الأتراك والبريطانيين" .
دخلت المسيحية إلي النوبة في القرن السادس، وحولتها إلى مملكة مسيحية، استمرت ألف عام. ومباشرة بعد ظهور الإسلام في القرن السابع، فتح المسلمون مصر، وطرقوا أبواب دنقلا عاصمة النوبة. ومع أن مقاومة النوبيين قد نجحت في إيقاف الزحف الإسلامي، إلا أنها لم تفلح في طرد العرب من الأراضي النوبية . وقد أدت حالة التوازن التي قامت بين الطرفين إلي الوصول إلي تسوية سياسية. وقد أبرمت معاهدة بين النوبيين والعرب عام 651 – 652 ميلادية، وتفسر هذه الاتفاقية تفسيرات مختلفة من قبل الكتاب المعاصرين. وبينما يراها بعض هؤلاء الكتاب في صالح العرب ، فإن آخرين يعتبرونها نصرا للنوبة . ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مملكة النوبة حققت ما لم تحققه مملكة أخرى في الزمان القديم، وهو إيقاف الزحف الإسلامي الذي كان لا يقاوم. كان المسلمون يقسمون العالم إلي دار الإسلام ودار الحرب. ولما بقيت النوبة وحافظت علي سلامة أراضيها كان علي المسلمين أن يخلقوا فئة ثالثة، لا هي دار إسلام ولا دار حرب، فأطلقوا عليها دار العهد. ومع أن الاتفاقية ضمنت سيادة النوبة لمدة ألف سنة تقريبا، إلا أنها فتحت المجال للعرب ليدخلوا بحرية من أجل التجارة، مما دشن عملية الأسلمة والتعريب، التي قادت في نهاية المطاف إلي انهيار المملكة.
ومع أن الهوية العربية الإسلامية يمكن إرجاعها إلي دخول العرب السودان، إلا أنها ظاهرة حديثة نسبيا. فالقرنان الرابع عشر والخامس عشر، يعتبران فترة تغيير في السودان النيلي. فالحركات الاجتماعية وخاصة تلك الخاصة بالعرب والفونج، مصحوبة بالتطورات الاقتصادية والثقافية الوافدة من الأقطار المجاورة ، وفرت ظروفا مواتية لعمليات الأسلمة والانتماء إلي العرب. فالرحالة الذين جاءوا إلي مملكة الفونج في الربع الأول من القرن السادس عشر، وصفوا تكوينات أثنية شبيهة بتلك التي نجدها في سودان اليوم. فقد وصفت قبائل الشايقية والجعليين والرباطاب باعتبارهم برابرة، أي نوبيين شماليين، من قبل غيليود الذي زار مملكة الفونج عام 1523 . وقد وجد غيليود أن سكان المملكة ينقسمون إلي ست فئات أثنية وكانت هذه الفئات من الوضوح والتمايز بحيث لم يكن هناك فرد واحد لا يعرف إلي أي منها ينتمي . خمس من هذه الفئات صنفت حسب لون البشرة، بشكل أساسي. كان لون الفونج هو "الأزرق". "كان لونهم لو النحاس". حسب غيليود .. وكان العبدلاب قريبين في ألوانها وملامحهم من الفونج، إذا أستثنينا شعورهم الملتفة، وكان لونهم أخضر، (أي نحاسي غامق إلي أسود). أما البرارة، أي الجعليين والرباطاب والشايقية والدناقلة، فوصفوا بأنهم "خاطف – لونين"، أي خلطة من لونين. يقول غيليود "أفراد هذه الفئة نصف صٌفر ونصف خٌضر .. وفصيلة الدم التي نغلب عليهم هي تلك التي نجدها عند الأثيوبيين" أما لون العرب فوصف بأنه "أصفر" أي "أبيض" وقد قال عنهم مايلي :
"هؤلاء هم الأقل اختلاطا من حيث الألوان، أنهم ينتمون إلي العرب البدو الرحل. شعورهم مرسلة. ولا يختلطون مع الفئات الأخرى إلا فيما ندر. ويسهل التعرف عليهم، ليس فقط من ملامح وجوههم، بل من نقاء الطريقة التي ما زالوا يتحدثون بها اللغة العربية".
والمدهش أنه تحدث كذلك عن "العبيد" الذين جلبوا إلي سنار من الجنوب والغرب "أي جبال النوبة" . هذا هو علي وجه التقريب التصنيف اللوني الموجود حاليا.ومن المحتمل أن الفارق الوحيد أن الجعليين والرباطاب والشايقية، كانوا ما يزالون في القرن السادس عشر، يتحدثون لغاتهم النوبية. وقد استمروا يتحدثونها حتى أوائل القرن التاسع عشر.

