برنامجي الأنتخابي...( لو كنت مرشحا )
العودة الي زمن الحليب المجاني..
بقلم..محمد عبد الله برقاوي...
bargawibargawi@yahoo.com
تقول طرفة أحد الظرفاء التي أطلقها في السنوات الأولي لقيام الأنقاذ وانتهاجها اسلوبا اقتصاديا صارما بدعوي التقشف و الاتجاه بكليات امكانات البلاد والعباد الي الآمداد الجهادي في الجنوب وتطبيق المشروع الحضاري الاسلامي في الشمال ..... اذ قال صاحبنا الظريف ...
ان حكم النازية وفي سبيل دعم المجهود الحربي فقد قرر زعيمه هتلر ان يستولي علي بقرة من كل مواطن يملك بقرتين.. أما الزعيم السوفياتي جوزيف استالين فقد قرر ان يأخذ البقرتين لتقوية النظام الشيوعي علي ان توفر الحكومة للمواطن ولاطفاله الحليب مجانا.. ولكن نظام الأنقاذ عندنا فانه يأخذ البقرتين .. ويقوم بحلب المواطن نفسه.. بالطبع كانت الطرفة فكهة وعميقة في ذات الوقت بالقدر الذي يبعث علي التأمل في تبعاتها الاقتصادية و ابعادها السياسية والأجتماعية بعد عقدين من اطلاقها ..وهاهي الانقاذ تضع السلم الذي حملته بالعرض بعد سلسة تجاربها في حكم السودان والتي اوصلتها الي قناعة بان تدعو الاخرين لمشاركتها في وضع ذلك السلم عموديا بغرض الصعود من قاع المبني تدرجا الي سقفه وليس العكس..
ربما أخطأت تلك الجماعة الطريق الصحيح لتنفيذ اجندة كانت تري بعينها الحالمة وقتها انها تستطيع ان ترسمها بسهولة علي ارض الواقع السوداني وتنداح بها بذات السلاسة الي كل العالم مخترقة حدود الجيران علي مختلف مساحاتها متخذة اياها كقناطر يسهل عبورها الي تحقيق ذلك الهدف...اذ هي اتخذت من وسيلة الا نقلاب العسكري سريعة الفعالية في الوصول الي سدة الحكم .. بيد انها ادركت بعد لآي وصراع وانفصام في عروتها ذاتها ان ذلك الوصول السريع للسلطة ماهو الا فخ قد يطول الدوران فيه ..ولا يمكن الخروج من ورطته الا بمد اليد للأخرين..
بالطبع ليس من العدل مهما اختلفنا مع فترة حكم تلك الجماعة فاننا لانستطيع ان نجردها من انجازات ضخمة تحققت وكان لها مردودها الملموس والمتدرج ببطء في حياة الناس وفي الشكل العام للبلد وان كان ذلك قد تأتي بعد دفع اثمان غالية من مقدرات المواطن من حيث خسارة الزمن الطويل والغالي واخفاقات التجريب وجبايات الفساد والعمولات وارساء المشروعات لاصحاب الحظوة غير االمستحقين واسناد ادارتها للمحسوبين دون توفر الكفاءة التي تؤهلهم لذلك التكليف.وتشريد أصحاب الفرص الحقيقية من المناوئين او حتي المشكوك في نواياهم مسبقا بزعم الحرص علي الصالح العام..
ومهما يكن الدافع الذي حدا باخوتنا الأسلامين الي خوض تلك التجربة ومدي نجاحاتهم أو مقدار خسارة الوطن ومواطنيه جراء اخفاقات برنامجهم او مشروعهم الحضاري ..حيث تمثل ذلك جليا في تردي مستويات المعيشة لدي قطاعات عريضة من أهل الوطن و التوجه نحو أمكانية تهديد وحدة البلاد بفصل الجنوب وانفراط عقد السلام في نواحي اخري ...فضلا عن تحمل المواطن لتبعات الخدمات الأساسية التي هي من صميم واجبات الدولة كالتعليم والصحة كحد ادني.. وبغض النظر عن الذرائع التي حدت بهم الي التراجع والعودة للاحتكام الي الارادة الشعبية لاعادة تفويضهم أو اختيار غيرهم ..فاننا نحمد الله انهم عادوا الينا اخيرا وان جاءوا متأخرين كثيرا..
ولسنا هنا بالحالمين بعودة البقرتين الي صاحبهما بين ليلة وضحاها
وندرك ان البكاء علي اللبن المسكوب ايضا لن يجدي ..فارجاع عقارب الزمن الي الوراء ضرب من المستحيل.. ولكن النظر بالعين الثاقبة لتلمس طريق المستقبل ولو في عتمة الرؤية يعيد الأمل في اتساع بؤرة الضوء في ذلك الطريق وأن طال المسير للخروج من نفق الحاضر الذي يضج بخلافات الساسة المتعطشين الي الحكم بعد غياب قسري طويل أو الساسة الذين شربوا كأس السلطة وادمنوا تجرعه ويحلمون بديمومة السقيا ولكن هذه المرة برخصة من الشعب...
