انفصال الجنوب يهدد بصراعات دموية في شقي السودان، بالتأكيد لن يكون اليوم التالي لنتيجة استفتاء الانفصال كسابقه. وتؤكد كل المؤشرات أن الحالتين ستشهدان توترات لا يمكن إغفالها. وتتلخص نتائج إعلان نتيجة الاستفتاء بالبقاء في دولة واحدة في رفض الجنوب تلك النتيجة والتصعيد بما يعود بالوضع للمربع صفر.
أما في حال إقرار الانفصال فإن هذا يؤدي إلى حدوث العديد من المشكلات التي تصب أيضاً في خانة تجدد الصراعات حسبما ذكرته دراسة للدكتور آدم محمد أحمد بعنوان "الآثار السياسية المترتبة على انفصال جنوب السودان".
أولى تلك المشكلات هي تفتيت السودان، حيث يرى المراقبون أن انفصال الجنوب قد يؤدي إلى تصعيد بعض النزاعات المسلحة الموجودة بالفعل في السودان ومطالبتها بالانفصال. وفي أحيان كثيرة كانت تلك الأقاليم التي تحتضن تلك النزاعات ترفع راية العصيان وتلوح بالانفصال في وجه الخرطوم لتلبية مطالب محددة. إلا أن الوضع بعد الانفصال سيزيد من جرأة تلك الأقاليم بشكل كبير، بحيث تنتهج مسار الجنوب. ويساعدها على هذا هشاشة الوضع في السودان حال تحقق الانفصال.
كما يتوقع الخبراء في الشأن السوداني أن يفيق الخرطوم بعد الانفصال على اضطرابات داخلية في الشمال. وثمة عوامل تؤجج قيام تلك الاضطرابات. أول تلك العوامل استمرار دعاوى التهميش التي يطلقها بعض الأقاليم مثل دارفور وشمال السودان وكردفان وغيرها. ومن المتوقع أن يكون انفصال الجنوب حافزاً لتصعيد الصراع مع الخرطوم لتحقيق الانفصال أو مجرد استخدامه كورقة ضغط للحصول على مكاسب أكبر. كما أن الانفصال سيمثل سابقة بين الدول الإفريقية، مما لا يستبعد معه تكرار سيناريو السودان في العديد من الدول الإفريقية التي تشهد نزاعات مشابهة، وهو الأمر الذي يصيب ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية في مقتل.
وثمة عامل مهم، وهو التباين العرقي الواضح في الشمال. وتتضح خطورة هذا العامل في ظل وجود عشرات القبائل الكبيرة في شتى أرجاء السودان التي تسعى كل منها إلى الهيمنة، على عكس الوضع في الجنوب الذي تسيطر عليه ثلاث قبائل كبيرة فحسب. إضافة إلى هذا فإن الشمال مرتع للجماعات المسلحة حتى أن الخرطوم وحدها فيها 52 مجموعة مسلحة على الأقل بحسب بيانات رسمية. ويعتبر الوجود الأجنبي من العوامل المهمة لحدوث الاضطرابات في الشمال. وتوجد العديد من القوات والمنظمات الدولية في كردفان ودارفور.
ويختلف الحال إلى حد ما في الجنوب، ففي حين يذهب البعض إلى أن جنوب ما بعد الانفصال سيكون ساحة لحرب داخلية يرى آخرون أن التنوع العرقي في الإقليم أقل بكثير من الشمال، إذ يمكن حدوث توافق بين القبائل الثلاث الرئيسة في الجنوب.
ويعد ترسيم الحدود من الملفات الخطيرة التي يتوقع تفجرها عقب الانفصال، فهناك ثلاث مناطق لم يتم الاتفاق عليها حتى الآن, هي: أبيي، النيل الأزرق، وجنوب كردفان التي لا تزال في وضع نزاع. ويكمن تعقيد هذا الملف في كون تلك الأقاليم مناطق ثروات معدنية.