هذه الظروف هي التي غرست مكونات الهوية الشمالية في تربة الشمال. هذه المكونات هي اللغة العربية، مزاعم الأصول العربية، الإسلام، وتراث الرق. فسكان هذا الجزء من السودان أظهروا تعلقا خاصا بالعرب. وتدل الشواهد علي أنهم انتهزوا كل فرصة عابرة، سواء كانت هذه رابطة بعيدة، متخيلة، أو حتى ملفقة، للتماهي مع العرب وتبني لغتهم. الفونج يزودوننا بمثال واضح لانقلاب الهوية، الذي ربما يلقي لنا الضوء علي عملية التماهي مع العرب. ففي بداية مملكتهم، كان الفونج وثنيين، من الناحية الدينية، وكانوا يتحدثون لغتهم الخاصة، والتي كانت هي اللغة لرسمية للمملكة حتى القرن الثامن عشر. وكانوا يسيرون العدالة في محاكمهم وفق تقاليدهم الخاصة. وقد اعتنق ملكهم الأول، عماره دنقس، الإسلام اسميا، من أجل أهداف سياسية . وبعد ثلاثة قر ون من ذلك التاريخ، أي خلال القرن الثامن عشر، أقيمت العدالة علي أساس الشرع الإسلامي، وصارت الوثائق الرسمية تحرر باللغة العربية، والتي أصبحت هي اللنغوافرانكا للدولة . ليس ذلك فحسب، بل أعلن بادي الثالث، ملك الفونج، رسميا في خطاب إلى رعيته، أنه وقومه "ينحدرون من العرب، ومن الأمويين علي وجه التحديد" وقد أ صدر ذلك المنشور ردا علي حملة من الإشاعات، صاحبت تمردا في الأقاليم الشمالية، يدمغهم بأنهم "وثنيين من النيل الأبيض". وقد أختتم المنشور، الذي أٌرسل إلي دنقلا، بالعبارة التالية :" وما دمتم قد رأيتم الحقائق فلتخرس الألسنة، وعسي أن يتوخى العبد عزيز فضيلة الحذر في أحاديثه المؤذية" . وكجزء من هذه الأحاديث المؤذية هي "اتهامه" للملك بأنه ليس من أصل عربي فمع زيادة قوة التجار العرب، وانتشار الطرق الصوفية، وتعاظم نفوذ العلماء، سعي الملوك إلي الإبقاء علي نفوذهم القضائي المتداعي بدراسة الشريعة الإسلامية، ليتحولوا إلي "علماء" لهم مكانتهم المستقلة. ويقول سبولدنج أن الطبقة الحاكمة الفونجية "انضمت إلي العائلات الأرثوذكسية للتجار في نشر مزاعم الأصول العربية " بل أنهم" اكتشفوا حقيقة كانت مجهولة حتى ذلك الوقت وهي أنهم أمويون" وهكذا فإن انقلاب الهوية الذي حدث في القرن السادس عشر لخدمة أهداف سياسية، قد أكتمل في القرن التاسع عشر. وكما قال ديفيد ليتين : "ما يعتبره هذا الجيل مسألة عملية محضة، يعتبره الجيل الذي يليه أمرا طبيعيا."
وإذا كان ملوك الفونج قد صاروا عربا بأمر ملكي، فإن قبائل الشمال النيلي قد ضمنت هذا الأصل المرغوب، لأنفسها، بطرق أخري. فقد كان هؤلاء قادرين علي كتابة أشجار نسبهم الخاصة والتي "كان من المعروف عنها أنه يتم تقفيها، مع القفزات والفجوات، حتى الجزيرة العربية، وفي الحالات التي يكون فيها الأصل السوداني بارزا سياسيا أو دينيا، فأنما تنسب الأصول إلي النبي محمد، وقبيلته قريش؛ وذوي قرباه، وأصحابه الأقربين".
ومن الواضح أنه بالنسبة للنوبي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صداح فاروق وراق

صداح فاروق وراق



أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Empty
مُساهمةموضوع: تابع   أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Icon_minitime1السبت 3 يوليو 2010 - 8:14

وللفونج بعدهم، لم يعد العالم مستقرا. فالهويات القديمة حامت حولها الشكوك، والناس لم يعد بإمكانهم أن يكونوا أنفسهم .الحوافز لإجراء انقلاب في الهوية كانت قوية وكثيرة. والشروط قد اكتملت. وكانت نتيجة ذلك أن نوعيْ التماهي اللذين تحدث عنهما شيلر قد حدثا في نفس الوقت، ونقصد بهما الايديوباثي و الهيتروباثي.ويمكن ملاحظة حدوث التماهي الأيديوباثي في المناطق التي تلاشت فيها اللغات المحلية، وتم تبني العربية بدلا عنها. كما يمكن ملاحظة التماهي الهتروباثي في المناطق التي صمدت فيها اللغات المحلية.

الخواص الأكثر وضوحا للثقافة العربية الإسلامية :
في الفصل الماضي حاولت الإجابة علي ذلك الجزء من السؤال الذي يقول : لماذا تماهى الشماليون مع العرب؟ أو بمعني آخر، ما هي دوافع انقلاب الهوية الذي حدث لهم؟ وأحاول في هذا الفصل أن أجيب علي الكيفية التي تم بها ذلك. أي بمعنى آخر، ما ا لذي يسّر للشماليين، بل لشعوب عديدة عبر العالم الإسلامي، أن تتعلق بالأصل العربي؟ اعتقد أن هناك ثلاث خواص بارزة للثقافة العربية الإسلامية جعلت من الميسور تماما، للأفراد والجماعات، إدعاء الأصول العربية دون أن تواجه بتحدٍ جدي ومعلن من قبل مركز الهوية العربية.
الخاصية الأولي هي التركيبة الأبوية للقبائل العربية. في هذا النظام ينسب الأطفال لإبائهم، ولا تلعب المرأة دورا يذكر في النسب، وذلك لأنها "حرث" الرجل و"ماعونه". ويترتب علي هذا المفهوم الذي يجعل الزوجة مزرعة لزوجها، أنها وإن حملت بذوره، إلا أن الحصاد حصاده هو، وليس حصادها. وهكذا فإن أي اختلاط للدم العربي، بخط النسب النوبي، يضع حدا لكل الأنساب النوبية قبل هذا الاختلاط، ولا فرق إذا كان هذا الاختلاط حقيقيا، أو متخيلا أو مفتعلا. وهكذا، وبناء علي الاعتقاد الشعبي الشائع في الشمال، كان الجد الذي تحدرت منه المجموعات الجعلية الكبرى في الشمال : أي الشايقية، الرباطاب والجعليين أنفسهم، هو إبراهيم جعل. عن هذا الجد المشترك، تحولت أنساب هذه المجموعات النوبية إلي الجزيرة العربية (إلي قريش) وارتبطت بالعباس عم النبي. ولكن هذا الإدعاء، وبناء علي بحوث مؤرخ كبير ينتمي إلي نفس هذه المجموعة "يصعب إثباته" .
الخاصية الأخرى للمجتمع العربي الأبوي، هي أن القبائل القوية تكون لها دائما مجموعات تابعة، مثل الحلفاء والمستجيرين والعبيد، وغيرها من أنواع الارتباط. النظام التراتبي للقبيلة يستوعب كل هذه المجموعات في فئات اجتماعية مصنفة تصنيفا دقيقا، ويسمح لها بالانتساب إلى القبيلة رغم أنها تعرف مكانها جيدا. ويمكن للفرد الذي ينتمي إلي هذه الفئات الدنيا، أن يصعد إلي مرتبة أعلي بناء علي فضائله، أو اعترافا بأبوته، أو كليهما، كما يوضح مثال عنترة. هذه الخاصية جعلت من السهل علي العرب قبول الانتساب الشمالي، مع وضع الشماليين في فئة أدني من نظامهم التراتبي.
الخاصية الثانية هي مفهوم النقاء، أو الطهارة في الإسلام. فالطهارة مفهوم مركزي للإيمان، ومع أنه يمكن تحقيقه من خلال عملية محددة للتطهير ، إلا أنه أيضا هبة من الله للرسول وآل بيته. يقول القرآن : "أنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" . وهكذا، كلما كان المرء قريبا إلي قبيلة النبي كلما كان ذلك أفضل، والأفضل من كل ما عداه هو انحدار المرء مباشرة من فاطمة بنت النبي. ولكن مع ذلك فإن قطرة من الدم العربي تكفي لتطهيرك وذريتك. ويلاحظ المرء أن الثقافة الغربية تقوم علي مفهوم نقيض تماما في هذا الشأن، حيث تكفي قطرة دم واحدة من السود أن تلوثك وتجعلك أسودا، حتى ولو كان لونك غالب البياض.
الخاصية الثالثة هي العلاقة بين الإسلام واللغة العربية. فحقيقة أن الإسلام نزل علي نبي عربي، وأن الذين نشروه هم العرب، وأن اللغة العربية هي لغة القرآن، كل هذه الحقائق جعلت العرب أفضل الأمم في عيون الشماليين، وجعلت اللغة العربية، ليس فقط أفضل اللغات، بل جعلتها لغة مقدسة. ومع أن غياب العربية لم يمنع غير المتحدثين بها في العالم العربي، مثل تركيا وإيران والباكستان وحتى في السودان، من ادعاء الأصول العربية، إلا أن تحدث العربية كلغة للأم قد ثبّت أسطورة الأصل العربي لدي بعض الشماليين، وأمدهم ببرهان يسمي "لسانُ عربيُ مبين."

