حال خللٌ تقني دون نشر هذه الحلقة الأخيرة في موعدها الأسبوع الماضي، فمعذرة. وكنا قد رأينا، في الحلقة السابقة، أن عدم نهوض (الحزب الحاكم) بالتزاماته تجاه (جاذبيَّة الوحدة)، خلال سنوات الفترة الانتقاليَّة الخمس، بموجب (اتفاقية السلام)، جعل القضيَّة (الاجتماعيَّة) تشتبك، بآخرة، مع القضيَّة (الوطنيَّة) التي يُتوقع أن تتعرض لاختبار عسير في (استفتاء 2011م)، مِمَّا لا يبدو أن في جُعبة (الجَّماعة ديل) من (سحر الحُواة)، ما قد يمكنهم من تداركه خلال الأشهر القلائل المتبقية!
ولفهم هذه الإشكاليَّة بصورة أدق، عدنا إلى الملابسات التي برزت وتطوَّرت، من خلالها، جدليَّة (الوحدة والانفصال) في فكر الحركة وسياستها، منذ أوَّل تأسيسها عام 1983م. فرأينا، بالاستناد إلى د. جون قاي نيوت، كيف أن الاختلاف قد وقع، باكراً، بين تيَّار (السودان الجديد)، بقيادة د. قرنق المدعوم من سلفا كير وآخرين، من جهة، وقد أدركوا للمشكلة، أصلاً، في (سياسات الهجمنة hegemonic politics)، وتهميش المركز للأطراف، فلا بُدَّ، إذن، من تصويب نضال الحركة نحو (تحرير السودان) كله؛ وبين تيَّار (الأجندة الجنوبيَّة)، من جهة أخرى، بقيادة صمويل قاي وآخرين دعوا للتركيز على (تحرير الجنوب)، فقط، باعتباره أن ذلك هو هدف نضالات أجيال الجنوبيِّين منذ 1955م. ورأينا، أيضاً، كيف أمكن لهتين الرؤيتين أن تتعايشا حتى يوليو 2005م، حين صدر قرار تكوين قطاع الجنوب، بقيادة باقان اموم، وقطاع الشمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، فتوزَّعت المواقف حوله على ثلاث مدارس، حيث اعتبرته الأولى خرقاً لـ (مانفستو) الحركة كتنظيم قومي واحد، يناضل لتأسيس سودان علماني ديموقراطي موحَّد، بينما يخلق القطاعان مركزين منفصلين، وربَّما أيديولوجيَّتين مختلفتين؛ واعتبرته الثانية تطوُّراً طبيعيَّاً للحركة، إذ لزمها، بعد الاتفاقية، ترتيب أوضاعها في الشَّمال، تمهيداً لاكتساح الانتخابات، وتولي السُّلطة في السودان كله؛ واستقبلته الثالثة كانعكاس منطقيٍّ للأيديولوجيَّة الواقعيَّة التي قضت، منذ المؤتمر الأوَّل عام 1994م، باعتماد هدفي (السودان الجديد) و(تقرير المصير) التوأمين كأساس لأيِّ مفاوضات سلام مع الحكومة، فما كان متصوَّراً، بالتالي، أن تتيح الحركة لأعضائها الشماليين إدارة أمورها في الجنوب، إذ لو انفصل الإقليم، كأحد مترتبات (الاستفتاء) المتوقعة، لن يكون أمام (قطاع الشَّمال) سوى أن يبرز كتنظيم مستقل! وهكذا رأى الباحث أن الضرورة التاريخيَّة ذاتها التي قضت بنشأة الحركة كناتج عرضي لمختلف النزعات الأيديولوجيَّة، هي التي حتمت، أيضاً، تبلور أيديولوجيَّة جديدة تستوعب الخيارين معاً: الوحدة في التنوُّع، أو الانفصال!
