حين صعّد الحزب الجمهوري، مواجهته للاخوان المسلمين، وأذيالهم من جماعات الهوس الديني، عقب ثورة أكتوبر، عندما تآمروا على الحزب الشيوعي السوداني، وطردوا نوابه المنتخبين من دوائر الخريجيين، من الجمعية التأسيسية، وأقام سلسلة محاضرات تحت عنوان ” أسبوع مناهضة حل الحزب الشيوعي”، وكشف زيف شعارات جبهة الميثاق الإسلامي، وتزويرها للديمقراطية، شعر الاخوان المسلمون بخطورة الجمهوريين عليهم، فكان التآمر الأول بعقد محاكمة للأستاذ محمود محمد طه في عام 1968م. ولقد تولت عنهم جريرة ذلك الفعل المشين، محكمة شرعية، خرجت من دائرة اختصاصها، المنصوص عليها في قانون تأسيس المحاكم الشرعية، وهي الأحوال الشخصية، المتعلقة بالزواج، والطلاق، والنفقة … ألخ، وحكمت على الاستاذ محمود محمد طه بالردّة عن الإسلام، وتطليق زوجته المسلمة منه، ومصادرة كتبه، وطرد الموظفين من اتباعه، ومطاردة غير الموظفين !! ولكنها لم تستطع ان تنفذ شئ مما حكمت به، مما جعل حكمها حبراً على ورق !! ولقد واجه الأستاذ محمود القضاة الشرعيين، في سلسلة محاضرات ” بيننا وبين محكمة الردّة ” بصورة فضحت التآمر، وكافة اضلاعه من الاخوان المسلمين، والفقهاء وزعماء الاحزاب الطائفية. ولو كان الاخوان المسلمون، والقضاة الشرعيون، والفقهاء، يستطيعون هزيمة الجمهوريين، في ميدان الحوار، لما احتاجوا لتلك المؤامرة، التي استهدفت التخلص من الجمهوريين بدلاً من التخلص من فكرهم.
أما التآمر الثاني، فقد حدث حين أعلن الرئيس المخلوع جعفر نميري، قوانين سبتمبر83 الشوهاء، وسماها قوانين الشريعة الإسلامية .. ولم ينل الشعب منها على يديه، إلا السيف والسوط !! فإعترض عليها الجمهوريون. فبعد اعتقال دام عام ونصف، أطلق نميري سراح الأستاذ محمود والجمهوريين، بصورة فجائية، مريبة، مما يشير الى مؤامرة، تريد تحويلهم من معتقلين سياسيين، الى مجرمين جنائياً، ليحاكموا بنفس القوانين، التي اعترضوا عليها .. وذلك لأنهم شكلوا معارضة قوية، حيث رفعوا قضية دستورية ضد قوانين سبتمبر83، وقضية جنائية ضد رئيس جهاز الأمن ونائب رئيس الجمهورية، وأصدروا كتاباً، ومنشوراً، يكشفان مفارقات تلك القوانين للإسلام ولحقوق الإنسان. ولقد أحكمت عناصر التآمر، إذ دبر القصر المؤامرة، ووجه ديوان النائب العام الاتهام، واصدر القضاء الحكم المبيت. ولأن الله اراد ان يفضح التآمر، على اغتيال الاستاذ محمود، فقد عثر الجمهوريون على خطاب بخط نميري، وقاموا بنشر صورته في كتيبهم “الوثائق تكشف التآمر الجنائي” جاء فيه : ( الأخ عوض، النيّل ، والأخت بدرية سلام عليكم آخر هوس الجمهوريين هذا المكتوب الذي أرى بين سطوره ” الردة بعينها” ارجو الاطلاع ومعكم بابكر سأجتمع بكم للتشاور في الأمر إنشاء الله بعد ان تكونوا على استعداد. أخوكم في الله جعفر محمد نميري 8 جمادى الأولى سنة 1304 )
ولقد علق الجمهوريون على هذه الوثيقة في الكتيب بقولهم ( ومع تجاوزنا للخطأ اللغوي في عبارة ” إنشاء الله” حيث الصحيح ان تكتب هكذا ” إن شاء الله” وللخطأ في التاريخ الهجري حيث الصحيح ان يكتب ” 1404ه” مما يدل على جهل خليفة المسلمين المزعوم، يمكن ان نثبت توافر التآمر الجنائي لاغتيال الاستاذ محمود محمد طه، وذلك بما يلي: هذه الوثيقة مكتوبة بعد حوالي خمسة شهور من اعلان قوانين سبتمبر 1983م الموافق لذي الحجة 1403ه وقد كان الاستاذ محمود حينئذ معتقلاً، لموقف المعارضة الذي يقفه ضد نظام مايو، وقد تمثل هذا الموقف : في مطالبته بالمنابر الحرة، ومعارضته لبنك فيصل، ولاتفاقية التكامل، ثم اتهامه لرئيس جهاز أمن الدولة والنائب الأول لرئيس الجمهورية بالتفريط في وحدة البلاد بإثارة الهوس الديني … فالاستاذ محمود ليس من الممكن ان يصمت عن معارضة اتجاه نميري، ونميري ما فرض تلك القوانين إلا لإرهاب الشعب وتصفية المعارضة، ولهذا أخذ يلوح بردّة الأستاذ محمود في احاديثه المختلفة توطئة لارتكاب جريمته … )(المصدر السابق). وكان لابد من واضعي قوانين سبتمبر الذين وجه اليهم نميري خطابه، ان يجدوا طريقة ليحققوا رغبته، ويلفقوا حكماً بالردّة على الجمهوريين ..
