من عمق الذاكرة..بعيدا عن سيرة البحر..

محمد عبد اللله برقاوي..

bargawibargawi@yahoo.com

لو افترضنا ان الكاتب ايا كان هو الآلة التي تعتصر نفسها ذهنيا وبدنيا لتوفير المادة المكتوبة للقارىء الذي هو مستهلك ذلك المنتج لاسيما الصحافي منه .. فلكلا الطرفين الحق في استراحة ما .. ليست بالضرورة التوقف عن الكتابة بالنسبة لاصحاب الأ قلام لان ذلك يعني ضمنا اما شلل الأطراف او الموت الدماغي ..فلا فكاك ولا توبة من مهنة المتاعب وادمانها المشوق..ولكني اعني الأستراحة بمعني التنويع في الكتابات ..لاسيما الهروب احيانا عن سيرة البحر كما يسميها صديقنا الدكتور عبد اللطيف البوني..وهي السياسة بالطبع ام الكبائر التي تسكر السواد الأعظم من ابناء شعبنا ..القارىء النهم باعتراف كل الشعوب.. بيد انه هو الاخر ربما يتوق من وقت لاخر لاستراحات عبر الورق من ( نقة السياسة ) ..جاءت في خاطري هذه الفكرة وانا أجلس الي الكمبيوتر ..لكتابة مقالي غير الراتب في بعض الصحف السودانية والمواقع الالكترونية .. فتجاذبتني افكار عدة و مكثت زمنا علي ذلك الحال..حتي اهتديت الي فكرة الغاء المقال السياسي علي الأقل اليوم فقط خاصة وقد لاحظت منذ اكثر من اسبوع ان الزملاء في ادارة تحرير وسكرتارية ( التيار ) لم ينشروا ايا من مقالاتي السياسية التي ارسلت منها ثلاثة دفعة واحدة ربما لاسباب فنية او خلافه.. لايهم فمساحة الود بيننا وافرة للتواصل.. والقلم مترع بالجديد ..وهاهي الفرصة تلوح لي لاستراحة من عمق الذاكرة الحبلي بتراكمات شتي سواء في زواياها البعيدة او عند حافتها القريبة..

يقول المثل العربي من قال علمت فقد جهل...فالانسان كلما اصبح عليه يوم واكتسب معارفا جديدة من تجارب الحياة التي يمر بها او تجارب الأخرين يشعر انه لازال في حاجة للمزيد لاسيما وقد توفرت في عصرنا الحالي مفاتيح وادوات كثيرة للحصول علي المراد من المعلومات وفق سرعة فائقة ..وفرت كثيرا من الجهد والعناء والزمن كان يبذلها الانسان لتلقي المعلومة او توصيلها ..وهي فرصة حقيقية ينبغي علي كل فرد منا الاستفادة منها في تبادل التجارب..حتي الذاتية منها فعساه يكون فيها شيء من نفع او تفتح بابا للامل في نفوس اناس صدموا في مواقف معينة غيرت من مجري حياتهم من اتجاه بعينه الي اتجاه اخر مختلف تماما..

ويحكي أن فتاة كان اسمها فاطمة العجمي .. جاءت من فلسطين ونجحت في الوصول الي الموسيقار العربي الكبير االدكتور /محمد عبد الوهاب وكان في اوج عنفوانه و مجده الفني ربما في خمسينيات القرن الماضي..وطلبت منه ان يسمع صوتها فهي تعشق الغناء وتحلم بان تكون مطربة.. فاذعن لرغبتها ..وبعد ان انتهت ..سألته ما رايك يا أستاذ قي صوتي ...فاجابها بسخرية وبصوته الهادي ..صوتك يا ابنتي يصلح للرقص وليس للغناء...فخرجت محبطة تكفكف دمعتها..ولكنها ما لبثت ان استعادت توازنها وفكرت في الأمر مليا ..وقالت ولما لا أرقص..اهو كله فن .. فأصبحت بعد أن هزت خصرها كثيرا راقصة مصر الأولي وغيرت اسمها الي ( نجوي فؤاد ) ..بعد ان تزوجت من الموسيقار الكبير الراحل احمد فؤاد حسن رئيس الفرقة الماسية..

وقد مررت انا بتجارب مشابهة كان لها الأثر البالغ في تغيير اتجاهات مواهب كنت اتوهمها..طبعا لم تحولني الي نجوي فؤاد ولا الي أحمد عدوية ..ولكنها علي كل حال بدلت مجري حياتي بدرجة معينة وان كانت لم تبعدني كثيرا عن عالم الكلمة.. فقد ذهبت الي التلفزيون في نهاية الستينيات وانا طالب بالمدرسة الوسطي للالتحاق كممثل متعاون في قسم الدراما استنادا الي اعلان في الصحف ..فقابلني الراحل الاستاذ/ متوكل كمال الذي كان مكلفا بادارة الدراما ووجهني الي الراحل الاستاذ/ محمود سراج ابو قبورة الذي استلم طلبي ..ثم عرضت عليه ما كنت اظن انه نص درامي كتبته في فورة شغفي بالتمثيل .. فرد قائلا بعد ان تفحصه جيدا يا بني هذا كلام فيه سجع اقرب الي الشعر...وطلب مني ان اعرضه علي شاب وسيم الطلعة يجلس في الطاولة المقابلة له بالمكتب ..والذي عرفني بنفسه انه الشاعر اسحق الحلنقي الذي بدأت اغنياته علي قلتها في ذلك الزمن المبكر من شاعريته الفذة تفتح فجوة عريضة في اذن المتلقي السوداني لما تتميز به من طلاوة الكلمة وعمق ورومانسية المعاني .. عصاقير الخريف ..مشي امرك يا قدر ..والأبيض ضميرك ..علي ما اذكر تحديدا ..المهم ان اسحق بابتسامته الخجولة ورقته المتناهية في الكلام ..رد الورقة الي ابو قبورة وهو يقول (.. والله يا محمود عندك حق الولد شاعر واعد يجي منه ) ومن يومها تلبسني ذلك الوهم بانني ابو الطيب المتنبي في الفصيح.و. ادنوس في النثر ..وابو صلاح في الغنائي..وتشاء الأقدار ان التقي بالحلنقي بعد تلك الواقعة بأكثر من عشر سنوات لنتزامل ونصبح صديقين كالتؤام في الغربة بدولة الامارات العربية المتحدة استمرت لربع قرن شكلنا فيها رهطا من الاصدقاء ضم الفنان التاج مكي والموسيقار بشير عباس ولفيف من الأصدقاء الفنانين والشعراء والموسيفين وغيرهم ..افرزت ورش العمل الفنية التي كانت تجمعنا انتاجا ثرا من الأعمال الفنية التي باتت علامات في وجدان الناس...هذا ما عن لي في الخاطر من سلسلة الذكريات التي استيقظت في ذاكرة الأنامل التي هربت الي الامام من ( سيرة البحر ) لتطرق علي بوابة السيرة الذاتية علي تواضع مكنونات مستودعها المثقل بغبار الزمن و متاعب الحياة ..ولكن لابأس من .. الطلة التي ارجو ان تكون خفيفة علي من يطالعها مشكورا من القراء الذي ربما مل قليلا .. السيرة اياها.. والله من وراء القصد..