وواصلت الحركة مجابهة هذه الإشكاليَّة في انقسام 1991م الذي رأى فيه شماليُّوها مهدِّداً لوحدتها، وردَّة كاملة عن مشروع (السودان الجديد)؛ وكذلك في مفاوضات أبوجا (1992 ـ 1993م)، حيث برزت المفاضلة بين (الوحدة) على أساس (فيدرالي)، أو حتى (كونفيدرالي)، وبين (تقرير المصير). لكن د. قرنق استطاع السَّيطرة، وقتها، على هذا الخلاف، بخطته العمليَّة القائمة على ترك الخيار مفتوحاً لمن شاء تحرير الجنوب وحده أن يتوقف عند كوستي، ولمن شاء أن يواصل تحرير بقيَّة البلاد! وفي السياق جاءت فترة التجمُّع الوطني، وميثاق أسمرا 1995م، ثمَّ اتفاقيَّة السلام 2005م، وترتيبات الفترة الانتقاليَّة (2005 ـ 2011م)، مِمَّا شكل، بعد رحيل د. قرنق، واقتراب موعد (الاستفتاء)، ضرورة ملحَّة لمراجعة كلِّ خطوط الحركة. ومن ثمَّ يخلص د. نيوت إلى أن ما يبدو، الآن، مأزقاً أيديولوجيَّاً وسياسيَّاً للحركة، ناجم، في الواقع، من أن مفهوم (السودان الجديد) تكشَّف، لدى التطبيق، عن تعقيدات كثيرة في المستوى التنظيمي للقطاعين، وصعوبة توطين المفهوم نفسه في شتى البيئات المحليَّة.
(20)
على خلفيَّة هذه التحليلات والاستنتاجات نستطيع أن نفهم أن الخلاف بين تيَّاري (الوحدة) و(الانفصال) داخل الحركة، عموماً، وليس فقط من خلال ما لاح، مظهريَّاً، في واقعة إعلان مقاطعة الانتخابات في الشمال، والذي رجَّحنا أنه كان محض (تقسيم عمل)، ليس أمراً مستجدَّاً أو طارئاً، وإنما تخلقت نطفته في رحم نفس الظروف التي تكوَّنت الحركة ذاتها من خلال ملابساتها، لولا أن زعامة د. قرنق المطلقة، وكاريزميَّته الاستثنائيَّة، فضلاً عن خطته المشار إليها، مكنت، عمليَّاً، من استيعاب كلا التيَّارين المتناقضين، والإبقاء على معظم خلافهما مكبوتاً أو مؤجلاً، ردحاً من الزمن، حتى بدأ يطلُّ برأسه، رويداً رويداً، ويفصح عن نفسه، بصورة أكثر سفوراً، مع نهايات (مرحلة الغابة)، وبالأخص قبيل وأثناء وبُعيد (الانتخابات) الأخيرة، مثلما هو مرشَّح، الآن، لـ (الانفجار العظيم Big Bang)، قبيل وأثناء وبُعيد (الاستفتاء) القادم!
اتخذ هذا الخلاف سمته الأساسي، عقب إبرام اتفاقيَّة السَّلام، ورحيل د. قرنق، في التنافر الواضح بين نظرتي (الوحدويين) و(الانفصاليين) لأهداف (الاتفاقيَّة). فمن ناحية، أظهر (الوحدويُّون) ميلاً لا يمكن أن تنكره العين، إلا من رمد، صوب تنسيق مواقف الحركة، على نحو أو آخر، مع مواقف القوى الوطنيَّة الديموقراطيَّة في الشمال، إزاء معظم القضايا (الاجتماعيَّة) و(الوطنيَّة) الجوهريَّة، سواء القديم منها، أو ما طرحته (الاتفاقيَّة)، أو ما استجدَّ واندرج، تلقائيَّاً، ضمن استحقاقات (الفترة الانتقاليَّة) لما قبل (الانتخابات) و(الاستفتاء)، كقضايا التحوُّل الديموقراطي، بما في ذلك الإصلاح القانوني الشَّامل لقوانين الأمن الوطني، والأحزاب، والانتخابات، والصَّحافة، والنقابات؛ وإصدار قانوني (الاستفتاء على تقرير المصير) للجنوب، و(المشورة الشعبيَّة) لمنطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق؛ ومعالجة أزمة دارفور بما يضمن السَّلام والعدالة في الإقليم؛ والتوزيع العادل لعائدات النفط بين الشمال والجنوب؛ وإجراءات الإحصاء السُّكاني؛ وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب؛ وكذلك ترسيم حدود منطقة أبيي؛ وعدالة توزيع الدوائر الجغرافيَّة؛ وتشكيل (مفوضية الاستفتاء)؛ وسائر القضايا المتعلقة بـ (واجب) تحقيق (جاذبيَّة الوحدة) للجنوبيين.