عملية مستمرة :
ومع ذلك فإن تشكيل هوية عربية إسلامية في الشمال هو عملية مستمرة. فالأتراك دفعها إلي الأمام عملية التعريب، وجاءوا بالإسلام التقليدي المدرسي، وسيروا، مع العرب والأوربيين والشماليين، حملات الاسترقاق، في أراضي القبائل التي لم تستعرب، وخاصة في الجنوب وجبال النوبة. وجاءت الدولة المهدية، وحلت محل الدولة التركية المنهارة، عام 1885، ودفعت بدورها عمليات التعريب والأسلمة. ولم تكن الدولة المهدية مختلفة عن الأتراك فيما يتعلق بحملات الاسترقاق. وعندما أستعمر البريطانيون السودان عام 1898، وضعوا القبائل المستعربة فوق القبائل الأفريقية السوداء. وقد وصف عالم الأجناس ك. سيلجمان، الذي دعمته حكومة الخرطوم الاستعمارية لدراسة الجماعات السكانية بالسودان، وصف القبائل الجنوبية بأنها "متوحشة" وقد تعامل البريطانيون باحترام شديد مع مجموعات الشمال المستعربة، كما عبروا عن احترام عظيم لهويتهم العربية-الإسلامية، وشجعوها. وقد ركزت السياسات التعليمية، بصورة أساسية، علي المجموعات المسلمة، التي تتحدث العربية، من الشمال الأوسط النيلي وقد كان المستفيدون من هذه السياسات التعليمية، من بين هذه الجماعات، أبناء الأسر البارزة : أسرة المهدي، والخليفة، وأسر أمراء المهدية، والأسر العربية "الراقية" . وفي السنوات الأولي من القرن العشرين، بدأت النزعات الوطنية تنشأ وتزدهر وسط الأجيال الشابة المتعلمة لهذه الأسر. "وقد صاروا يفتشون عن "السودانوية" في القصائد العربية، والمقالات، والأشكال الأدبية الأخرى، وصاروا يمجدون اللغة العربية؛ والتراث العربي، والدين الإسلامي، باعتبارها القيم الجوهرية لهذه الوطنية." .
ونسبة لوعيهم بالتاريخ الطويل لمصطلح "سوداني"، والمعاني السلبية العالقة به، فقد أعطوه معني مزدوجا. فعلي أحد المستويين بقي لفظ سوداني كما كان دائما، أي مرادفا لـ"عبد". وعلي مستوى آخر أستخدم اللفظ "كمجال للانتماء الوطني" أي أنهم تعاملوا معه كإطار خاوٍ، حاولوا أن يملئوه بصورتهم الذاتية. وهكذا أصبح مصطلح "سوداني"، علي هذا المستوى، "علامة علي الهوية الوطنية التي تخصص قيمة عظيمة للثقافة العربية الإسلامية." ولذلك ومن وجهة نظر الجماعات الاثنية الأخرى، أن تكون سودانيا علي هذا المستوي يعنى أن تكون شماليا. يعنى "محاكاة أسلوب" أكثر عروبة "للحياة" واعتناق "أسلوب للحياة ظهر تاريخيا علي ضفاف النيل" وقد اتضح فيما بعد أن هذا التعريف كان محدودا جدا، وضيق الأفق وينطوي علي كثير من المشكلات. فهو استبعادي من جهة، واستيعابي من جهة أخري. فأولئك الذين لا ينطبق عليهم التعريف الجديد للفظ "سوداني"، أما أن يبعدوا من المجال السياسي، ماديا (بالانفصال)، أو سياسيا (بالتهميش)، أو تتم إعادة صياغتهم ليلائموا اللفظ (أي يصيروا شماليين). وكما لاحظت هيذر شاركي عن حق "إذ فشل في الاعتراف بالمساهمات الثقافية للسكان غير العرب وغير المسلمين، فإن برنامجهم الوطني نفر مجموعات كثيرة، بدلا من جذبها وإغرائها، وخاصة في الجنوب. أن الحرب الأهلية، التي ظلت تشتعل علي فترات منذ 1955، هي الثمرة المرة لهذا النوع من الوطنية." والثمرة الأكثر مرارة لهذا التعريف هي الجبهة الإسلامية القومية، التي استولت علي السلطة عام 1989، وشرعت في إزاحة "الخلعاء" عن طريق القوة الغاشمة.

