محمود.. أرَقُ المهوُوسِين*
«... أيّتها الكلاب الجليلة.. رحماك!!، فلقد نلتُ قبل قليلٍ حصةً من النباح تكفي إلى نهاية العمر».
المكان: نادي الأهلي الرياضي الاجتماعي الثقافي بالحَصَاحِيصَا.
الزمان:27 رمضان 1991م.
عندما حاول صُنّاع القبح الإسلاموي، المنظّم بآيديولوجية وحيد القرن، طَمْسَ إرث النشاط الثقافي، في تنافُسه الصحّي والشريف، بالتغوُّل على مكتسبات دُور العمل الأهلي الثقافي الإبداعي بمدينة الحَصَاحِيصَا،
وبإحلال بيت الثقافة كبديل وحيد لها، وخاصة رابطة الآداب والفنون، كأنشط جسد يضمّ أشكال الفنون الإبداعية كافةً، وجدَت خطوتهم معارضةً فاعلةً ضد مشروعهم لسرقة كل ما يُجمّل الحياة بالمدينة والوطن.
مع مجموعة كبيرة من الحادبين على أمر العمل الثقافي بالمدينة توحَّدنا حول هدف واحد، وهو أن تبقى مكتسبات المؤسَّسات الأهلية وممتلكاتها ملكاً لأهلها، وضدّ أن يستحوذ بيت الثقافة على قطعة الأرض
المصدَّقة لرابطة الآداب والفنون. إن أرادت الدولة الإسلاموية، بمالها المنهوب من ثروات الشعب، أن تبني وتؤسِّس ما يخصُّها من منظّمات، عليها تأسيسها بعيداً عن دُور هذه المؤسسات التي عَمُرَت بعَرق الجهد
الذاتي لكل أهل الحَصَاحِيصَا ومبدعيها. وأعلنّا بشكل واضح عن عدم مشاركتنا في أي أنشطة يقيمها بيت الثقافة بالمدينة. وبدا أثر تلك المقاطعة فاعلاً عندما لم تحقِّق كل أنشطة بيت الثقافة ما كانت تلك الطغمة
ترجوه منها. عانت أنشطتهم من البوار لفقر خيالها الإبداعي، ولبُعدها عن هموم الناس، وتركيزها على تجييش الشعب السوداني.
لكن هؤلاء القوم الذين قَرصَنوا الوطنَ بلَيلٍ، يمتلكون ثعلبية ودهاء كبيرهم الذي علَّمهم السحر حتى انقلب عليه. تفتَّقت عبقريتهم الماكرة في الاستفادة من إرث النشاط الثقافي الحيوي للمدينة في شهر رمضان من
كل عام. أكثر من ذلك؛ دُعيتُ وصديقي الشاعر الكبير أزهري محمد علي، تحت اسم رابطة الآداب والفنون، التي نكنّ لها كل تقديرٍ واحترام، ونشارك في أنشطتها من حينٍ إلى آخر، وعلى مسرح النادي الأهلي؛
شيخ أندية الحَصَاحِيصَا، الذي لا يمكن بأيّ حالٍ رفضُ دعوةٍ تأتي من لدنّه.
رافقتُ أزهري محمد علي إلى مكان الاحتفالية، لَطَمتنا فور وصولنا لافتة كبيرة الحجم، تحتها أسماؤنا مع بقية المبدعين المشاركين، وتتصدَّرها ديباجة بيت الثقافة كجهة منظِّمة، وإمعاناً في المخاتلة واللؤم أُعلن،
لحظة وصولنا، عن ضيف شرف الأمسية، وهو محافظ محافظة الحَصَاحِيصَا «مبارك الكودة» العائد من الأراضي المقدّسة بعد أداء عُمرة رمضان.
سريعاً، أزهري وأنا، حسمنا أمرَنا؛ بأنْ سوف نقرأ أشعارنا فقط تكريماً للحضور الذين اكتشفْنَا من معظمهم أنهم تلقّوا الدعوات أيضاً تحت اسم رابطة الآداب والفنون.