أما (القوميُّون الانفصاليُّون) فقد ظلَّوا يُبدون، من جهتهم، عزوفاً واضحاً عن أدنى اهتمام بجُلِّ هذه القضايا، حيث قصروا اهتمامهم، فقط، على ما يتصل بـ (تقرير المصير) الذي يكافئ، عندهم، معنى (الانفصال التام)، دون سواه، كقضايا عائدات النفط، والإحصاء السُّكاني، وترسيم الحدود، وقانون الاستفتاء، وتكوين مفوَّضيَّته، وما إلى ذلك. لقد (اختطفوا) من الاتفاقيَّة، فقط، نصوصها المتعلقة بـ (تقرير المصير)، وعمدوا لاجتزائها من السِّياق، وتجريدها من الرُّوح، حتى غدت محض مطيَّة لمآربهم السّياسيَّة الضيّقة في (الانفصال) وحده! فهم، على هذا النحو، لا يأبهون، البتة، مثلهم في ذلك مثل الحزب الحاكم، بكون الاتفاقيَّة نفسها (غير محايدة!)، في حقيقتها، إزاء خياري (الوحدة) و(الانفصال)، حيث أن البند/1/1 من (المبادئ المتفق عليها)، ضمن (بروتوكول مشاكوس) المبرم في 20/7/2002م، يجعل (الأولويَّة)، صراحة، لـ (الوحدة) القائمة على "إرادة الشعب الحرَّة، والحكم الديموقراطي، والمساءلة، والمساواة، والاحترام، والعدالة"؛ وينصُّ البند/1/5/1 على إقامة (نظام ديموقراطي) في البلاد قبل (الاستفتاء)، الأمر الذي كان ينبغي أن تضمنه (انتخابات) أبريل المنصرم، في ما لو كانت أجريت بحريَّة وعدالة ونزاهة؛ كما ينصُّ البند/1/5/2 على أن (السَّلام) لا يكون بمجرَّد إيقاف (الحرب)، وإنما "بالعدالة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسّياسيَّة"؛ فضلاً عن أن البند/1/5/5 يقرن، صراحة أيضاً، بين (الاستفتاء) نفسه، كممارسة مستحقة لـ (تقرير المصير)، وبين جعل (الوحدة) خياراً (جاذباً)؛ وكذلك البند/2/4/2 من (الجزء ب: عمليَّة الانتقال)، والذي ينصُّ على ضرورة عمل الأطراف مع (مفوضيَّة التقويم والتقدير) لجعل (الوحدة) خياراً (جذاباً) للجنوبيّين عند (الاستفتاء).
غير أن هؤلاء (القوميِّين الانفصاليِّين) مضوا يتجاهلون هذه البنود، أجمعها، كأن لم تكن، وانطلقوا يمارسون من التهريج، باسم (الاتفاقيَّة)، ما يكفل تصوير (الاستفتاء) كنصٍّ معلق في فراغ، ويجوسون، على هذا الأساس، بين المواطنين في مدن وأرياف الجنوب، يروِّجون سموم دعايتهم البغيضة لـ (الانفصال)، تسندهم، على ذات الخط، للمفارقة، حملة (انفصاليِّي المركز) الذين يقودهم، باسم (كيان الشمال)، السَّيِّد الطيب مصطفى وصحيفته (الانتباهة)، والذين يستحيل عليهم، حتى يدخل الجمل في سم الخياط، أن يستطيعوا إقناع كائن من كان بأنهم ليسوا جزءاً لا يتجزَّأ من (الجَّماعة ديل)!
(21)
مهما يكن من شئ، فإن التأرجح في ميزان القوَّة، والذي وسم، دائماً، الصراع حول القضايا المذكورة بين هذين الضِّدَّين المتوحِّدين داخل الحركة، أخذ ينعكس، أكثر فأكثر، في الارتباكات الملحوظة على مواقفها الرَّسميَّة، والتي أخذت تتفاقم، في الآونة الأخيرة، تفاقماً مشهوداً، بل وليس نادراً ما تبلغ ذروتها لدى قمَّة سنام قيادتها المتمثلة في الفريق سلفا كير نفسه، من خلال محاولاته المستميتة لإعادة إنتاج نفس النهج القيادي القديم للزعيم الراحل، في ما يتعلق، على وجه التعيين، بالسعي الدءوب لإحسان إدارة عناصر التنافر على كلا الجَّانبين.
