(المقال منقول من جريدة سودانايل الالكترونية ، كاتبه الاستاذ ابراهيم الكرسني )
لنقراء ثم نضحك ثم نبكي وما بين البكاء والضحك ......... نتأمل .
الي نص المقال :
يحكي أن والدة أحد المغتربين فى إحدي دول الخليج قد قامت بزيارة إبنها في مهجره في الأعوام الأولي لحكومة "الإنقاذ"، فبادرها إبنها بالسؤال التقليدي، "يما كيف أحوال البلد؟". فردت عليه والدته، " يا ولدي إنت ماعندك خبر... القيامي ما قامت فى السودان... و الناس بدو يعذبو فيهن"!! لقد لخصت هذه "الحاجة" أحوال السودان، و نظام الإنقاذ لم يمر عليه سوي أشهر معدودات، و كأنها كانت بذلك تجيب على السؤال/المقال الذي طرحه أديبنا الفذ المرحوم الطيب صالح، "من أين أتي هؤلاء الناس؟". كأنها كانت تقول له، " ديل ما جو من الدار الآخرة يا ولدي"!!
نعم بالفعل لقد أتوا من دار أخري لا تمت الى ديار السودان التى نعرفها بصلة. دار أخري تمتهن كرامة و إذلال الناس عن طريق إعتقالهم و تعذيبهم فى بيوت الأشباح. دار أخري تيتم الأطفال و ترمل النساء من خلال الإعدام الجزافي للأزواج و الآباء، عشية عيد الفطر المبارك. دار أخري تقطع فيها أرزاق العوائل و العائلات عن طريق فصل من يعولهم من أعمالهم لا لجناية إرتكبوها، سوي الإختلاف فى الرأي و الرؤي و المواقف السياسية مع حكامهم. دار أخري تجبر البشر على مغادرة أوطانهم هروبا من البطش و الإذلال و التعذيب. دار أخري تمتهن المحسوبية و الفساد كسياسة، و تعتمدهما كأحد وسائل كسب العيش لسكانها. دار أخري تقع نوعية حياة سكانها، ومستوي معيشتهم في آخر سلم أولويات أولي الأمر فيها!!
"أتي هؤلاء" من تلك الدار الأخري، و هدفهم الأول و الأخير هو إرتكاب كل الموبقات في حق سكان السودان الوطن، حتي يجبروهم على مغادرة ديار السودان، إما الى القبر شهداء، أو الى أركان الدنيا الخمس مشردين، و تائهين على جنبات طرقاتها، في سبيل كسب لقمة العيش الكريم لهم و لأبنائهم. وقد إستغلوا جميع أنواع الأسلحة الصدئة حتي يحققوا ذلك الهدف، و بأعلى درجة من الكفاءة. و إليك ،عزيزي القارئ، بعض النماذج لتلك الأسلحة البتارة فى تشريد و إبادة الشعوب، و التى لا تعادلها فى الفتك سوي أسلحة الدمار الشامل.
أول نماذج الأسلحة الفتاكة لنظام "الإنقاذ" يتمثل فى سياسة تغيير العملة، إسما و مضمونا، التي نفذها "هؤلاء الناس" حين إستلامهم للسلطة السياسية، حيث تمكنوا من خلالها من معرفة رصيد كل فرد من أفراد الشعب السوداني، حتي ولو كان مليما واحدا. ولكن من إستهدفوهم بتلك السياسة الماكرة هم شريحة الرأسمالية الوطنية، التي أفلسولها،من خلال سياسات "صنعت خصيصا" لهم، و أحلوا مكانها شريحة الرأسمالية الطفيلية. لقد مات معظم أفراد شرائح الرأسمالية الوطنية من الغبن الناتج من حالة الإفلاس التى تعرضوا لها جراء السياسات الإقتصادية لنظام "الإنقاذ". تخيلوا معي، مجرد التخيل، "منظر" أحد أفراد بيوتات الرأسمالية " المقعدة"، و بعد أن كان "يهز ويرز" بين أفراد أسرته الصغيرة، و الممتدة كذلك، وله كلمة مسموعة بين أفراد مجتعه الصغير، و مكانة بارزة فى أوساط مجتمعه الكبير، من خلال مسؤولياته و نشاطه فى مختلف الميادين الرياضية و الإجتماعية و الفنية وغيرها، كل هذا قبل أن يأتي "هؤلاء الناس" الى سدة الحكم. ثم يتحول هذا الشخص، و بفضل سياساتهم الإقتصادية الماكرة و اللعينة، من الثراء الحلال الى الفقر المدقع، ثم الى عزيز قوم ذل، ثم الى شبح يحوم فى شوارع مدينته البائسة يستجدي "جماعة الطفيليين" لعينوه على مصاعب الحياة،بعد أن باع منزله و ممتلكاته و ما تبقى له من حطام الدنيا، ثم الى نزيل أحد السجون، أو أحد المستشفيات، ثم أخيرا الى مقابر شرفي أو حمد النيل بالعاصمة الوطنية.