صعدتُ إلى المنصة، وبعد تحية شهداء الوطن في الديمقراطية والسيادة الوطنية، وخاصة شهداء انتفاضة 6 أبريل التي كانت تحلّ ذكراها في تلك الأيام، أعلنتُ بأنني لن أقرأ في هذا اليوم غير أشعاري التي كُتبت
للشهداء، وكان الأول نصاً بعنوان «لوحة» مهداة إلى شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، النص الثاني بعنوان «نجمة الجنوب تقودُ إلى كل الاتجاهات»، مهداة إلى الشهيد د.علي فضل، الذي لم يجفّ دمُه بعد،
وتَبعني أزهري في تحية الشهداء وذكرى أبريل وقراءات نصوص للشهداء أيضاً.
كان التصفيق يهزّ أرجاء المدينة الصغيرة بعد كل قراءة. طلب الكودة من مدير الليلة فرصة للحديث، صعد الرجل بهدوء كظيم تُبرزه تلك الحركة العصبية على فكيه، وفضَحه اصطكاك أسنانه عندما حاول الابتسام
قبل بداية حديثه. تمالَكَ نفسه سريعاً، وتحدَّث بهدوء مفتعل عن العَشر الأواخر من رمضان، وكيف كان السلف الصالح يقيمها، عن فضل ليلة 27 رمضان، وعن فضل ليلة القدر، وتحدَّث عن طُرق مختلفة للعبادة
وإقامة الليل تقرُّباً للخالق، قال منها يمكن أن نتقرَّب إلى الله مثلما نفعل الليلة، من خلال الغناء والشعر، وجميع الفنون، فجأةً ثار الرجل مثل بركان محبوس منذ آلاف السنين، وصرخ بأعلى صوته، في نوبةٍ من
الهياج تفضح الأسس التي بُنِي عليها المشروع الحضاري الإسلاموي لإذلال الشعب السوداني:
- لكن لن نسمح بتدنيس هذه الليلة المباركة بتمجيد الهالك محمود محمد طه، ولن نسمح بأن تُستغَلّ منابرنا من قِبل الشيوعيين، والبعثيين، نحن الله زرَعنا في البلد دي، وغيروا ما في زول بقلعنا.
ثم صار يهذي مثل مصاب بالملاريا، ويَرْدَح مثل مَثكول:
- شيوعي تاني ما بِجي، بعثي تاني ما بِجي، أمه تاني ما بِجي، اتحادي تاني ما بِجي، والجمهوريين ديل قطعنا راس الحيّة زمان، ومحمود الهالك شبع موت، منو الداير يبعثوا لينا تاني كمان.
ثم رمى بالمايك مفتوحاً فوق الطاولة الحديدية، فصار يصدر صفيراً عاليا يُصِمّ الآذان.
بارتباكٍ أعلن مدير الأمسية عن الفقرة التالية، همَس أزهري في أذني بأنه سوف يذهب لأن لديه ضيوف بالبيت، وخرج مباشرةً بعد أن انتهى أحد الشعراء من قراءة نصّه الأول.
أحسستُ بأن هناك مَن يحاول أن يهمس في أذني بفحيح أعمى، ولا يريد أن يسمعه مَن هم حولي، قائلاً:
- يا عفيف عايزنّك.
التفتُّ نحوه، وحدّقتُ مباشرةً في عينيه، وبين وجهينا مسافة أقلّ من شِبر هو يردِّد:
- عايزنّك قوم يلاّ معاي.
تجاهلتُهُ، التفتُّ جهة المسرح، فجاء حانقاً وجلس في المقعد الذي كان يشغله أزهري:
- عايزنّك.. معاك "أمْن".
قلتُ له بصوتٍ عالٍ كي يسمعه كلّ من حولي:
- عندك ما يثبت إنك "أمْن"؟.
ارتبك قليلاً، ثم أخرج من جيبه بطاقة وأخفى بعض معلوماتها بأصابعه وضعها على فخذ رجله اليسرى. بنفس الصوت المسموع لمن حولي كي يدركوا حقيقته:
- إنتَ خجلتَ من أنها بطاقة أمْن ولا شنو خاتِّيها بعيد كدا، ارفعها فوق في الضّو دا عشَان اشوفها، ولا قايل النظّارات دي أنا لابسها زينة ساي، قرِّب البطاقة شوية، ما قادر اشوفها.