لكن، لئن أمكن هذا لقرنق، كما قد رأينا، بشروط الظرف السابق المحدَّد، والذي اعتبر فيه التناقض الداخليُّ (ثانويَّاً) بين هذين الضِّدَّين، مقارنة بالتناقض (الرئيس) بين حركتهما الواحدة، من جهة، وبين عدوِّها المشترك المتمثل في حلف (المركز) و(انفصاليِّي) الجنوب خارج الحركة، من جهة أخرى؛ فإن ذلك النهج القيادي القديم يكاد يلامس، الآن، حواف الاستحالة بالنسبة لسلفا، إلى الحدِّ الذي يبدو فيه الرَّجل، أحياناً، كما المغلوب على أمره، وهو يسعى، جاهداً، لاتباعه، تحت شروط الظرف الجديد، المغاير، شديد الخصوصيَّة والتعقيد، والذي ما ينفكُّ يستعر فيه صراع (الإخوة الأعداء)، حثيثاً، كلما شارفت الفترة الانتقاليَّة على نهايتها، وكلما اقترب موعد (الاستفتاء) على (تقرير المصير)، بحيث يتخذ تناقض الأمس (الثانوي)، رويداً رويداً، ومن زاوية المواقف الأيديولوجيَّة والسِّياسيَّة لـ (انفصاليِّي) الحركة، موقع التناقض (الرئيس) مع مواقف (وحدويِّيها)، بينما يتخذ تناقض الأمس (الرئيس)، شيئاً فشيئاً، موقع التناقض (الثانوي)، بالمقابل، بين (انفصاليِّي) الحركة، من جهة، وبين حلف المركز و(انفصاليِّي) الجنوب خارج الحركة، من جهة أخرى، اللهمَّ إلا في ما يتصل بالسُّؤال عمَّن سيدير منهم أمر (الدَّولة المنفصلة) غداً!
(22)
بالنتيجة، صار المشهد أشبه ما يكون بشبكة متداخلة الخيوط من (أحلاف النظائر والنقائض)، حيث، من جهة، ما تزال الحركة الشَّعبيَّة (الواحدة) تضمُّ، إلى حين إشعار آخر، (وحدويِّين) أوفياء لراية (السودان الجديد)، و(قوميِّين انفصاليِّين) متشبِّثين بـ (الأجندة الجنوبيَّة)؛ بينما التقارب جار، من جهة أخرى، بين (انفصاليِّي) الحركة هؤلاء، وبين (القوميِّين الانفصاليِّين) خارج الحركة؛ لكن، إذا أخذنا في الاعتبار تطلع كلِّ فريق إلى حكم (دولة الجنوب) بعد (الانفصال)، فإن ذلك، من جهة ثالثة، سوف يفرِّق، يقيناً، تحالفهم الحالي؛ كما وأن التقارب جار، من جهة رابعة، بين (الانفصاليِّين) داخل وخارج الحركة، مجتمعين، وبين دعاة (الانفصال) في الشمال، مع الأخذ في الاعتبار، أيضاً، بالمصالح المتناقضة، على صعيد الموارد وغيرها، والتي سوف تشتت، كذلك، من جهة خامسة، شمل هذا التحالف الآني؛ أما (وحدويُّو) الحركة، فالتحالف قائم بينهم، الآن، من جهة سادسة، وبين قوى الشمال الوطنيَّة الديموقراطيَّة، المتحالفة، في ما بينها، شكلاً، وإلى حين إشعار آخر، من جهة سابعة، والمرشَّحة للانقسام، موضوعاً، من جهة ثامنة، بين (راديكاليِّين)، على رأسهم الشِّيوعيُّون، تتقارب برامجهم الاقتصاديَّة السِّياسيَّة، والاجتماعيَّة الثقافيَّة، تاريخيَّاً، مع مشروع (السودان الجديد)، وبين (إصلاحيِّين) ما يزال الوقت باكراً لتقدير ما ستكون عليه مواقفهم المستقبليَّة النهائيَّة؛ وأما إذا وضعنا في الاعتبار، كذلك، ما سيجدُّ، حتماً، على أوضاع الحركة، تنظيميَّاً، حالَ وقوع الانفصال، فلن يكون ثمَّة مناص من أن يمسي (قطاع الشمال)، وهو (وحدوي)، بطبيعته، وذو نهج (راديكالي) شديد الوفاء لراية (السودان الجديد)، كياناً سياسيَّاً قائماً بذاته، دون أن يفقد صلته، على نحو أو آخر، من جهة تاسعة، بحركة (الوحدويِّين) الأم في (دولة الجنوب)، سواء تولت الحكم أو نشطت في المعارضة، وذلك لأجل استعادة (الوحدة) الضائعة كهدف مشترك؛ ومن ثمَّ فإن التحالف، إذا قدِّر له أن يستمرَّ في الشمال، فسيستمرُّ، من جهة عاشرة، بين هذا الكيان المستقل، بضرورات (الانفصال)، وبين (راديكاليِّي) قوى الشمال الوطنيَّة الديموقراطيَّة؛ مثلما سيستمرُّ، في احتماله العابر للحدود، من جهة حادية عشر، بين (راديكاليِّي) قوى الشمال الوطنيَّة الديموقراطيَّة، وبين حركة (الوحدويِّين) الأم في الجنوب، أيضاً، ولأجل نفس الهدف، وهو استعادة (الوحدة) الضَّائعة.