الثقافة العربية واللون الأسود :
يقول عبده بدوي في كتابه "الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي" ما يلي:
"العرب يكرهون اللون الأسود، ويحبون اللون الأبيض. ويصفون كل شئ حسن (ماديا كان أو معنويا) بأنه أبيض. اللون الأبيض مصدر فخر للرجل، وخاصية جمالية بالنسبة للمرأة. البياض بالنسبة لهم علامة علي الشرف. ويمدح الرجل بأنه ابن امرأة بيضاء. والواقع انهم يفخرون بامتلاكهم النساء البيض كجوار لهم. ويطلقون علي الشعراء السود أغربة العرب، في تشبيه لهم بذلك الطائر البغيض الذي يعتبر سواده عادة علامة علي الشؤم."
كراهية اللون الأسود نشأت من تجارب العرب مع الأفارقة. فالصورة النمطية للأفريقي الأسود، في الثقافة العربية أنه كريه الرائحة. ناقص جسدا وعقلا، ومنحرف عاطفيا. المثل العربي القائل : "الزنجي إذا جاع سرق، وإذا شبع زنا" يلخص هذه الصورة تلخيصا وافيا. وتمثل عبارة "يا ابن السوداء" قمة الإساءة التي يمكن أن توجه للرجل الأسود.

قبل الإسلام :
قبل الإسلام، لم يكن أبناء الرجل الأبيض من أم أفريقية يقبلون كأعضاء كاملي العضوية بالقبيلة، حتى ولو كانت القبيلة تعتمد عليهم في الحروب، كما توضح قصة عنترة، ويوضح بدوي كيف كان اللون الأسود عقبة كؤود أمام هؤلاء الشعراء. فدعوة أحدهم بالغراب كانت إساءة. يقول بدوي :
"كانت هناك حساسية عالية بالألوان وسط الشعراء السود قبل الإسلام. وذلك لأنهم كانوا فئة مضطهدة وتعيسة. وكانوا يستبعدون، بقسوة أحيانا وبلطف أحيانا أخري، من دخول النسيج الاجتماعي للقبيلة. وهكذا عاشوا علي هامش المجتمع كفئة فقيرة وبائسة. ولم يكن يتم الاعتراف بهم إلا في ظروف الضرورة القصوى، كما نعرف من حياة عنترة. فبالرغم من أن هذا الشاعر كان حامي قبيلته، وكان صوتها الشعري السامق، إلا أن الطريقة التي ظلت تعامله بها قبيلته كانت تؤلمه وتثقل علي عقله. وقد علق به اسم "ابن السوداء" حتى عندما يكون عائدا من المعركة منتصرا"

أثناء حياة النبي :
مع أن الإسلام دعا لوحدة ومساواة بني البشر، رغم اختلاف ألسنتهم وألوانها "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" إلا أن موقف العرب من السود لم يتغير أبدا. وقد قال النبي "لا فضل لعربي علي أعجمي أو لأبيض علي أسود، أو لأحمر علي أصفر، إلا بالتقوى". ولكن ذلك لم يمنع أباذر الغفاري، أحد صحابة النبي البارزين، من أن يدعو أخاه بلال بن رباح الصحابي الآخر الجليل ومؤذن الرسول، "بابن السوداء". وعندما سمع النبي بذلك وبّخ اباذر توبيخا شديدا حتى شعر أبوذر أن مجرد الاعتذار لبلال لا يكفي. ولذلك انطرح أبوذر أرضا، ووضع خده علي التراب، وطلب من بلال أن يطأ خده برجله، كعلامة علي التواضع والصغار .

القرون الوسطي :
وإذا كان ذلك هو الوضع إبان حياة النبي، الذي كان يدعو للمساواة بين المؤمنين، فمن الطبيعي أن مسلك العرب نحو السود سيسوء بعد وفاته. ويشير برنارد لويس إلى ذلك في الفقرة التالية:
في الوقت الذي كان فيه الدعة الدينيون ينادون بالمساواة، وإن بعبارات غامضة، كانت حقائق الحياة تحكم بغير ذلك. فالتوجهات السائدة لم يكن يحددها الوعاظ ورواة التراث، بل كان يحددها المنتصرون ومالكو العبيد، الذين يمثلون النخبة الحاكمة في المجتمع الإسلامي. والاحتقار الذي كان يشعر به هؤلاء، تجاه العناصر غير العربية عموما، وتجاه السود علي وجه الخصوص، يتم التعبير عنه بآلاف الطرق، في الوثائق، والآداب والفنون التي وصلت إلينا من القرون الوسطى. هذه الآداب، وخاصة الشعبية منها، تصور (الرجل الأسود) في صور نمطية عدوانية : كشيطان في الأساطير، وكجنس متوحش في قصص الرحلات والمغامرات، أو كعبد كسول، غبي، كريه الرائحة، أبرص، في الحالات العادية. وشهادة الآداب أكدتها الفنون. ففي الرسومات واللوحات العربية والفارسية والتركية، كثيرا ما يظهر السوء، كشخصيات أسطورية شريرة في بعض الأحيان، أو كبدائيين يقومون بأعمال حقيرة، أو كمخصيين في القصور أو البيوت."