ارتبَك مرة أخرى من صوتي الذي صار يلفت بعض جمهور الأمسية، ولم ينتبه هذه المرة أن يغطّي بقية المعلومات التي أراد أن يُخفيها في المرة الأولى، فحفظَت ذاكرتي تلك التفاصيل، لتشكِّل أول بلاغ حزبي
عن أحد كوادر الأمن الجدد بالمدينة الذي كشف نفسه في تلك الليلة.
- يا أخي ما مكن تصبر شوية لحدِّ ما الليلة تنتهي؟.
- لا.. عايزنّك هَسَّع.
وتم اعتقالي من وسط جمهور الأمسية الرمضانية، وطار الخبر بين جهات المدينة الصغيرة سريعاً. تحرَّكتُ معه لأجد قوة كاملة العتاد تقف خارج النادي، وأخذتني إلى مكاتب الأمن بالمدينة.
تزامَن وصولنا مع عربة الكودة الفارهة. ارتبك أفراد الأمن الجالسين في باحة المكتب في مقدّمتهم أحد مؤسِّسي وحدة الأمن بالمدينة، وهو حسن العوض من قرية «دَلَّوَت البحر»، وقفوا جميعاً لتحية الكودة الذي
لم يبادرهم بالسلام بل قال بلهجةٍ آمرة:
- خَلُّوا لي شاعر الشيوعيين دا الليله عشان أدِّبوا ليكم.
لدهشتي وجدتُ في أحد المكاتب صديقي الشاعر أزهري محمد علي، الذي حسبته يستمتع الآن بعشاءٍ رمضانيّ بين أسرته وضيوفه. كان يُحقِّق معه أحد أبناء المدينة العاملين في جهاز الأمن اللاوطني، وهو عز
الدين الصُّول، ومعه آخر. فور دخول الكودة، وقَفَا معاً في لحظة واحدة، كمن يؤدِّي تحية عسكرية، بينما اتَّسعَت ابتسامة أزهري، وهو جالس ينظر إلى ارتباكهما. وحاول عز الدين الصُّول، الذي تربطني به
ملاعب صبا وجيرة في الحي عندما قَدِمَت أسرته من ود مدني لتستوطن بالحَصَاحِيصَا، الخروج من الغرفة، فأمرَهُ الكودة بالبقاء، وأن يُحضِر ورقة وقلم، وأمر الآخر بأن يأخذ أزهري محمد على إلى غرفة
أخرى.
ما زالت نوبة الهياج تكسو وجه الكودة، عروق رقبته تكاد أن تنفجر، وتشنَّجَت كلُّ ملامحه حتى خِلْتُ أنني أرى وجهه قادماً للتوّ من الموت، وقال:
- اكتبْ أيّ كلمة يقولا الزول دا. اسمك منو؟.
- عفيف.
وابتسَمَ تلك الابتسامة الثّعلَبْشَيطانيّة أو الشَّيطثَعلَبيّة الصفراء التي درَّبهم عليها شيخهم الكبير، ثم أردَف:
- عفيف حاف كدا؟، ولا ما عندك أبُو؟.
لم أستجب لاستفزازه، وأجبتُ بهدوء:
- عفيف إسماعيل.
وصار يهذي ويبصق في فضاء الغرفة من بذاءاته النتنة، والتجريح، وساقط القول، والإسفاف ما يعفّ عنها القلم واللسان، والتي تفضح وجهه الحقيقي، ثم اختتمها بقوله:
- ها.. عفيف!!، العفة وِين تلقَاها بلسانك الزفر دا البمَجِّد الهالك محمود، محمود مات وشبع موت، تاني جايب سيرتو ليه؟، الناس نسوه زمان، إنتَ قايل نفسك بتعبِّي في الناس ضدنا؟، يَمينْ زَيْ شُغلك دا أنا
اشتغلوا زمان، وعارف بعملوه كيف.
يضحك بعصبية، ثم يواصل:
- ها.. كادر دعائي قال، وبعبِّي في الجماهير!.