فحين أطلق سراح الجمهوريين في 19 ديسمبر 1984م قاموا باصدار منشور “هذا أو الطوفان” في 25 ديسمبر 1984م، نصحوا فيه النظام بالغاء قوانين سبتمبر 83، لأنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام، ولأنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب، ولأنها هددت وحدة البلاد .. فظهر التآمر في وثيقة ثانية، صورها الجمهوريون أيضاً، ونشروا في نفس كتيبهم المشار اليه، جاء فيها ( الأخ الرئيس القائد-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته المنشور المرفق وزعه الجمهوريون وقد قبض ستة منهم وتم التحقيق معهم وسوف يقدمون للمحاكم. وبهذا فقد اتاحوا لنا فرصة تاريخية لمحاكمتهم. وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون.. ولا شك انها بداية لمسيرة ظافرة بإذن الله يتساقط دون هدفها كل مندس باسم الدين وكل خوان كفور. ولله الامر من قبل ومن بعد. وفقكم الله لقيادة المسيرة الظافرة واقام نهج الله على آثار المصطفى صلى اله عليه وسلم واصحابه ومن سار بسيرهم ومنهجهم انه سميع مجيب الدعاء النيّل عبد القادر ابو قرون 6 ربيع ثان 1405ه)
ولقد رد نميري بتعليق على نفس الخطاب جاء فيه ( الحمد لله ولصفيه ورسوله رسول الله والله أكبر على المنافقين)(المصدر السابق). والتآمر في هذه الوثيقة لا يخفى على أحد، وإلا فمن يقصد النيّل بقوله مخاطباً نميري (اتاحوا لنا )؟؟ فهل يقصد القصر أم القضاء أم الجماعات الإسلامية المختلفة، التي كانت تضمها الجبهة الاسلامية القومية ؟! لقد بطش نميري بالجمهوريين، أكثر من بقية المعارضة، لأنه يعلم انهم مسالمين، وأنهم لا يمارسون ولا يؤيدون العنف والاغتيالات .. فتم أغتيال الاستاذ محمود، وهو شيخ فوق السبعين، في تجاوز تام لكل القوانين، وكل الأعراف، وكل القيم الإنسانية .. وما علم نميري، وبطانته من المطبلين الجهلاء، أن تلك هي الخطيئة، التي ستحقق زواله، بعد حوالي سبعين يوماً، من تنفيذ الحكم على الأستاذ !!
والآن !! فإن نظام الأخوان المسلمين، يتهاوى تحت ضربات الفساد، والشعب السوداني يسحق بالافقار المنظم، والتجويع، والحروب المشتعلة في اطرافه، والسلطة السياسية فقدت زخمها الداخلي، وأي تعاون خارجي، وهي متهمة بالجرائم ، ورأسها مطارد من المحكمة الجنائية الدولية.. وهو في آخر مراحل انحطاطه، وترنحه للسقوط، طرح النظام الحوار، كطوق نجاة ينقذ به نفسه، وأدعى انه يسعى للديمقراطية، وسمح للأحزاب بإقامة ندوات سياسية، تنقد سياساته في الميادين العامة، وجلس للتفاوض مع الحركة الشعبية شمال، التي ترفع في وجهه السلاح !!