(23)
وإذن، فارتباكات الحركة، من الناحية الرَّسميَّة، ناشئة، بالأساس، عن تحدِّيات وحدة وصراع (الوحدويِّين) و(الانفصاليِّين) فيها، إلى حين إشعار آخر، كما وعن اضطرار قيادتها، بالتالي، للتعبير عن هذه الوحدة المرتبكة. وتتمظهر هذه الارتباكات، بشكل جلي، في تناقض التصريحات، واضطراب المواقف، وغموض الأفكار، ليس بين قائد وآخر، فحسب، بل وفي ما يصدر، في كثير من الأحيان، عن نفس القائد، بشأن مسائل أدخل ما تكون في دائرة الحساسيَّة الاستثنائيَّة التي تكتسيها قضايا (الوحدة) و(الانفصال)! وقد يكون من المناسب، هنا، أن نستشهد على هذه الارتباكات ببعض النماذج الحيَّة، من واقع المواقف المتناقضة لرئيس الحركة نفسه، الفريق سلفا كير، وتصريحاته المتضاربة، في ما يتصل، تحديداً، بالقضيَّة (الوطنيَّة) الأخطر، في الوقت الرَّاهن، وهي قضيَّة (الاستفتاء على تقرير المصير).
لقد كشف، مثلاً، للمصلين في كتدرائيَّة سانت تريزا الكاثوليكيَّة بجوبا، أن القذافي اتصل به، ذات يوم من أيَّام زيارته لطرابلس، أواخر يونيو الماضي، ليؤكد له أن الجنوبيِّين، إذا ما قرَّروا (الانفصال!)، "فينبغي ألا يخشوا أحداً، و(سأقف!) إلى جانبهم .. لقد كان من (الخطأ!) الإبقاء على الجنوب (موحَّداً) مع الشمال بعد عام 1956م .. كان (ينبغي!) أن (ينفصل!)، إما كدولة (مستقلة)، أو (ينضمَّ) إلى دولة أخرى في شرق أفريقيا!" (الأحداث، 1/7/09). وفي رزنامة 13/7/2009م قلنا إن من حقَّ المشفقين على (الوحدة) أن يتساءلوا عن مغزى كشف سلفا للواقعة؛ هل أراد أن يطمئن (الانفصاليِّين) الجنوبيين بأن ثمَّة قوى ستدعم خيارهم؟! أم، تراه، أراد فضح هذه القوى التي تتربَّص الدوائر بـ (وحدة) البلاد وسلامة أراضيها؟!
وسرعان ما جاءت إجابة سلفا، عندما أكد، بولاية جنوب كردفان، بعد ذلك بأيَّام، على (حرصه) على (الوحدة) "كخيار أوَّل للحركة الشعبيَّة"، داعياً الجنوبيين لتغليبه، عند الاستفتاء (الأحداث، 8/7/09)؛ وداحضاً "الاعتقاد السائد بأن الجنوبيين سيصوِّتون للانفصال!" (الأخبار، 8/7/09)؛ كما دمغ، خلال زيارته لأبيي، من يتهمون الحركة بـ (الانفصاليَّة) بأنهم مجرَّد انتهازيِّين (الأحداث، 10/7/09)؛ ونادى بـ "تفويت الفرصة على دعاة (الانفصال) الجُدُد .. الذين يحلون أينما حلت مصالحهم"، محذراً من "اتباعهم في الانتخابات"، ومطالباً جماهير أبيي بـ "العمل لترسيخ التعايش بين المسيريَّة والدينكا كما في الماضي" (الصحافة، 10/7/09).