ابن خلدون يرى أن السود معروفون بالهزل والطيش والعاطفية الزائدة وأنهم "يتصفون بالغباء أينما وجدوا". وهو يفسر هذا الغباء وحب الملذات بإرجاعه إلى "تمدد وشيوع الروح الحيوانية".
أسطورة العهد القديم القائلة بأن السود هم أبناء حام، تبناها ووسعها بعض الكتاب العرب مثل ابن جرير . ولكن ابن خلدون لم يقبل هذه الحكمة السائدة في زمانه، بل حاول أن يتوصل إلي تفسير "علمي" لسواد الأفارقة يقوم علي حرارة الشمس .
وفي وصفه لسكان خط الاستواء قال الدمشقي ما يلي:
"خط الاستواء تسكنه أقوام من السود يمكن اعتبارها من الحيوانات المتوحشة. ألوان أجسادهم وشعورهم محروقة، وهم غير طبيعيين جسديا وروحيا. إن عقولهم تكاد تغلي من حرارة الشمس."
ويسير ابن الفقيه الهمذاني على نفس المنوال. وقد اعتمد في رأيه علي نظرية يونانية جغرافية قديمة، تقسم الأرض إلى سبعة أقاليم عرضيه، حيث يمثل الإقليم الأول والسابع الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة علي التوالي. ويفترض أن هذين النقيضين ينتجان متوحشين، بينما في الإقليم الأوسط، حيث اعتدال المناخ، يوجد الناس المتحضرون. وبالنسبة إليه فإن أهل العراق لهم "عقول راجحة، وعواطف حميدة، وطبيعة متزنة، وإنتاج غزير في كل الفنون، مع أطراف متناسبة متناسقة، ولون أسمر رقيق، هو أنسب الألوان وأصحها." ولكن الزنج الذين يسكنون الإقليم الأول وهم "مفرطون حتى درجة الاحتراق، ولذلك يجئ الطفل منهم أسودا، معتكراً، كريه الرائحة، ومفتول الشعر، بأطراف غير منسجمة، وعقول ناقصة وعواطف منحرفة." ويلاحظ جون هنويك أن تحيز الهمذاني ضد السلاف ينحصر في ألوانهم " البرصاء"، إلا أن عداءه للزنج يتخطى اللون ليصور "أجسادهم الشائهة"، "وعقولهم الضعيفة" و"روائحهم البخرة". وكان ابن خلدون يعتقد أن الأفارقة أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر، وأنهم يأكلون لحوم البشر. فهو يقول : "خصائص شخصياتهم أقرب إلى الحيوانات البكماء .. أنهم يسكنون الكهوف، ويأكلون الأعشاب، ويعيشون في عزلة وحشية، ولا يجتمعون، ويأكلون بعضهم البعض."

استجابات السود :
في وجه هذه العداوة الصارخة، يمكن تصور نوعين من ردود الأفعال : المقاومة واستبطان الاحتقار. ففي الوقت الذي تصدي بعض السود لمواجهة هذه الآراء المتحيزة ضدهم، استسلم آخرون لمصيرهم التعيس، وصاروا يرون أنفسهم من خلال انعكاسها العربي. ولكن المقاومة نفسها أخذت طابعين : أحدهما رفض الصورة النمطية معلنا أن اللون الأسود هو اللون الجميل، والثاني قبل المرأى السائد بأنه قبيح، واعتذر عنه، وتغنى بالخصائص الإنسانية الأخلاقية. ويخبرنا عبده بدوي بما يلي :
"نظر الشعراء إلى أنفسهم وإلى ذويهم كقوم مضطهدين، ومع أن هذا الشعور بالاضطهاد يختلف من قرن إلى قرن، ومن شاعر، إلا أن الرجل الأسود لم يتردد في أن يكون صوت احتجاج على الحياة من حوله وعلى مأساوية أوضاعه الشخصية. وسنرى فيما بعد (الشعراء السود) وهم ينفجرون في وجوه أولئك الذين يشيرون إلى سواد الوانهم، كما يشهد علي ذلك شعر "الشعراء الثلاثة الغاضبون" وهم الحيقطان، صنيج وعاكم (أوائل القرن الثامن). فبالنسبة لهؤلاء لم يكن يكفى أن يدافعوا عن أنفسهم فحسب. بل تراهم يفخرون بسواد ألوانهم، وبتاريخ قومهم السود والبلدان التي جاءوا منها، بل كانوا يهاجمون العرب بما كان هؤلاء يفخرون به.

استبطان الاحتقار :
المثال على استبطان الاحتقار هو نسيب الأكبر، الشاعر ذو الأصول النوبية. إن مسلكه شبيه بمسلك "أنكل توم" في الثقافة الغربية. فقد اختار ألا يواجه المجتمع بل يتواءم معه، ويقبل تحامله. وعندما تقدم ابنه لخطبة فتاة من عائلة مالكيه السابقين، والذين كانوا مستعدين للموافقة عليه، جاء نسيب وأمر بعض عبيده السود بجر ابنه من رجليه وضربه ضربا مبرحا. وقد ضرب العبيد ابنه ضربا شديدا. ثم رأى نسيب رجلا شابا من أصل نبيل، فقال لعم الفتاة "زوّج بنت أخيك لهذا الشاب وسأقوم أنا بدفع المهر." وهكذا لم يجد ابنه أهلا للزواج من فتاة نبيلة الأصل، بل ضربه ليعرف مكانه الصحيح. وتقول حكاية أخرى، أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، طلب من نسيب أن ينضم إلى ندمائه، ولكن الشاعر اعتذر بأنه أحط من أن يستحق هذا الشرف وقال للخليفة:
"يا أمير المؤمنين، لونى اسود، وقامتي عوجاء، ووجهي دميم، ولست أهلا لهذا المكان".
وتقول قصة أخري انه كان يلوذ بالخفاء. كان يحب أن يخفى سواده عن مستمعيه، عندما طلب منه أن يلقى شعره على بعض النساء، حتى لا يجرح شعورهن. وقال في ذلك: "دعوني أقرأ من وراء حجاب. لماذا يردن رؤيتي. لونى أسود، وشِعري أبيض. دعوهن يستمعن لي من وراء حجاب."
ويعطينا عنترة، الشاعر الفارس، مثالا آخر على استبطان الاحتقار. فكان يظهر كراهية لأمه الأثيوبية، زبيبة، باعتبارها المسؤولة عن سواده. وكان يراها تجسيدا للقبح. وكان يدعوها الضبعة، ويشبه رجليها بساقي النعامة، وشعرها بالفلفل الأسود .