في هذا الجو، الذي تعمل فيه كل الأحزاب، تقدمت مجموعة من الجمهوريين، بطلب لمجلس الأحزاب، للتصديق لهم بإعادة قيام الحزب الجمهوري، وهو أقدم الأحزاب السياسية على الإطلاق، إذ إنشئ في أكتوبر 1945م. فأوعزت حكومة الأخوان المسلمين، الى بعض اتباعها، وبعض الاشياخ، والجمعيات الدينية، أن تقدم طعوناً ضد قيام الحزب الجمهوري!! وكانت الطعون التي قدمت مكررة، ولو كانت اللجنة عادلة، لاعتبرتها طعناً واحداً .. وقد قامت كل الطعون، على المطالبة بعدم التصديق على قيام الحزب الجمهوري، لأنه قد تم حكم بالردّة، ونفذ على الأستاذ محمود، باعتبار ان افكاره مفارقة للإسلام. ولقد رد الجمهوريون الذين قدموا الطلب، بأن الحكم على الاستاذ محمود قد تم إعلان بطلانه، بقرار صادر من محكمة الإستئناف العليا، صدر عام 1986م. وقد اثبت ذلك القرار بطلان حكم محكمة المكاشفي عام 1985م، كما اثبت بطلان حكم المحكمة الشرعية التي حكمت بالرّدة عام 1968م .. وارفقوا مع ردهم المستندات التي تؤكد صحة ما ذكروا. وأوضحوا كيف انه ليس هناك مسوغ قانوني، يمنع الجمهوريين من اقامة الحزب الجمهوري.
ولقد كان دفعهم واضحاً، ومؤيداً بالمستندات، مما دعا المسجل للتأخير في الرد عليهم، وكأنه كان ينتظر التوجيه من جهات عليا، ولما جاءه، اصدر قراره بتاريخ 1/5م2014م، ومما جاء فيه ( بالنظر الى ما جاء بالطعون المذكورة ومذكرات الرد والمستندات المرفقة معها وذلك في ضوء الاحكام والشروط القانونية اللازمة لتسجيل الحزب السياسي وفق قانون الاحزاب السياسية لسنة 2007م ولائحة تسجيل الاحزاب السياسية تعديل لسنة 2012م رأى مجلس شؤون الاحزاب السياسية بان ما جاء في الوثائق المقدمة مع طلب تسجيل الحزب الجمهوري تخالف احكام المادة 5/1 من الدستور القومي الانتقالي لسنة 2005م والمادة 14 ط من قانون الاحزاب السياسية لسنة 2007م حيث ان مبادئ الحزب تتعارض مع العقيدة الإسلامية والسلام الإجتماعي والأسس الديمقراطية لممارسة النشاط السياسي إذ أنه يقوم على اساس طائفي ومذهبي. عليه ولما تقدم واستناداً لنص المادة 10/1/أ من قانون الاحزاب السياسية لسنة 2007م والمادة 12/3 من لائحة تسجيل الأحزاب السياسية وبعد التداول قرر المجلس:
1-رفض طلب تسجيل الحزب الجمهوري)(الراكوبة 6/5م2014م)
أول المفارقات، في هذا القرار العجيب، الذي يعتبر وثيقة عار على من اتخذوه، أنه مزور للحقائق!! فالمادة 5/1 من الدستور الانتقالي، التي يزعم انه اعتمد عليها، لا تخاطب المواطن، وإنما تخاطب وتوجه المجلس التشريعي، ونصها هو (تكون الشريعة الإسلامية والاجماع مصدرا التشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان). ولو كان هذا النص يمنع قيام الاحزاب، التي لا تتفق في طرحها مع الشريعة الإسلامية، لمنع قيام الحزب الشيوعي، ولمنع قيام تنظيم الحركة الشعبية، التي كان زعيمها نائباً لرئيس الجمهورية، تحت ظل نفس هذا الدستور !! أما المادة الواردة في قانون الأحزاب السياسية، فلو كانت تمنع الأحزاب الطائفية، لمنعت تسجيل جزب الأمة، والحزب الإتحادي الديمقراطي، اللذان يستندان على طائفة الختمية وطائفة الانصار.
ثم ان القرار يحدد أنه منع الحزب الجمهوري، من باب المحافظة على السلام الإجتماعي !! فأي حزب، في السودان، يحافظ على السلام، ويمارسه، أكثر من الجمهوريين ؟! ولماذا لم يرفض مسجل الأحزاب حزب المؤتمر الوطني، الذي اعلن رئيسه على رؤوس الأشهاد، ان اياديهم ملطخة بدماء اهل دارفور ؟! أوليس الحزب الحاكم، وهو المسؤول عن القصف المركز بالطائرات على المدنيين العزل في جبال النوبة، وفي النيل الازرق ؟! لقد أعلنت الحكومة ان الذين قتلوا في دارفور 10 الف، مع أنهم أكثر من 250 ألف، ولكن هل قتل 10 ألف مواطن، ليس كافياً ليجعل حزب الحكومة مهدد للسلام الاجتماعي في السودان، ومن ثم يحرمه من التسجيل كحزب سياسي؟!
