أخي الرئيس : لقد حدثنا بعض مشايخنا في فترة سابقة بأنهم عندما أرادوا أن يختاروا رئيساً لمجلس قيادة الثورة؛ وقع اختيارهم على العميد عمر حسن أحمد البشير من بين عدة خيارات كانت مطروحة للنقاش. وقالوا إن ما رجح كفته لقيادة مجلس الثورة أنه قوي الشخصية عند الشدائد، ولكنه ليّن الجانب وبسيط في الأحوال العادية، ويشارك العوام من أهل السودان أفراحهم وأتراحهم ويتكلم معهم باللغة التي يفهمونها؛ ولا يتنكر لماضيه ونشأته القروية المتواضعة ويقبل النصح ويلتزم برأي الجماعة.... فهل صحيح أنك الآن بعد أكثر من عشرين سنة في السلطة يصعب نصحك أو التصريح برأي مخالف أمامك، وهل صحيح أنه يستحيل أن تغير رأياً أو قراراً بعد اتخاذه إذا لم تتم التهيئة لذلك عدة شهور. علمنا يقيناً أن المستشارة القانونية التي طلب منها صياغة القرار (قرار نزع داخليات البركس من جامعة الخرطوم) أشارت إليك بضرورة أخذ رأي الطرف الآخر صاحب الحق قبل صدوره، ولكن ضرب برأيها عرض الحائط وكذلك توسل إليك بعض الرموز في الدولة للرجوع عن القرار بنزع أرض الجامعة فرفضت....
أخي الرئيس : عندما اعتلى عمر بن الخطاب المنبر في مسجد الرسول وأراد أن يصدر قراراً بتحديد المهر في الهواء الطلق وأمام كبار الصحابة؛ انبرت له امرأة وخطأته فيما ذهب إليه؛ فما كان منه إلا أن قال أخطأ عمر وأصابت امرأة، فهل بالإمكان أن تقول أنت اليوم أخطأ عمر وأصابت فريدة، عندما أشارت إليك بسماع رأي الطرف الآخر قبل صدور القرار بتخصيص أرض الجامعة للصندوق؟ وهل في ذلك عيب؟ أبداً والله فالقراءن يعلمنا بأن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما يخطئ يصححه الوحي جهاراً نهاراً (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى)...(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه). وكذلك يلقن القراءن الصحابة درساً قاسياً بعد غزوة أحد، ويكشف عيوبهم في قراءن يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة...(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين). فأنا أناشدك اليوم قبل الغد أن تراجع هذا القرار وأن تعيد النظر في أمر الصندوق وإدارته لنتجنب كثيراً من المضاعفات التي لن تعود على البلاد بخير.
وقد قال بعضهم أن الخطأ ربما حدث بالتوهم أن الأرض تتبع للجيش، فهي فعلاً تجاور سلاح الذخيرة الذي طارت منه شظايا وأصابت أشخاص أبرياء في أم درمان وقتلتهم في فترة سابقة، فلماذا لا ينزع سلاح الذخيرة ويملك للصندوق بدلاً من البركس التي تحتاجها الجامعة لرسالتها النبيلة؟ وما المبرر لاختبار الذخائر في وسط العاصمة وما المبرر أن تتمدد ممتلكات الجيش من الأراضي في جميع أنحاء العاصمة دون أن يمسها أحد بسوء، بينما تظل ممتلكات جامعة الخرطوم نهباً (للغاشي والماشي)....