المقاومة (1) :
المثال علي المقاومة، على غرار المنهج الأول، نجده في أعمال الكاتب الكلاسيكي العظيم الجاحظ، الذي عاش ببغداد في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، والذي كان هو نفسه أسود اللون. كان لا يفتأ يذكر العرب أن السود خلقهم الله، وأنه لا يمكن أن يكون صحيحا أن الله قصد تشويه خلقه، كما يعتقد العرب، قال :
"لم يشوهنا الله بخلقنا سودا. فألواننا السوداء جاءت نتيجة أحوال البلاد (البيئة). والشاهد على ذلك أننا نجد السود بين القبائل العربية، مثل بنى سليم بن منصور الذين يعيشون بالحرّة. فكل سكان الحرّة سود، وحتى دببتها، ونعامها، وذئابها، وضباعها وبغالها ومعيزها وطيورها سوداء، بل إن هواءها نفسه أسود."
وقد كتب الجاحظ "فخر السودان علي البيضان" وهو يمجد البشرة السوداء مشبها لها بالحجر الأسود المقدس، حجر الكعبة، فضلا عن عناصر الطبيعة الداكنة اللون والقوية، مثل التمر، الأبنوس، الأسود، النوق، المسك، الليل والظل . وبعد ثلاثة قرون أخري، سينهض كاتب بغدادي آخر، هو الجوزي، الذي عاش في نهاية القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي)، للدفاع عن السود. وقد كتب الجوزي "تنوير الغبش، في فضل السودان والحبش". وكان يمجد اللون الأسود، ويمدح فضل وأخلاق ونبل ملوك وملكات السودان وأثيوبيا، إضافة إلي صحابة النبي السود.

المقاومة 2:
المقاومة وفق المنهج الثاني، تقبل سلبية اللون الأسود، ولكنها تركز على الخصائص الأخلاقية والعقلية. والحجة هنا تتخذ الشكل التالي : "نعم نحن سود، ولكننا ذوو فضل. " الشاعر النوبي، سحيم عبد بنى الحساس يقول :
" إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً أو أسود اللون إني أبيض الخلق

ويقول أيضا :
أتيت نساء الحارثيين غـــــــدوةً بوجهٍ براه الله غير جميل
فشبهنني كلباً ولســـت بفوقــــــه ولا دونه إذ كان غير قليل

وقال أيضاً :
فلو كنت ورداً لونه لعشقنني ولكن ربي شانني بسواد"

الشاعر خفاف بن ندبة، وهو شاعر أسود أيضاً، نسج على نفس المنوال. فهو يقبل حقيقة أن سواده سُبّة، ولكنه يفخر بصفاته كمحارب صعب المراس، يصفي حساباته مع من يذمونه في ميدان المعركة. يقول :
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافـــــــاً أنني أنا ذلكــــــا
ويقول :
فجادت له يُمنى يديّ بطعنة كست متنه من أسود اللون حالكا
سلك عنترة نفس الطريق. فهو يقول :
ينادونني في السلم يابن زبيبة وعند صدام الخيل يابن الأطايب
ويقول كذلك :
فأنا الاسود والعبــــــد الذي يقصد الخيل إذا النقع إرتفع
نسبتي سيفي ورمحي وهما يونساني كلما إشتدّ الـــفزع
ويقول عن أمه :
وأنا ابن سوداء الجبين كأنها ضبع ترعرع في رسوم المنزل
الساق منها مثل ساق نعامـة والشعر منها مثل حب الفلفـــل
ويتمنى لو أن عبلة تقبله علي "علاته"، أي سواده :
لعل عبلة تضحى وهي راضية علي سوادي وتمحو سورة الغضب
ولكن أعمال المقاومة الشحيحة هذه، لم يكن لها أثر أبعد من إثبات حقيقة الرفض. فالتحامل علي اللون الأسود صار أكثر حدة في الثقافة العربية الإسلامية، مع نمو الإمبراطورية، وانخراط العرب في اصطياد العبيد. وبمرور الزمن نشأ ارتباط بين العبودية والسودان، أي السود. وكما يكتب أكبر محمد، مع اتساع الإمبراطورية، "اختفت بشكل كامل تقريبا، وانهارت نزعات المساواة التي كانت سائدة علي عهد النبي، تحت ثقل التمدن، والتثاقف، والانقسامات الاثنية الداخلية، والمركزية العربية." وهذه النزعات تنعكس بصورة واضحة، وبأشكال لا حصر لها في الأدب العربي الكلاسيكي.