ثم هل من حق مجلس شؤون الاحزاب السياسية، أن يقرر في صحة أفكار أو معتقدات أي حزب؟! وهل يصح لمجموعة حزبية، أو دينية، أن تطعن في قيام أي حزب، بناء على اختلافها معه في فكره، أو اعتقاده ؟؟ إن حزب الترابي مثلاً، يرى ان حزب البشير فاسد، ومفارق لاخلاق الإسلام، ولجوهره، وقد أعلن ذلك مراراً .. وحزب البشير يرى ان الترابي خارج على الحق، ومفارق للفهم السليم للاسلام، الذي عليه المؤتمر الوطني .. ولكن ليس لأي منهما الحق في الطعن بهذا الرأي، ليمنع قيام الحزب الآخر. وهذا ينطبق على سائر الاحزاب، وإلا لأصبحت حزباً واحداً . والخلاف وصحة المبادئ من خطلها، يفترض ان توضحه المنابر الحرة، التي تتصارع فيها هذه الاحزاب، أمام الشعب، ليحكم باختيار الحزب الافضل .. وليس الحكم على صحة الافكار، هو المجموعة التي تمثل مجلس شؤون الاحزاب السياسية.
ولولا أن الله اراد فضح الأخوان المسلمين، وكشف تآمرهم مرة اخرى، لكان يمكن ان يكون مجلس شؤون الأحزاب أكثر ذكاء، فيقرر عدم قيام الحزب الجمهوري، بناء على اسباب تقع ضمن صلاحياته .. كأن يقول أن اسماء العضوية المرفقة ليست مسجلة بصورة صحيحة، أو ان هناك خطأ في بعض الاسماء، أو أن يفتعل أي شئ إجرائي، ثم يرفض تسجيل الحزب. ولكن قدر الله كشف باطلهم، وكشف تآمر الجماعات الإسلامية المهووسة، التي أجهدت نفسها لتمنع نشاط الجمهوريين، ولكنها صمتت صمت القبور، عن كل ما ظهر من فساد الحكومة، ومتاجرة رموزها بالمخدرات، وتوريدهم النفايات الضارة بصحة المواطنين، ونهبهم لملايين المليارات، بل صمت مدعي الإسلام، عن تقتيل الطلاب العزل في شوارع الخرطوم، بدم بارد، في مظاهرات سبتمبر، وقنل الآلاف في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الازرق، وحرق القرى بواسطة قوات الدعم السريع، واغتصاب النساء، والاعتداءات الجنسية على الاطفال ..ألخ ولم يعترضوا على كل هذا الباطل، ولم ينزعجوا له، فهل انزعجوا لقيام الحزب الجمهوري، لأنهم يخافون على دينهم، أم على دنياهم ؟!
إن قرار منع قيام الحزب الجمهوري، مناسبة جديرة بالوقوف عندها، من كل مواطن كريم، وكل مثقف حر، حادب على قيم الديمقراطية، وكرامة الإنسان، ومصلحة الوطن. وهي محك تقاس به قامات الرجال والنساء .. فإما أن يرفضوا منع نشاط الجمهوريين، ويتعاونوا معهم على مقاومة هذا القرار الجائر، من منطلق الدفاع عن الحريات العامة، والديمقراطية، أو يعجزوا عن ذلك، ويصمتوا عنه، فيخلع الله عليهم ثوب الذل والهوان، ويسلط عليهم الاخوان المسلمين أكثر من ذي قبل، ثم لا يضر المنع الجمهوريين شيئاً !! فالجمهوريون ليسوا طلاب سلطة، وانما دعاة توعية، وسيتخذون من هذا الموقف التآمري، فرصة للمزيد من التوعية للشعب، ونشاطهم لن يقف لعدم قيام الحزب، والمؤامرة مهما كانت كثرة حشودها، ومبلغ المكر فيها، لن تقضي على الفكرة الجمهورية، بل لن تزيدها إلا ظهوراً ومضاء، أقرءوا ان شئتم، مرة أخرى ( فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) له الحمد وله المجد