لكنه، خلال لقائه مع د. الترابي، لدى زيارة الأخير إلى جوبا، أواسط سبتمبر الماضي، عبَّر عن أن "الأوان قد فات لجعل الوحدة جاذبة"؛ ثم عاد ليشدِّد، مجدَّداً، على نفس المعنى، أثناء مخاطبته المصلين في (كنيسة كتور)، حين اتهم المؤتمر الوطني بالتلكؤ في إنفاذ الاتفاقيَّة، قائلاً: "هناك كثير من البنود العالقة لم تنفذ، وما تبقى من وقت غير كافٍ لجعل الوحدة جاذبة" (الشرق الأوسط، 15/9/09).
بعد أقلِّ من أسبوعين من ذلك، وأثناء استضافة الحركة (الحاكمة) في الجنوب لـ (مؤتمر جوبا لكلِّ أحزاب السودان)، إكتظت الشَّوارع المحيطة بلافتات (القوميِّين) المتجهِّمة، على اختلاف مللها ونحلها (الانفصاليَّة)، تحث المواطن الجنوبي للتصويت لـ (دولة الجنوب المستقلة)، بينما لم تكن ثمَّة ولو لافتة واحدة تمتدح (الوحدة)، في الشَّارع، أو تدعو المواطن الجنوبي إليها، في الوقت الذي كان فيه (الوحدويُّون) يزلزلون أركان قاعة (نياكورون)، حيث انعقد المؤتمر، بصداح تعبيراتهم البليغة عن أيديولوجيَّة (السودان الجديد) القائمة على المزاوجة السَّديدة بين مفهومي (الوحدة) و(التنوَّع)! بإزاء تلك المفارقة العجيبة المتمثلة في الحضور الدِّعائي الكثيف لـ (الانفصاليِّين) في الشارع الجنوبي، وغياب (الوحدويِّين) عنه، كان مدهشاً، بحق، أن يكتفى الفريق سلفا، في كلمته الختاميَّة، بتحذير غامض من "أن الوقت لا زال مبكراً للقيام بحملات في شأن الوحدة أو الانفصال"، مضيفاً نداءه الأكثر غموضاً: "ما تلخموا الناس من الآن!" (الصحافة، 1/10/09).
ثمَّ ما لبث أن عاد، في نفس الكلمة، ليشدِّد على ضرورة العمل لتحقيق (جاذبيَّة الوحدة)، وإلا فإن "الانفصاليّين سيفصلون الجنوب .. ولن تكون هذه غلطتنا!" أو كما قال (المصدر).
غير أن الأمر أضحى أكثر مدعاة للحيرة لمَّا عاد، هو ذاته، في نهاية نفس الشَّهر، ليدعو الجنوبيِّين الى التصويت لصالح "استقلال جنوب السودان!"، حيث خاطب المواطن الجنوبي، ضمن كلمة ألقاها في ختام قداس بكاتدرائيَّة القدِّيسة تريزا، قائلاً: "عندما تصل إلى صندوق الاقتراع سيكون الخيار خيارك. هل تريد التصويت للوحدة لتصبح مواطناً من الدرجة الثانية في بلدك؟! الخيار خيارك! فإذا اردت التصويت للاستقلال، فستصبح عندئذ شخصاً حُرَّاً في بلد مستقل!" (أ ف ب، 31/10/09)؛ وهذا، بلا شكٍّ، خطاب (القوميِّين الانفصاليِّين) في أكثر احتمالاته تطرُّفاً!
مع ذلك عاد سلفا نفسه يصرِّح، مؤخَّراً، للقناة الأولى بالتلفزيون المصري، بأن الحركة تؤمن بضرورة (وحدة السودان) التي هي (قوة) لجميع الأطراف، أما فى حالة (الانفصال) فالجميع يخسرون؛ وأن (الوحدة) أينما توجد، توجد معها (القوَّة)؛ وأن السودان يمكن أن يكون قويَّاً إذا ما ظلَّ (دولة واحدة)؛ وأن الجنوب يحتاج الآن إلى (الوحدة) أكثر من أي وقت مضى؛ وأن "البعض يقومون بمحاولات لتقسيم السودان، الإ أن الحركة تسعى لإيقافهم" (موقع "أخبار مصر" على الشبكة، 1/5/10).