وقف فجأةً وصار يقلِّد قراءتي:
وأرسم وجهاً لرجلٍ قال: لا
سجنوه قال: لا
عذّبوه: قال لا
- وِينُم الناس الدّايرُم يقولوا «لا» وراك ديل؟، نَفَخَك تصفيقهم وعامل فيها بطل، والله الليلة ما يفِكَّك مني إلا الجِن اللَحَمر، ولاّ أقول ليك؟، أنا هَسَّع بعربتي الجديدة دي في ساعة بس ممكن أسوقك اوَدِّيك
الخرطوم، يمين الجِن اللَحَمر ذاتو ما يعرف إنتَ وين، وتلحق محمود الشّاقِّي حِسَّك وداير ترفعه لمصاف النبوة كمان، كَدِي اقرأ لي الحتة بتاعة النبوة دي.
- الدفتر الكُنتَ بقرأ منه صادروه ناس أمْنَك ديل.
- هو كانْ شِعر فيه فائدة كانْ حفظته، شِعر مسيخ بلا طعم، ولا وزن ولا قافية، رجل قال: لا، عذّبوه قال: لا، الليلة ح نورِّيك العذاب لحدِّ ما تقول يا ريت لو ما اتولَدتَ من أصله، كَدِي وَرِّيني الكلام الفارغ دا
كتبته مخصوص عشان تحرِّض بيه الناس الليلة؟.
- لا.. النَّص دا مكتوب من سنة 85.
- هيي.. هيي ما تتفلسف عليّ، إنتَ قايل نفسك لسَّه في الندوة؟، نَص وبتاع، دا كلام أيّ زول من الشارع بيقولُه. قال رجل قال: لا، ومن سنة 85 مكتوب، طيب لزومُه شنو تقراهُ الليلة بالذات، كَدِي أشرح لي
تقصد شنو بـ"رجل قال: لا".
- أقصد رجل اسمه محمود محمد طه، وقال: لا.
- يا زول إنتَ بصِحَّك، عندك عقل في رأسك دا، وفاهم الكلام البتقول فيه دا؟.
- أيوه.
- وعارف معناه شنو؟.
- أيوه.
- هل إنتَ عارف إنو مفروض هَسَّع تقوم تغتسل وتتوضَّأ وتصلِّي لربك لحدّ الصباح كان يقبل توبتك، تلقاك هَسَّع ما بتعرف معنى غُسل ووضوء وتوبة ذاتو، إنت عمرك كم؟
- 31 سنة.
- متزوِّج؟.
- لا.
- شغّال شنو؟.
- مُصوِّر.
- مُصوِّر بتاع شنو؟.
- مُصوِّر فوتوغرافي.
- عندك أخوان؟.
- أيوة.
- كم أخو؟.
- سبعة.
- عندك أخوات؟.
- أيوة.
- شنو إنتَ شابِكْنِي أيوه أيوه، وتجاوب عليّ بالقطَّارة؟، وينَا فصاحتك الكُنتَ بتسوِّي فيها قدّام الناس دي؟، ولا الشيوعيين مدرِّبِنّك على أنك تجاوب كدا؟، جاوب زي الناس لَما أسألك، عندك كم أخت؟.
- إتنين.
- متزوِّجات؟.
- لا.
- أبوك وأمّك حيـّين؟.
- أيوه.
- كُبار في العمر؟.
- أيوه.
- يعني إنتَ بتساعدهم في المعيشة؟.
- أيوه.
ارتخت ملامحه، وحاول أن يلعب دوراً آخر، وقال برقة مفتعلة:
- هَسَّع كانْ حصل ليك حاجة، لا قدّر الله، غير تعذِّب أبوك وأمك وأخوانك وراك شنو؟، أخير ليك تخلِّيك في تصويرك دا، وبطِّل كلام التحريض الفارغ البتسوِّي فيهو دا. قبل شوية كنتَ عامل فيها بَطَل قدّام
الناس، آهه هَسَّع الناس ديل وين هم؟، ما بَرَاك شايل شيلتك. إنتَ شكلك طيّب وابن ناس، ما تكون أناني وتفكِّر في نفسك، فكِّر في أهلك ديل. إنتَ عارف أنا ذاتي كنتَ فنّان، وبعزف الكمان، وبحبّ الموسيقى
والشعر، لكن لأيِّ حاجَة زَمَنها، عشان كدا ما تضيِّع نفسك سَايْ ورا نزوة شهرة وبطوله فارغة، أخَتَا درب الكفّار ديل، الجمهوريين والشيوعيين، فكِّر في الكلام دا كويّس، أنا ح أجيك تاني بعد شوية.