ولعل الناظر الي كافة البرامج الانتخابية المطروحة في ساحة التنافس علي اختلافها يلاحظ انها تدور في محور ( استحلاب ) عاطفة المواطن وأشواقه الي مجانية الخدمات الهامة والعيش الكريم ورفع الجبايات الخ. فتلك أمور علي المواطن ان ينتزعها بارادته كحق اصيل لا يفترض ان يمنيه بها أحد طالما انه يساهم في نشأة مرافقها ويسعي الي احياء مواردها ويلتزم بسداد مقتضيات استمرارية الانتفاع بها...ولعل ذلك يمثل دليلا علي خطل تلك الرؤي الانتخابية التي تجاوزها الزمن ولم تعد الأسلوب الحضاري والراقي لاستشراف مستقبل الوطن في كلياته السياسية والأقتصادية والآجتماعية لتنعكس في تطوير الموارد واستخلاص الامكانات وابتداع المشروعات التي توزع علي مساحات الوطن في زواياه الأربع وبعدالة القسمة في الريع والأشراف . واستثمار طاقات المواطن المعطلة والتي اجبرتها الظروف المحيطة وسوء الخطة حتي وسط الخريجين المؤهلين الي مزاولة مهن حقيرة بات مرتادوها يشكلون منظرا يدعو الي الشفقة في شوارع العاصمة وهم يستجدون ارتال السيارات في لفحة النهار اللاهب لشراء معروضاتهم التي لاتجلب الا هامشا تافها من الربح الذي لا يقيم الأود..ونحن نري تكدس ثلث سكان السودان في رقعة العاصمة التي ترهلت بامتدادات الامر الواقع غير الحضارية والمفتقرة الي ابسط مقومات ما دون الحد الآدني من الحياة ..هربا من الريف الذي انعدمت فيه معالم السلام ..وعزت فيه لقمة العيش .. فانتشرت العفيفات من بنات الوطن في ظلال( الرواكيب ) ووسط ضوضاء الأسواق وعند زوايا المرافق المختلفة ومنعطفات الطرق لبيع الشاي تجنبا لبيع الآثداء أو الوقوف في صفوف التكفف التي لم تعد فيها مواضع قدم للمزيد..
لا احد بالتأكيد يستطيع ان ينفي علي اي مواطن او مواطنة حق التواجد في عاصمة بلاده .ولكن الدعوة الي عودة اولئك المواطنين الي حيث نبتت جذورهم بعد اعادة الحياة التنموية تدريجيا الي تلك المناطق يجب ان تظل هي الهاجس الذي ينبغي ان يطارد الساعين الي نيابة المواطنين عبر ا لأنتخابات القادمة ايا كانت نتائجها ولمن تكون .. فالتجربة اثبتت بعد اتفاقية نيفاشا مثلا ان الناس النازحبن الي الخرطوم جراء الحروب وانعدام سبل العيش في مناطقهم لم يكن يعجبهم المكوث في العاصمة قي حد ذاته .. فكان منظر الشاحنات والحافلات التي اقلت العائدين الي الجنوب محيرا بالنسبة للذين ظنوا ان عودة اولئك الناس مستحيلة وان أشرق نور السلام في ارجاء ولاياتهم..وهذا ما نأمل ان ينطبق ايضا علي مواطني دارفور والشرق والشمال الأقصى وحتي مواطني الجزيرة الذين اثروا افتراش البضائع في نهارات المدن علي بسط الخضرة في اراضي ..( حواشاتهم ) التي اضحت يبابا يلفها الجدب في ظل السياسات التي احرقت الزرع في مشروع الجزيرة العملاق والرائد..
وافرغت الضرع .. فبات باعة الحليب من أهم ضيوف صباحات ومساءات قري الجزيرة .. التي كانت فيها ( حبوبتي ) عليها رحمة الله..والي عهد قريب توزع الحليب مجانا الي سابع جار .. ويمتد خير بقراتها وعنزاتها من ( غباشة الروب ) الي اقاصي الفريق..دون أن تحلم بالانتخاب في أي مجلس من مجالس الدنيا الزائلة ..
اذا لاينبغي ان نجعل برامجنا الأنتخابية لمجرد التسويق المؤقت في غمار السباق علي ( كرسي الحلاق) ا الذي يتبدل جلساؤه ولا يدوم لاحد .. فالذي يتقدم للتكليف عليه ان يكون علي قدر المهمة ويأنس في نفسه الكفاءة قبل كل شىء ويكون علي يقين بانه سيترك بصمة علي جدار تاريخ الوطن أو حتي في حافة ذاكرة الناس الذين سيضعون ثقتهم في سلة تفويضهم له... ولو قدر لي و كلفني الناس لاكون مرشحا في الأنتخابات وان كنت راغبا عن ذلك اصلا.. فان برنامجي الذي سارفعه .. هو ان يعود الزارع الي ارضه ليفلحها .. والراعي الي انعامه يحلبها .. ولئن كان من المستحيل علي الأقل الآن العودة الي عهد الحليب المجاني ..فيكفي الا يأتي من يتسلط علينا و يأخذ منا بقراتنا قسرا بعد اليوم أويقوم بحلبنا .. وحسبنا ان نحلم بان نشرب مما نحلب .. ونقتسم ما نجمع.. و نطرب مما نسمع من كلام الصدق الهادف الي بناء وطن الغد لنتساوي في صفوف المواطنة الحقة ونحن نرقص في ساحات الاختيار. بحرية و بوعي. والله من وراء القصد...(جريدة التيار اليومية .. الخرطوم )