أخي الرئيس أتابع أحاديثك بدقة شديدة في كل المناسبات العامة؛ وأحرص على كتابة نقاط منها أثناء الحديث وأبدأ في تحليلها مباشرة بعد انتهاء الخطاب؛ وأغوص في مدلولاتها وآثارها على السامعين في القرية الكونية جمعاء وليس على الحشد الجماهيري الماثل أمام المنصة، وأجد نفسي في مرات كثيرة محتاراً كيف أفلتت بعض تلك العبارات من الرئيس، ولماذا لم يؤطر حديثه في نقاط محددة بواسطة الخبراء وطوابير المستشارين إذا لم يكن الخطاب مكتوباً بتفاصيل دقيقة وهذا هو الأوجب، وقد سمعت حديثك عن الشريعة في القضارق وبدأت أكتب هذه الأيام مقالاً بعنوان (تطبيق الشريعة الإسلامية: واقع الحال ما بين أرض البعثة النبوية والقرية الكونية)، أطرح في هذا المقال أفكاراً جديدة لإعادة النظر لفهم السعي لتطبيق الشريعة والدعوة للإسلام التي هي من أوجب الواجبات علينا بعد رحيل الرسول الى الرفيق الأعلى وانقطاع الوحي، ولابد من استيعاب الواقع اليوم بكل تعقيداته السياسية والاجتماعية والتقنية، فالعالم اليوم يمثل قرية صغيرة أو (حوش واحد) لأسرة واحدة من حيث إمكانات التواصل بين أطرافه؛ وهو بذلك أصغر من أحياء مكة التي كانت تحيط بالكعبة المشرفة أيام البعثة المحمدية والتي قضى رسول الله فيها ثلاثة عشر عاماً مبشراً ونذيراً ويطوف بالكعبة وبها ثلاثمائة وستين صنماً دون أن يقدم على كسرها، لأن في مكة أبا جهل وأبا لهب وأمية والوليد وشيبة وأعوانهم وحلفاؤهم......وهؤلاء جميعاً يسكنون معنا اليوم في الحوش الكوني الصغير أو القرية الصغيرة إن شئت، حيث يوجد أبو جهل في بيت أبيض في غربها ويوجد أبا لهب في بيت أحمر في شمالها ويوجد الوليد في بيت أزرق في وسطها ويوجد أمية في بيت أصفر في شرقها......هكذا يجب أن تكون نظرتنا لعالم اليوم وهكذا يجب أن يكون تعاملنا مع أمر الشرع دعوة بالحسنى وحديثاً عن بضاعة سمحة نسوقها داخل القرية الكونية بالتي هي أحسن ونتعايش مع الآخر القريب بفعل التقنيات الحديثة والبعيد جغرافيا منا ولكنه بيننا في واقع الحال الآن، فكل ما يقال يسمع ويرى وكل ما يفعل مراقب داخل الحوش الكوني؛ وهذه فرصة نادرة لنسوق ونبيع مبادئ الإسلام السمحة والتي تحتاجها البشرية اليوم أكثر من أي وقت مضى بالحسنى وبأساليب مغايرة للنهج التعسفي الذي نراه عند بعض الدعاة، ولابد أن نرفع شعار لا إكراه في الدين وأن نعمل على تمتين الفهم الصحيح للدين بما يواكب العصر، وأن نجسد الأنموذج في القيم والمثل والعدالة ووقف المحسوبية والرشوة والتصنيف الجائر للعباد، ويكون كل ذلك في أولوياتنا قبل الحديث عن اللحية والجلباب والنساء....
رغم أهمية ذلك كله....إن الرئيس بوش وتوني بلير عندما قررا غزو العراق عرضا على شعوبهما نماذج من الظلم الذي أصاب الشعب العراقي من صدام في ظل غياب الحريات وعرضا عليهما نماذج من الديمقراطية والتنمية والاستقرار الذي ينعم به بنو عمومتهم من اليهود في دولة إسرائيل داخل فلسطين المحتلة... واستطاعا أن يقنعا المؤسسات الرسمية في أمريكا وبريطانيا ويسكتا غالبية شعوبهما عن معارضة الغزو، وقالا إنهما يريدان إنقاذ الشعب العراقي من الدكتاتورية والبطش، وقالا أيضاً إنهما يريدان حماية اسرائيل وتحقيق الارادة الإلهية والوعد الذي يؤمنان به، فلم تكن الحرب على العراق حرب مصالح اقتصادية أو أمنية فحسب؛ ولكن كانت حرب دينية تم التمهيد لها وتغطيتها بدون شعارات وهتافات جوفاء، فماذا فعلنا نحن لنصرة الاسلام في السودان واقامة دولة الشريعة السمحاء رغم الفرصة التي أتيحت لنا خلال عقدين من الزمان، وهذا ما سوف أفصل فيه فيما بعد إن شاء الله.......