وأشار لعز الدين الصّول قائلاً:
- وَدِّيهو جوّه وجيب لي الشاعر التاني دا.
جلستُ في تلك الزنزانة وحيداً لمدة ثلاث ساعات. قُرب الفجر استدعاني مدير وحدة الأمن، واستمر التحقيق معي لأكثر من نصف ساعة من البذاءات المتواصلة، تشبه الوجه الآخر لعُملة الكودة الصدئة من صديد
الكلمات الساقطة التي يَنعم بها قاموسهما معاً، ثم أطلّ الكودة فجأة وقال له:
- خَلّيه يمشي، ما دايرين نعمل منو بَطَل.
فأطاع مدير الأمن، بلا تردُّد أمر المحافظ. فالأمن ليس أمن الوطن، بل هو أمن حزب الجبهة القومية الإسلاموية.
خرجتُ ونسمات أول الصباح تُزهر في الأفق، مشبعةً بطمي النيل الأزرق، وتغسل بعضاً من سموم بدني وروحي من بذاءات أصحاب المشروع الإسلاموي الحضاري. حدّقتُ باتجاه النيل الأزرق؛ حيث يقبع
بنطون الحَصَاحِيصَا رفاعة، مثل كائن خرافيّ، ثم حدّقتُ في الأفق، فرأيتُ وجه محمود يتخلَّق بتحوُّلات الألوان الفجريّة في لوحةٍ شفقيةٍ كاملةِ الزهو والابتسام، تسندني في تلك اللحظات العجاف، فدبَّت العافية
والنشاط في بدني وروحي، وصرتُ أسير بخطوات أكثر رشاقةً وانسجاماً.
تجاوزتُ حيّ المَايْقُومَا مُتَّجهاً إلى حيثُ أسكُن بـ حيَ أرْكَوِيت جنوب المدينة. فجأةً، على مشارف الحيّ بدأ كَلبَان في النُّباح، ثمّ تَحَوَّل نباحهما إلى عاصفةٍ من النباح من خلفي، فتمتمتُ سرَّاً بحنُوّ:
- أيّتها الكلاب الجليلة، أعلَم أنكِ تؤدّين واجبَكِ المقدَّس تجاه مَن يقدِّمون إليك الطعام والمأوى، أيتها الكلاب الجليلة.. رحماك!، فلقد نلتُ قبلَ قليلٍ حصةً من النباح تكفي إلى نهاية العمر.
الجمعة 18 يناير 1985م:
أين كُتب نص «لوحة» المُهْدَى إلى روح الشهيد الأستاذ محمود محمد طه؟
بعد أن أكملَت محكمة الطوارئ المهزلة والهزلية مسرحيتَها العابثة، وأصدرَت قرارَ حُكمها بإعدام الأستاذ محمود محمد طه، عَمّ الأسى والحزن كلّ أرجاء مدينة الحَصَاحِيصَا، حين تأكَّد تاريخ التنفيذ، فَرّ الشيوعيون
والديمقراطيون باكراً بحزنهم في صبيحة يوم 18يناير 1985م، إلى خارج المدينة، إلى تلك الغابة الصغيرة الواقعة بين أرْبَجِي والعِيْكُورَة، يعلكون حزنَهم بعيداً؛ ذاك حزنٌ لا يمكن احتماله بين جدران المدينة.
كان الصديق محمد نور الدين في ذاك الوقت يعمل مهندساً بمشروع الجزيرة. أوقَفَ عربته على مقربة من الشجيرات الجافة التي تظلِّلنا، وكان يسَاسِق بين راديو العربة ومجلسنا، وينتظر معجزة ما، وكان يهمس
لي، بين وقتٍ وآخر، بأنه يحسّ بأنه يرى تفاصيل كابوس مزعج يتخلَّق أمامه، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً. كان الأستاذ عبد الرؤوف عمر، بصرامةٍ يضعها قناعاً كي يخفي حزنه، يوزِّع في مهام العمل لذلك
اليوم. واختفَت ضحكة أنيس عبد الرحمن الأنيسة، وارتسمت على جبينه تقطيبة عُبوس. أبحرَت عينا الشاعر محمد رملي إلى ما وراء الأفق، مثل ملاّحٍ تائه. وجلس عاطف إسماعيل بعيداً يمضغ حزنه وحده.