لم يكن العرب، عادة، يخاطبون السود بأسمائهم، بل يخاطبونهم بكلمة "الأسود" أو "العبد الأسود". وعندما كان أحد الشعراء السود يلقى شعره أمام أمير أو خليفة فإن عبارة الإطراء عليه هي عادة: "أحسنت يا أسود". وكان الشعراء العرب يشعرون بالغضب والحسد عندما ينظم شاعر أسود شعرا جيدا. وكان رد فعلهم الطبيعي عندما يسمعون شعرا جيدا هو "وددت لو قلت هذا الشعر قبل هذا العبد الأسود." وكانت طريقتهم المفضلة في إغاظة زملائهم السود أن يقولوا لهم "قل غاغ"، أي قلّد صوت الغراب .
وتعتبر قصائد المتنبي التي يسخر فيها من كافور الإخشيدي، حاكم مصر في العصور الوسطى، مثالا علي ذلك. فالمتنبي معروف بأنه أعظم الشعراء العرب موهبة علي مر العصور. وقد قصد كافور، العبد النوبي، الذي تحرر واستولى علي الحكم بمقدراته العسكرية والإدارية المتفوقة. وكان المتنبي يأمل في أن يتفضل عليه كافور بأمارة يحكمها. ونظم لهذا الغرض قصائد عديدة في مدح كافور. بل وصل إلى درجة مدح لونه الأسود وأعبره تجسيدا للجمال. ولما فشل في الحصول علي مبتغاه، كره كافورا، وفرّ هاربا من مصر، وبدأ حملة من التشنيع والهجاء ضد كافور. وقام بنظم قصائد في هجاء كافور، تعتبر من عيون الشعر من حيث خصائصها الفنية، وسماه "الأسود المخصي"، والزنجي الدميم. في كل هذه القصائد كان المتنبي يعيّر كافورا بلونه الأسود. ويقول في إحداها :
وأسود مشفره نصفه يقال له أنت بدر الدجى
وهو يسخر من المصريين أيضا، ويدعوهم مضحكة الأمم ، لأنهم يرضون بكافور حاكماً لهم. ويهجو كافوراً بسواده في أبياته المحفوظة عن ظهر قلب من قبل كثير من السودانيين ذوي الثقافة العربية:
العبد ليس لحر صالح بـــــــأخ لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معــه إن العبيد لأنجاس مناكيـــــد
إلي أن يقول :
من علم الأسود المخصي مكرمةً أقومه البيض أم آباؤه الصيــــــــد
أم أذنه في يد النخاس دامـــــــيةً أم قدره وهو بالفلسين مـــــــردود
أولَى اللئام كويفير بمعـــــــــذرة في كل لؤم وبعض العذر تفنيـــــد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة عن الجميل فكيف الخصية السـود
ومن المدهش أن الشماليين عندما يقرأون هذه القصائد، فانهم ينحازون إلى المتنبي وليس إلي كافور، رغم أن كافوراً كان رجلاً نوبياً، وبمعنى معاصر كان سودانياً شمالياً.
الاغتراب عن الذات :
الهوية الثقافية العربية هي انعكاس خارجي للنفس العربية. أنها تعكس تصورهم للعالم، وهو تصور لابد أن يكون مختلفا عن تصورات الآخرين للعالم، وذلك لأن الناس يفهمون العالم من خلال الثقافة وليس من خلال الطبيعة. إن اللغة العربية تعكس العالم كما تراه العيون العربية، وذلك لان هناك علاقة قوية بين الكلمة والعالم word & world))، وبين الخطاب والكون. فالكلمات هي التعبيرات اللفظية عن محتويات الكون. وفي تحليلاته النفسية للثقافات الغربية توصل لاكان إلي أن الثقافات الغربية واللغات الغربية، تتميز بالذكورة. وعندما تستخدم النساء هذه الثقافات، لا يستطعن أن يكن فاعلات كنساء. وعندما يتحدثن فإنما يتحدثن لغات مذكرة. ولا يستطعن، بالتالي، في إطار البنية القائمة لهذه اللغات، أن يحققن رغباتهن ككائنات متحدثة . ويوضح لاكان كذلك كيف يدخل الطفل إلي عالم اللغة من خلال "رمزيتها الاجتماعية" وتحدث هذه العملية بالتماهي مع الأب والاغتراب عن الأم. وككائن متكلم فإن الطفل "ينمو داخل عالم الأب ".
يمكن إثارة نقطة مشابهة في علاقة الشماليين باللغة العربية. فعندما يدخل الطفل الشمالي عالم اللغة العربية، فهو أو هي، يدخل في عملية التماهي مع الأب العربي، والاغتراب عن الأم الأفريقية، ولكن الشماليين يشعرون بالوجود الظاهر للأم في جلودهم ووجوههم، وكما أوضح فرانسيس دينق : "ولا يحتاج الأمر إلي عالم متخصص في علم النفس الاجتماعي، لاستنتاج أن هذا الاحتقار لبعض العوامل الظاهرة في ملامح الوجه، لا بد علي مستوى ما من مستويات الوعي أن يسبب لصاحبه درجة من التوتر والتشويش" . ولكن طريقة الشماليين في التعامل مع هذا التوتر والتشويش، تعتبر متفردة نوعا ما. فبدلا من محاولة إعادة صياغة وتدجين اللغة لتناسب ملامحهم، فانهم يخترعون صورة خيالية لوجوههم لتلائم اللغة. ولذلك يتفادون استخدام كلمة "أسود" لوصف أنفسهم، ويصرون إصرارا مبالغا فيه علي أصلهم العربي". ويحدثنا أحمد الشاهي الذي درس قبيلة الشايقية قائلا : "من الوقاحة أن تصف الشايقي بأنه أزرق (أسود)، حتى ولو كان لونه كذلك، لأن هذا الوصف يساويه بالعبد."
ومن الأمثلة الصارخة علي وجود هذا التوتر، هذا المقتطف من خطبة للشريف زين العابدين الهندي، أحد القادة السياسيين البارزين في الشمال. فقد قال :
"أنا عربي. وأعرف أنني عربي. ولا يستطيع أحد أن يناقشني في ذلك. فأنا أملك شجرة نسب. فأنا فلان بن فلان بن محمد رسول الله. ولكن، من الجانب الآخر، يستطيع أي فرد أن يشير إلي أفريقيتي. فقد جئنا (نحن)، واختلطنا (معهم)، والنتيجة هي هذه (الخِلَقْ) القبيحة التي صرنا عليها."
"نحن" في المقتطف تشير إلي العرب، و"هم" تشير إلي الأفارقة النوبيين، و"هذه الخلق التي صرنا عليها" تشير إلي الحاضر، إلى الشماليين الموجودين الآن. والعبارات تعبر عن التماهي مع "الأب"، والاغتراب عن الأم "هم" وكراهية الذات (هذه الخلق التي صرنا عليها). هذا هو المثال الأكثر فصاحة لمفهوم دوبوا عن الشخص الأسود الذي "يرى نفسه من خلال عيون العالم الآخر، والذي يزن روحه في ميزان يبخسها ولذلك ينظر الى هذه العملية باستمتاع يختلط بالاحتقار والشفقة." ويعتبر تماهي الشماليين، مع المتنبي، في هجائه لكافور، النوبي، مثالا آخر علي تكوين نفسي منحرف.