ولكن باختصار أقول نحن اليوم باسم تطبيق الشريعة أدخلنا الشعب السوداني في شعب أبي طالب وتركناه وحده يكابد الجوع والحصار والضنك، وسكنا نحن القصور وحصلنا على كافة الامتيازات المادية والسلطوية، ولم تنعكس تعاليم الاسلام في سلوكنا وأدائنا..... فأين المثال المحمدي الذي كان يشاطر أتباعه في المعاناة في شعب أبي طالب، ويأكل معهم الجلود والقديد وأوراق الشجر، فالمطلوب خلال المرحلة القادمة من تاريخ السودان الذي ندخل فيه مرحلة جديدة بعد انفصال الجنوب الذي أصبح واقعاً، ضبط الخطاب السياسي وعدم الحماس المفرط بالشعارات الجوفاء التي لا يسندها الواقع ولا السعي الجاد للتغيير المطلوب والذي ذكرت طرفاً منه في رسائلي السابقة، فالبلاد مقبلة على تحديات تقتلع الأخضر واليابس اذا لم نتحلى بالحكمة ونراجع أنفسنا ونبدأ في التغيير فوراً...... أخي الرئيس مدير جامعة الخرطوم بالاضافة الى احتكاكه بالأسرة الجامعية وبمن فيها من خبرات وقدرات أيضاً يلتقي كثيراً من أعضاء السلك الدبلوماسي في المناسبات العامة والخاصة من كل الدول، وكذلك يأتي الى مكتبه أهل العلم وأهل السياسة وأصحاب المصالح الكثيرة المرتبطة بالجامعة وننهل مما عندهم من معلومات خاصة وعامة وهم يعلمون بأن مدير الجامعة الحالي ممن يقرأون ويكتبون ويتواصلون مع أهل الرأي بكافة مذاهبهم، وعندما ندلي بدلونا في الشأن العام تكون لدينا حصيلة كبيرة من المعلومات والحقائق التي تغيب عن المسؤولين الرسميين في الدولة والذين يكون تواصلهم مع الآخرين مرتبطاً بقيود رسمية فيها كثير من التكلف والمجاملة والدبلوماسية والخوف والرجاء وأحياناً التآمر، أما أنا فأحسن الإصغاء للآخرين وأستطيع أن أستدرج محدثي لآخذ منه ما أريد التعرف عليه، فعندي حصيلة وافرة من المعلومات عن الظروف المحيطة بنا وما نستقبله في الأيام القادمة، وان كان لي من نصيحة أخيرة أنقلها إليك فإني أقول لك بأن التآمر على السودان لن ينتهي بانفصال الجنوب وحده، فسوف يتم التصعيد في دارفور والشرق ولن تتوقف القلاقل مع الجنوب وولايات التماس فحسب، فهنالك مؤامرات كبيرة تحاك ضد السودان ولكن أكبر مؤامرة تواجهنا هي من عند أنفسنا، بسبب غياب المؤسسية وغياب النصح وغياب الحريات وعدم قبول الرأي الآخر وتكرار الوجوه التي ملها الشعب وملتها قواعد الحركة والحزب، وكذلك تغلغل الرأسمالية الطفيلية التي تمسك بتلابيب الاقتصاد السوداني وتنهكه بالاستثمارت الهامشية والمشتروات الفاسدة وكذلك سوء التقدير للأمور المستجدة في الشأن السياسي، وتعطيل كثير من مصالح العباد والبلاد بالصرف البذخي باسم المهددات الأمنية التي جاء جلها من سوء تقديرنا للأمور وسوء تصرف البعض منا، فكم يكلفنا الاستعداد الأمني هذه الأيام