ومبارك محمد الحسن يحاول أن يختبي خلف إطار نظّارته.
وعندما عاد محمد نور الدين، بعينين كالجمر مملوءتين بدمع دامٍ، أدركنا أن محمود قد صعد إلى حيث اختار. بدأ النصّ يتخلَّق في ذهني جملةً جملة، صورةً صورة، وتجمَّعَت، حتى شكَّلَت النص الشعري المعنوَن
(لوحة):
وأرسمُ وَجهاً لرَجُلٍ قال: لا
سَجَنُوه قال: لا
عَذَّبُوه قال: لا
قَايَضُوه أن يَشتري روحَهُ بدَمِه
قال: لا..
أن يبيعَ روحَهُ ليربَح دمَه
قال: لا..
أَوثَقُوهُ: مَشَى
عَصَبُوا عينيهِ: أبْصَر
شَنقوه: انتصَر
وأَكْمَلَ رَسمَ وَجهِ رجلٍ طيِّب يُدْعَى محمود
نَ
بيّاً في وَردةِ التّكوين
أوْحَت له الأرضُ بالعشق: فسَمَا.
عندما حاولتُ تنقيح أشعاري في منتصف التسعينيات والدفع بها إلى الطباعة، تتضاءلت كلّ النصوص الشعرية التي كتبتُها في الثمانينيات، عدا نص «لوحة» المُهْدَى إلى الأستاذ محمود محمد طه، ونصّ آخر،
اصطحبتُهما معي للطباعة، ليَجدَ نص « لوحة» حظّه من النشر في مجموعتي الشعرية الثالثة «مَمَرٌّ إلى رائحةِ الخفاء» الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تحت سلسلة (كتابات جديدة) الشهرية. لقد
تركتُ المجموعة بحوزتهم قبل مغادرتي القاهرة إلى بلاد الكانغرو في عام 2003م، ففاجأني الناشر في عام 2006م بطباعة المجموعة الشعرية، ويزيّن غلافها الخلفي مقتطف من نص «لوحة».
أيضاً فاجأني الصديق الموسيقار ربيع عبد الماجد، في خواتيم العام الماضي، بوضع نصٍّ موسيقيٍّ مُوازٍ للنص الشعري «لوحة» التي لَحّنها وتغنَّى بها، وعندما سَمعتُها أعاد إليَّ لحنُه الجميل وصوتُه المعبِّر كل
تداعيات ليلة النادي الأهلي بالحَصَاحِيصَا في 27 رمضان 1991م، وضيق أفق السُّلطة الحاكمة التي مثّلها محافظها بالمدينة «مبارك الكوده» أعلى سُلطة أمنية لقمع سكانها.
من زنزانة الاعتقال في تلك الليلة كُوِّن منتدى الحَصَاحِيصَا الأدبي، بعضوية كل من الشعراء أزهري محمد علي، ود.طلال دفع الله عبد العزيز، ومعتصم الطاهر، وكنتُ أكمل مُربّعهم، وترافقنا جميعاً في قراءات
شعرية بطول بالبلاد وعرضها، خاصة في الجامعات والمعاهد العليا.
ظَلّ لحن الموسيقار ربيع عبد الماجد يتدفَّق ويتجوَّل بين كثير من الذكرىات، منها كوابيس تلك اللحظة التي اغتيل فيها فادي الشعب السوداني؛ الشهيد الأستاذ محمود محمد طه.
..
وما زال الأستاذ محمود محمد طه أغنيةً للصلابة والجسارة.
وما زالت ابتسامة الأستاذ محمود محمد طه مشرقةً في جنبات روحي باخضرارها المورق، وكل ما حاصرتني الأوجاع والكوابيس تضيء لي عثار الخطى.
وما زال الشهيد الأستاذ محمود طه يتجلَّى بهياً مثل عنقاء تنفُضُ موتَها كل يوم.
وما زال الشهيد الأستاذ محمود طه أرَقاً مالحاً لكلِّ المهوُوسين.
* من كتاب مُسامرة من وراء المحيط، دار النسيم للنشر والتوزيع، القاهرة ٢٠١٣م