ثاني نماذج تلك الأسلحة الفتاكة هو سياسة التحرير الإقتصادي. كلما كانت تعنيه هذه السياسة بالنسبة ل"هؤلاء الناس" هو "رفع يد" الدولة عن مسؤولياتها فى تقديم الخدمات الأساسية بالنسبة للمواطن كالصحة، و التعليم، و الكهرباء و الماء و السكن المناسب....الخ. لقد "تنصلت" دولة التوجه الحضاري من كل تلك المسؤوليات لترمي بها على كاهل المواطن الفقير المغلوب على أمره، و نفذتها بأسلوب لم يتوفر فيه ولو القدر اليسير من الرأفة أو الرحمة، التي توفرت ل"الكفار" من الخواجات، الذين وفروا لشعوبهم دولة الرفاهية، حتي لا يموت أحدهم من الجوع و المسغبة، ناهيك عن من يدعي الحكم بإسم الإسلام الذي أمر حكامه، أول ما أمر، بأن كلكم راعي و كلكم مسؤول عن رعيته، حتي نام أميرهم تحت جذع شجرة، و هو آمن على حياته من شدة عدله، و لم يجد آخر من رعيته من يستحق أموال الزكاة، الواجب جمعها من من توجب عليه دفعها !!
أما النموذج الثالث لتلك الأسلحة الفتاكة، الذي سنكتفي به فى هذا المقام، حتي لا يصاب القارئ العزيز بالغثيان، فهو سلاح الفصل للصالح العام. إنني أعتبر أن هذا هو أردأ تلك الأسلحة و أكثرها بترا، حيث أنه يصيب كل من أبتلي به بحالة الثالوث القاتل- التشريد، الإذلال و الفقر المدقع- و الذي تكون نهايته الحتمية الموت الزؤام. لقد أصاب هذا السلاح مئات الالآف من بنات و أبناء شعبنا الشرفاء، الذين فصلوا من أعمالهم، لا لجناية إرتكبوها سوي المعارضة المشروعة لنظام"الإنقاذ"، من حيث الفلسفة و الرؤى و السياسات، و من ورائهم تشريد الملايين من أبنائهم و عوائلهم، و حرمانهم من مصدر الرزق الحلال، و الحكم عليهم بالموت البطئ و الفناء، دون ذنب جنوه. أرجوك، قارئي الكريم، أن تقارن هذا النوع من الحكام مع أولائك الذين كانو يسألون عن حال دواب أرض الرافدين ، و هم يقيمون بصحراء الحجاز! حالة الحكام المسلمين بحق مع حالة أدعياء الإسلام من الحكام. حالة حكام مسلمي سالف العصر و الزمان مع حالة حكام مسلمي آخر الأزمان!!
أدت أسلحة الإنقاذ الفتاكة الى طرد و تشريد المواطن السوداني، داخل وخارج بلاده. بدلت تلك السياسات حال المواطنين من رغد العيش، تحت أنظمة الحكم المدنية الديمقراطية، الى الفقر المدقع، تحت أنظمة حكم الهوس الديني الدكتاتورية. بدلته من مواطن شريف يعيش فوق تراب وطنه، عزيز مكرم مرفوع الرأس، الى إنسان ذليل يمشي مطأطأ الرأس داخل بلده، أو إنسان مشرد مهان يعيش خارج بلاده. بدلته من إنسان موفور الصحة و العافية الى شبح ينتظر"يومه" ببطء، جراء سياسات الإفقار التى إنتهجها "هؤلاء الناس". سياسات فتاكة بدلت حال متعلميه و مثقفيه و مفكريه و مبدعيه فى جميع المجالات، من قادة رأي و كتاب و أكاديميين يملئون الدنيا بمساهماتهم المتميزة، و ينالون الإحترام و التقدير و الإعجاب أين ما ذهبو، و حيثما حلوا، الى مجرد أرقام، و "كروت" عمل، و أحلت مكانهم كل من ينتمي الى فئة "الجهل المسلح بالشهادات"، من منتسبيهم، و مريديهم، و المؤلفة قلوبهم، وفقا لمبدأ "الولاء قبل الكفاءة"، فى تخصيص الوظائف و الشواغر.
بربكم هل يمكن أن نجد أي حكومة فى الدنيا بهذه المواصفات؟ حكومة يكون أول همها هو تجويع و تشريد شعبها، و تتبع في سبيل ذلك أردأ أنواع السياسات الإقتصادية و الإجتماعية التى تنفذها بأسلوب مدروس و منظم. و تحكم شعبا تكون أول أهدافه هي " الشراد" من البلد، و تركها لحكامها حتي يتفادي الإذلال و التجويع و الإفقار، و العذاب فى الحياة الدنيا قبل الممات. ألا تشبه حالة كهذه، بربكم، حالة يوم القيامة؟ و أخيرا ألم تكن "الحاجة" صادقة، أم جنح خيالها بعيدا، حينما قالت لإبنها المغترب بأن "القيامي قامت فى السودان... و الناس بدو يعذبو فيهن"!!؟