تحسباً مما وقع في تونس والجنون أصاب السوق وكم تكلفنا الحرب في دارفور وكم يكلفنا تأمين الرئيس والمسؤولين الكبار في الدولة الذين أصبحوا مهدداً للأمن والاستقرار بسبب الاحتقان وغياب النصح وكيد المندسين وسط الصفوف. فعليك أخي الرئيس أن تبادر فوراً قبل اعلان النتيجة النهائية للاستفتاء بحملة تصحيحية واسعة في الدولة والحزب واعلان الانفتاح الواسع على الآخرين في الساحة السياسية في خطوات واضحة على ضوء ما اقترحته عليك في الرسائل السابقة بعد الانتخابات، وكذلك الاعلان الواضح بالتأهب للتجديد والرحيل وافساح المجال لدماء حارة جديدة في قيادة الدولة والحزب تستطيع أن تنافس مع الآخرين في جو معافى من الاحتقان والتعصب في السودان الجديد الذي سيبتر ثلثه بعد أيام قلائل، ولن يخسر أهل الحق أبداً اذا تمسكوا به.
أخي الرئيس ; صدقني أخي الرئيس بأني لم تحدثني نفسي في أي مرحلة من حياتي أن أعمل في أي بلد غير السودان، وقد اتيحت لي الفرصة بعد التخرج من الجامعة مباشرة بقضاء فترة الامتياز بدولة الامارات العربية عام 1980 ومن بعدها السفر الى بريطانيا للتخصص ولكني رفضت، واتيحت لي فرصة الهجرة الى السعودية بعد اكمال الامتياز ولكني رفضت والتحقت بجامعة الخرطوم في وظيفة مساعد تدريس، ويسر الله لي أن ابتعث الى دولة السويد التى غادرتها الى السودان بعد شهر واحد من الحصول على الدكتوراة، وقد كان متاحاً لي أن أبقى هناك وأحصل على الجواز السويدي لي ولأسرتي كما فعل عدد من زملائي ولكني رفضت، وقد كان متاحاً لي أن أتعاقد من السويد وأسافر الى دول الخليج مباشرة كما فعل آخرون ولكني رفضت. الآن والحال وصل الى ما وصل اليه والمشروع الذي كان يشدنا الى البقاء في السودان يكاد يتبخر وحركتنا الاسلامية قتلت تماماً وجردت وسلبت كل موروثاتها وطموحاتها، فلم يبق لي سوى خيارات محدودة جداً: اما أن أواصل في هذا الطريق من المناصحة المفتوحة والدعوة للاصلاح والذي يعتبره بعض القائمين على الأمر مناطحة للصخور، أو أرجع الى طلابي في قاعة الدرس وألتزم الصمت الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأما الخيار الصعب فهو أن أعلن عن نفسي في سوق النخاسة الدولية كما يسميها أحد مشايخنا (الهجرة لطلب الرزق)...وأنادي بالصوت العالي
(من يشتري هذا العبد الرخيص،
المسمى مصطفى إدريس،
بأي ثمن بخيس،
فهو قوي عتريس،
ويجيد فنون التدريس،
وليس من جنود إبليس،
ولكنه لم يقنع بنصائحه الرئيس،
بسبب ما يأتيه من معلومات فيها تدليس،
فوضعت في وجهه المتاريس،
وهذا ما وصل إليه حالنا التعيس،
رب اجعلني للصالحين جليس،
وارزقني من الحلال النفيس،
واكتب لي شهادة تبلغني بها الفراديس،
وأمسي بجودك للحور عريس)..... ..............يتبع