العد التنازلي
ثمة مشكلة تتعلق بالموارد التي ستخصم من الشمال لحساب الجنوب في حالة الانفصال. وتشير دراسة الدكتور آدم، التي نشرتها "السبيل" الأردنية، إلى أن الجنوب سيحصل على نسبة 80 في المائة من النفط. في حين تراوح نسبة الموارد البشرية التي ستخصم بين 21 و33 في المائة، إضافة إلى 25 في المائة من الأراضي البكر الصالحة للزراعة طوال العام، مع ملاحظة أن الجنوب يعتبر عمقاً استراتيجياً للشمال، إذ يمثل 26 في المائة من الكتلة الحيوية. وهناك 60 في المائة من الغابات، و70 في المائة من الحياة البرية، 55 في المائة من الثروة الحيوانية، و60 في المائة من الثروة السمكية.
وفي ظل هذا المشهد الذي يكتنفه الكثير من الضبابية ترى البروفيسور جيرار بورنير ــ مساعد مدير الشؤون السياسية لمشروع ANF ــ أن أهم مشكلة تواجه أطراف اتفاق السلام الشامل أن المجتمع الدولي لم يحملهم أي مسؤولية لعدم تنفيذ الأحكام الرئيسة للاتفاق. وقالت في ورقة استراتيجية بعنوان "السودان: العد التنازلي": إن المجتمع الدولي يجب أن يضطلع بالقيام ببعض المهام قبيل الاستفتاء. أولها تشجيع المفاوضات بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان على المدى الطويل وترتيبات تقاسم الثروة قبل استفتاء 2011. ثم علاج مشكلات السودان بصورة شاملة ووضع أولويات لتنفيذ اتفاق السلام الشامل باعتبارها الوسيلة الأساسية لمعالجة الأسباب الجذرية للصراعات في السودان. وثمة مهمة تتعلق بوضع استراتيجيات منسقة قصيرة الأجل وطويلة الأجل للتعامل مع المسائل الرئيسة. ويجب أن تخضع لعدة مسائل مهمة تتعلق بالحكومة أو السياسة العامة وسيناريوهات ما تبقى من السلام الشامل خلال الفترة الانتقالية.
تأييد ودعم إقليمياً ودولياً
على المستوى الإقليمي تقف مصر في جبهة المعارضة للانفصال الذي يهدد أمنها القومي والمائي. أما كينيا فتفرض عليها استراتيجيتها الأمنية دعم الانفصال، ولا سيما أن عاصمتها تعتبر العاصمة السياسية للحركة الشعبية لتحرير السودان. إلا أنها ستعمل على إحداث توازن بين الخرطوم وأبوجا. والأمر نفسه بالنسبة لأوغندا التي تعتبر مأوى للاجئين الجنوبيين، التي ينطلق منها التمرد العسكري. وتدعم تكوين دولة مسيحية جنوب السودان. وتحتم العلاقة الوثيقة بين الكونغو الديمقراطية وكل من إسرائيل وتشاد دعم الانفصال. والأمر نفسه بالنسبة لجمهورية إفريقيا الوسطى, وكذلك الحال بالنسبة لتشاد التي تتمتع بعلاقة مميزة مع إسرائيل وفرنسا تجعلها تتبنى انفصال الجنوب وإقليم دارفور.
وعلى المستوى الدولي تقف الولايات المتحدة على رأس مؤيدي, بل داعمي الانفصال. وعلى المرتبة نفسها تقف إسرائيل التي تضع نصب عينيها مياه النيل ثم النفط والمنتجات الزراعية، كما أنها ترمي لإضعاف السودان الداعم للقضية الفلسطينية.
أما التنين الصيني فيتمتع بعلاقة متينة تركز على العلاقات الاقتصادية دون السياسية. وتشجع بكين وحدة السودان إلا أنها لن تمنع اختيار الجنوبيين الانفصال، ذلك أنها تنتهج سياسة حكيمة مع طرفي النزاع. وبالنسبة للدول الأوروبية فقد لعبت بريطانيا دوراً رئيساً في خلق المشكلة من الأساس، لذا فهي مؤيدة للانفصال على طول الخط. وهناك دول أوروبية تدعم الانفصال من خلال المنظمات غير الحكومية والهيئات التنصيرية مثل: فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، النرويج، وهولندا.
النيل.. مخاوف مصرية وأطماع إسرائيلية
"المخاوف المصرية من انفصال الجنوب وتأثير ذلك في حصتها من مياه النيل تعتبر مخاوف غير مدروسة لأن الجنوب ليس في حاجة إلى مياه النيل التي يتشاجرون عليها الآن." بهذه الكلمات بدأ سلفاكير حديثه للصحافة المصرية عقب انتخابه رئيساً لحكومة جنوب السودان. لكن تلك التصريحات لم تكن كافية لطمأنة القاهرة والخرطوم, ولا سيما مع التحركات التي تقوم بها دول المنبع لتحجيم حصص مصر والسودان.
وفي حال انفصال جنوب السودان فإن موقف مصر سيكون أشد تعقيداً بحسب تعبير الدكتور محمد الناير محمد النور أستاذ الاقتصاد في جامعة إفريقيا العالمية. ويشير إلى أن جنوب السودان لديه صلات قوية مع دول المنبع التي ترتبط بدورها مع جهات أخرى. ومن المتوقع أن ينضم الجنوب إلى تلك الدول, ما يزيد من سوء الوضع بالنسبة لمصر. إضافة إلى أن مصر ليست لديها خيارات إلا مياه النيل في حين يمتلك شمال السودان كميات ضخمة من المياه الجوفية, إضافة إلى مياه الأمطار.
وتجددت المخاوف مع تصريحات الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان بأن الجنوب سيكون الدولة الـ 11 في حوض النيل, وهو ما يستلزم إعادة توزيع حصص المياه في ضوء الواقع الجديد بحسب طرحه. وذهب إلى حد المطالبة بتعديل اتفاقية حوض النيل استعداداً لانضمام دولة جديدة عقب إعلان نتيجة الاستفتاء. وحذر من مغبة عدم التعامل مع جنوب السودان كدولة فيما يتعلق بقضية مياه النيل.
ويفجر الدكتور محمد سلمان ــ أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية ــ مفاجأة من العيار الثقيل بتأكيد أن كل مناطق حوض النيل لا يمكن التأثير من خلالها في حصة مصر من المياه فيما عدا شمال وجنوب السودان. ويفسر ذلك بأنه عند مدخل النيل الأزرق يوجد مثلث عند خط عرض 12 وعنده يشيخ نهر النيل أو يهدأ, وبالتالي فإن المنطقة المحيطة به سهلة وممهدة لإقامة أي مشروعات. وأشار إلى أن 85 في المائة من حصة مصر من مياه النيل تأتي من النيل الأزرق. وبافتراض سوء النوايا فمن الممكن أن يكون هناك خطر حقيقي على حصة مصر من مياه النيل بحسب سلمان. ويلفت إلى أن هناك يداً إسرائيلية يجب الانتباه إليها, ولا سيما في ظل الندرة الشديدة في المياه التي تعانيها إسرائيل, حيث يصل معدل استهلاك الفرد للماء 300 إلى 400 متر مكعب.
من ناحيته, استبعد الدكتور عمر محمد علي ــ خبير المياه وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة الخرطوم ــ أن يؤدى انفصال جنوب السودان إلى تهديد لحصص المياه في دول حوض النيل, مشيرا إلى أن الجنوب سيكون دولة مغلقة وضعيفة، متوقعاً أن يعيش الإقليم في معارك قبلية داخلية. ويرى حلمي شعراوي ــ مدير مركز البحوث العربية والإفريقية في جامعة القاهرة ــ أن الانفصال سيطرح بقوة ملف إعادة توزيع مياه النيل, إلا أنه يؤكد أن الوضع في الجنوب سيكون أضعف من إثارة مشكلة كبيرة. ودعا إلى وجود جهد مصري دائم للمشروعات التنموية في جنوب السودان. ورأى أن إعادة العمل في قناة جونقلي يدعم الدور المصري في الجنوب, مشيرا إلى أن مشروع جونقلي سيكون حلاً مناسباً بالنسبة لمصر لأنه سيوفر ما بين اثنين وأربعة مليارات متر مكعب من المياه.
وأكثر ما يؤرق القاهرة أن درجة اعتماد بقية دول حوض النيل على مياهه ضعيفة تراوح بين 0.08 في المائة في الكونغو الديمقراطية و15.4 في المائة في رواندا. أما مصر فتعتمد في احتياجاتها المائية على النيل بنسبة 97 في المائة. ويخشى المراقبون أن تنقلب تلك الدول مجتمعة على مصر بمساعدة أطراف أجنبية بما يهدد حصة القاهرة من المياه بشكل غير مسبوق.