تشعر النخبة السياسية والثقافية الشمالية، بالحاجة لترداد أنها عربية. ويشعرون بالضيق من كلمة "السودان". وقد قال الطيب صالح، الروائي ذو الصيت العالمي، ما يلي :
"تمنيت لو أن قادتنا سموا هذه البلاد سنار. ربما يكون السبب وراء عدم استقرار هذا البلد أن اسمه (السودان) لا يعنى شيئا بالنسبة لأهله. فما السودان؟ مصر هي مصر، واليمن هو اليمن، والعراق هو العراق، ولبنان هو لبنان. ولكن ما السودان؟ فالاستعماريون أطلقوا هذا الاسم علي المنطقة التي تمتد من أثيوبيا في الشرق وحتى السنغال في الغرب. الأمم الأخرى أطلقت علي أوطانها أسماء تعنى شيئا بالنسبة لها، وتركنا وحدنا نحمل هذا العبء علي أكتافنا.
كراهية السواد تنبع من التماهي مع العرب، وتبنى منظورهم للعالم. وهذا الاقتراح بتغيير اسم البلاد ليس جديدا، فقد ظهر مباشرة بعد الاستقلال. والسبب الأساسي وراء الاقتراح هو معنى الاسم وإيحاءاته. فكلمة (سوداني) يستخدمها الشماليون كمرادف لكلمة (أسود) وكلمة (عبد). وهذه الكلمات تستخدم للدلالة علي العبودية أو الأصل العبودي، أي لأولئك الذين ينتمون لجماعات غير عربية مسلمة ، سواء من الجنوب أو جبال النوبة. بالنسبة للشمالي أن تكون سودانيا يعني أن تكون أسودا، وأن تكون أسودا يعني، بدوره، مستوي اجتماعيا أدنى، وأصلا أدنى. ويتفق أغلب الباحثين الذين درسوا السودان، مثل هيذر شاركي وأحمد شاهي، أن وصمة (السواد) متأصلة في تراث الرق، خاصة وأن كل الأسر الشمالية تقريبا، في منطقة الوسط النيلي، كانت مالكة للعبيد . ومع أن هذا صحيح، إلا أنني أعتقد أنه لا يمثل كل الحقيقة. فهناك مستوى أعمق تجد فيه وصمة (السواد) أصولها، وهو الثقافة العربية، التي تحتقر السود، كما رأينا من قبل. فالشماليون لم يدجنوا الثقافة العربية، واللغة العربية والقيم العربية، بل استبطنوها جميعا. وهذا هو السبب في كونهم يرون العالم من خلال العيون العربية، رغم المفارقات، ورغم ابتذال الذات المترتب على هذه النظرة. ومن الملاحظ بصورة عامة، أن الشمالي كلما تبحر في اللغة العربية والأدب العربي، كلما بالغ في تأكيد أصله العربي، وكلما أمعن في كراهية (السواد) وكلمة (سوداني). ويحدثنا خالد حسين أحمد عثمان أن أعضاء جمعية "أبو روف" (رفضوا بعد الاستقلال، أن يقدموا لاستخراج الجوازات، لأن الفرد منهم كان مطالبا بتسجيل أسمه كسوداني قبل أن يحصل علي الجواز) ولذلك فإن عبارة الطيب صالح تعبر عن تجديد لرغبة شمالية قديمة للتخلص من لعنة اسم (سوداني). ولو أخذناها مقروءة مع ما قاله الهندي، لوضعنا أيدينا علي الرغبة لهروب المرء من جلده، أو تبييضه، من خلال الخطاب، ليشبه جلدا عربيا. ويصيب دينق عين الحقيقة عندما يفسر نزعة السودانيين الشماليين للمبالغة في أصولهم العربية والإسلامية، ونظرتهم للسود كعبيد بأنها "عقدة نقص عميقة، أو علي العكس من ذلك، عقدة تفوق مستخدمة كأداة تعويض لهامشيتهم العربية الواضحة."

خاتمة :
ذكرنا أن الشماليين يؤمنون بأنهم ينحدرون من أب عربي وأم أفريقية، وأنهم يتماهون مع الأب ويرفضون الأم. وبالنسبة للشمالي المتوسط، فإن الأم تمثل الجنوب داخله، وما لم يقبل الشمالي أمه، ويتماهى معها، فإنه لن يقبل الجنوبي كند له. إن الاعتراف بالمكون الأفريقي داخل النفس الشمالية، بعد النكران الطويل، وتحرير الأم الأفريقية المقموعة داخل أنفس الشماليين، هي الشروط الضرورية لقبول الجنوبيين اجتماعيا من جانب الشماليين، والاعتراف بهم كأنداد، رغم الاختلافات القليلة القائمة.
يمكن لمشكلة الحرب أن تحل عن طريق انفصال الجنوب عن الشمال. ربما يكون في ذلك حل لمشكلة الجنوب مع الشمال، ولكنه لن يحل أزمة الهوية الشمالية. ومن الواضح أن أزمة الهوية في الشمال قد وصلت إلى قمتها، وبدأ التوازن يختل من جديد. وقد طرحت التساؤلات حول الهوية وعلي الشماليين أن يختاروا : أما أن يتشبثوا بالهامش، أو يخلقوا مركزا خاصا بهم، أن يستمروا كعرب من الدرجة الثانية، أو سودانيين من الدرجة الأولي. وثمة انشطار بين الفَعَلة السياسيين والثقافيين، بين أولئك الذين يسعون لإنشاء هوية سودانية جديدة، تمكن الشماليين من رؤية العالم بعيونهم، وأولئك الذين يدافعون عن الوضع القائم.
ولكن زعزعة الهوية القديمة هو المنطلق لإنشاء الهوية الجديدة، وفضح تناقضات هذه الهوية القديمة هام لعملية الزعزعة المقصودة. وهذه هي المهمة التي تصدت لها هذه الورقة.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المحبوب أحمد الأمين

المحبوب أحمد الأمين



أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟   أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟ Icon_minitime1السبت 3 يوليو 2010 - 13:56

الف شكر لك اخي الناشط صداح على ايراد الدراستين العميقتين ، وأتمنى أن يتم النقاش حول ما ورد فيهما لتعم الفائدة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
أسئلة الهوية وسيميولوجيا السواد..نؤذن في مالطا أم كاب الجداد؟
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» عيب السواد في حق مواطن الحصاحيصا (توجد صور)
» سهر الجداد الانقاذي ..
» البباري الجداد بوديهو ال..........!!
» مؤتمر تأريخى بعنوان الحداثة وصناعة الهوية فى السودان
» عيب السواد يا بورداب دوت كوم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منتدى الحصاحيصا العام-
انتقل الى: