منقول
طُرحت أسئلة كثيرة حول الفساد في حكومة جنوب السودان؛ بالتزامن مع الذكرى الثالثة لتوقيع اتفاقية السلام، بين الشمال والجنوب، والتي تأتي في التاسع من يناير من كل عام.
وملف الفساد في حكومة الجنوب، يعد أحد أكبر المشكلات التي تواجه الجنوب، فبعد أن انتهت أزمة "الولاء للحركة" التي كان يثيرها باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية، بالإطاحة بالقيادي الدكتور لام أكول ووزير الخارجية السابق، وقادة كبار آخرون، وتنسم باقان منصب وزير وزارة مجلس الوزراء، والذي يعدل منصب رئيس الوزراء - كما في توصيف القائد الجنوبي الشهير ووالوزير السابق بونا مولوال، - في ظل النظام الرئاسي الذي تحكم به البلاد الآن.
وبعض قيادات الحركة – ومنهم دينق ألور وزير الخارجية السوداني- يصورون الأزمة بين د.لام أكول وباقان أموم بأنه صراع حول زعامة قبيلة الشلك وأن الحركة غير معنية به، رغم أنه يجري داخل أروقة الحركة الشعبية وبعناصر منها.
إلا أن أزمة أخرى بدأت تضرب جسد الحركة الشعبية، ليس عبر علاقتها بالمؤتمر الوطني أو الشمال كما كان تصور الأزمات السابقة بل داخل الجسم الجنوبي الأساسي؛ حول حظ الجنوب من عائدات النفط التي بلغت في العام المنصرم،2007م، مليار دولار أمريكي. ومثالها الصراع الشاخص بين والى ولاية الوحدة تعبان دينق، ونائب رئيس حكومة الجنوب دكتور رياك مشار، وقد تحولت المشكلة من إطار الخلاف الإداري، الذي يكون بين المسؤول ومن يليه أو بين المسؤولين في مستواهم الإداري، إلى صراع مكشوف على صفحات الجرائد السودانية التي تصدر بالإنجليزية، تكال فيه الاتهامات، للأفراد والقبائل الجنوبية، صحيح إن الاتهامات تتم تحت الإشارة إلى زعماء القبائل ولكن في الجنوب الزعيم هو القبيلة، والقبيلة هي الزعيم، وهل يجرؤ أحد ألا يسجد عند حافة النهر إذا مر عليه مركب رث – سلطان- الشلك ؟
اتهم تعبان دينق والي ولاية الوحدة، رياك مشار نائب رئيس الحكومة في جنوب السودان بأنه يلتف على حكومة ولايته – الوحدة - التي تشهد الآن استقراراً، وقال إن أزمة على الأبواب والمسؤول عن صنعتها د. مشار، الذي يعمل جنب إلى جنب مع زعماء قبيلة النوير الذين ينتمون لحزب المؤتمر الوطني، لتهديد الاستقرار في المنطقة ، واتهم تعبان مشار بأنه يعمل على تقسيم المجتمعات المحلية بالولاية، واتهم تعبان أيضا مشار كما في تصريحه لصحيفة يومية تصدر باللغة الإنجليزية "ذا سيتزن"، بأنه جمع العناصر الساخطة في الولاية لإزاحته من رئاسة الولاية بادعاء تورطه في الفساد.
ومضى تعبان في إفادته يدافع عن نفسه وعن صرفه البذخي في أموال الجنوب، بقوله إنه صرفها كمرتبات للناس في الولاية، وهو مبلغ ضخم، يفوق نصف المعونة الأمريكية السنوية لمصر، حيث تشمل واردات الولاية النقدية من النفط فقط 60 مليون دولار أمريكي، يصرِف منها النائب المحترم على المرتبات فقط 50 مليون دولار، وبحسب موسوعة ويكبيديا فإن سكان ولاية الوحدة لا يتجاوزون 175 ألف مواطن، فهل يعقل أن تصرف 50 مليون دولار على هذه النسبة القليلة من السكان وهي مبالغ مالية كانت تعدل ميزانية السودان لعدد من السنوات؟
إن الجدل الذي أثاره الوالي تعبان دينق، ليكشف بوضح تام، عن مشكلتين جوهريتين تأخذان بخناق الجنوب وتطوره، وهما الفساد البنيوي، والقبلية المسيسة، وقد لا نبالغ إن وصلنا التوصيف للأخيرة- القبلية- إلى القول أن الجنوب يعاني بصورة أساسية من غياب هوية جمعية له.
الفساد البنيوي، يتخلل مسارب الروح في الجنوب، فالخمر أصبحت السلعة الأكثر رواجاً واستيراداً في الجنوب، حتى أنها أقعدت الناس عن العمل، بشهادة الكنسية التي أخرجت بياناً تدعو فيها لتنظيم شرب الخمر، ومنه الفساد السلطوي، الذي يسري خلال كل أجزاء الهيكل الحكومي والإداري، وما قصة الـ 60 مليون - التي دفعتها حكومة السودان للجنوب لنقل قادة الحركة من الخارج للداخل- والتي أطاحت بآرثر كوين، وزير مالية الجنوب السابق والاتهامات المتبادلة بين السياسيين الجنوبيين إلا دليل على ذلك، ولو كان تعبان برئياً من أكل أموال الحكومة المتدفقة على ولايته، فإنه قد لا يجد سبيلا للبراءة من تهمة الصرف غير الرشيد، والمحسوبية والموالاة، ففي مثل هذه الولاية المتواضعة، يعين هذا الوالي 100 مستشار له، في حين أن القصر الجمهورية بالخرطوم لا يتجاوز عددهم فيه 12 مستشاراً، فكيف يفسر هذا التعيين ويبرر، وكم من الجنود والموظفين، والعمال من حاشية الوالي والولاة الجنوبيين يعينون بمثل هذه الصفات ويأخذون مرتبات دون مقابل من عمل؟
ومما يقيد يد المصلحين عن الإصلاح؛ الذين كلفوا رسمياً من قبل الحكومة، هو انغماس كبار قادة الحركة في الفساد، حتى إنهم صرحوا أنهم لا يملكون القدرة على محاربة الفساد، إذ كشف جنوبيون كيف توزع قادة الحركة أموال الجنوب، فباقان أموم أمين عام الحركة نال 2.5 مليون دولار، ومثله دينق ألور، ربيكا زوجة قرنق، وياسر عرمان رئيس الكتلة البرلمانية للحركة 2.1مليون دولار، وغيرهم، والمؤسف أن هذه الأموال لا تستثمر بعد في السودان إنما تحول للخارج حتى أشار البنك المركزي الأسترالي أن أكبر تحويلات نقدية لداخل أستراليا كانت من السودان.
وبسبب هذا الفساد البنيوي، أصبح الجنوبي عالة يتكفف الحكومات، ولا يريد أن يكون عاملاً أو صاحب عمل، حتى أصبح يعتقد أن عائدات النفط ينبغي أن يأخذ نصيبه منها "كاش" ويد بيد، وليس عبر خدمات وبنى تحتية وخدمات غير مباشرة، وهو ما صرح به تعبان دينق " إن شعبنا يحب أن ينال الأشياء مجاناً".
أما القبيلة المسيسة، فيبدو أن الجنوبيين من غير الدينكا، ودينكا الحركة الشعبية مازالوا يشعرون أن الحركة الشعبية نادي لقبيلة الدينكا، وأن الاثنيات الأخرى إنما هم تبع لها في حربها وسلمها، بحسبان أنها القبيلة الأكثر عدداً في جنوب السودان، والثانية أفريقياً ومن الطبيعي أن يتقوى أبناء القبائل الأخرى فيها بإخوانه من القبيلة، سواء كانوا في الحركة الشعبية أو في غيرها ، فالولاية وحكومتها هي كيان خدمي قبل أن تكون جهازاً سياسياً، ولولا القبلية المسيطرة، ما استغرب الوالي من احتجاجات نوير المؤتمر الوطني، وعدَّها وكأنها تدخل غير مقبول حزبياً، ولكنها القبلية السياسية، التي تسمح بالاحتجاج السياسي في حدود الانتماء الحزبي.
والجنوب كما يبدو مرشح لمزيد من الانشقاقات القبلية ويحتاج لمسيرة طويلة للحد من الفساد وإرجاعه إلى معدلات يمكن أن تقوم بجانبها تنمية، وإلى جهد كبير في تنمية إنسانه وإدماجه في مسيرة التنمية بالجنوب، وتحريره من الحاجة والمسغبة.