غير أنه، في ردِّه على سؤال عن الدعوة التى يمكن أن يوجِّهها للجنوبيين وقت (الاستفتاء)، نحى منحى محايداً تماماً، حيث أدار الظهر لكلا خطابي (التصدِّي) للسَّاعين إلى تقسيم السودان، في التلفزيون المصري، و(التحريض) على (الانفصال)، في كاتدرائيَّة القدِّيسة تريزا، ليؤكد، هذه المرَّة، قائلاً: "سأترك القرار للأفراد وللشَّعب. ما سأقوم به هو (فقط) تأمين عمليَّة الاستفتاء، حتى يتمَّ التصويت بحريَّة كاملة لاختيار ما يريدون، (الوحدة) أم (الانفصال)، وهم يعلمون تماماً مميِّزات وعيوب كلا الخيارين، وأنا سأكون معهم فى أى خيار" (المصدر).
كما أنه، وعلى العكس مِمَّا كان قد صرَّح به، لدى لقائه بالترابي، أواسط سبتمبر الماضي، من أن "الأوان قد فات لجعل (الوحدة) جاذبة"، أجاب سلفا على سؤال عمَّا إذا كان ما يزال ثمَّة جهد يمكن أن يُبذل لإقناع الجنوبيين بخيار (الوحدة)، قائلاً: "أعتقد أنه يمكن القيام بشيء ما في هذا الصدد" (المصدر).
أما عن (الانتخابات)، فإن سلفا أبلغ، قبل شهر منها، قمة (الإيقاد) الطارئة بأديس أبابا، والتي خصِّصت لمناقشة سير تنفيذ (اتفاقيَّة السَّلام)، بأن "شعب الجنوب يعلق أهميَّة أكبر على (الاستفتاء) منه على (الانتخابات)، وأن إجراء الانتخابات ليس شرطاً مسبقاً لإجراء الاستفتاء!" (موقع "محيط" على الشبكة ـ نقلاً عن "الخليج" الإماراتيَّة، 10/3/10)، مهدراً بذلك قيمة البند/1/5/1 من (بروتوكول مشاكوس)، والذي ينصُّ على إقامة (نظام ديموقراطي) في البلاد قبل (الاستفتاء)؛ فلكأن (قيام) نظام (ديموقراطي) ممكن بدون قيام (انتخابات ديموقراطيَّة)؟!
(24)
برغم كلِّ هذه الإشارات المرتبكة المربكة إزاء ثنائيَّة (الوحدة والانفصال)، تصدر من موقع القيادة العليا للحركة، فإن توجُّهها العام، بحكم علوِّ راية (السودان الجديد) داخلها، وارتباطها الوثيق برمزيَّة زعيمها التاريخي الراحل، والدعم الذي وجدته من الفريق سلفا نفسه، أوَّل تأسيسها، لم يخلُ، في ذات الوقت، من حقائق لافتة للنظر، وجديرة بالاعتبار، في شأن احتجاجها، بالذات، على سياسات (التنفير) المنهجي الحثيث من (الوحدة)، والذي ما انفكَّ (الجَّماعة ديل) يستهدفون به عقل ووجدان المواطن الجنوبي، بالمصادمة لروح وأهداف (الاتفاقيَّة)، وتغذيتهم المستمرة، من ثمَّ، لاستراتيجيَّة (انفصاليِّي الحركة)، بالأخص، طوال سنوات الفترة الانتقاليَّة.
ولئن كان من الممكن، بهذا الاعتبار المحدَّد، الإعلاء من شأن التحليل الذي يذهب إلى إعادة قراءة مواقف الفريق سلفا، من زاوية أخرى، كمحض أسلوب صادم في تنبيه الرأي العام الداخلي والخارجي إلى تنكر الحزب الحاكم لواجباته، وتنصُّله المستمرِّ عن التزاماته التواثقيَّة، بما يفضُّ التعارض في هذه المواقف ما بين تغليب خيار (الوحدة)، تارة، وخيار (الانفصال) تارة أخرى، فإن أحدث إفادات الرَّجل، وتصريحاته، لترفد هذا التحليل بأقوى دعائمه، خاصَّة وأن مواقف الحزب الحاكم، على هذا الصَّعيد، قد بلغت شأواً بعيداً في المكابرة والمغالطة، حيث كان، مثلاً، قد رفض، مبدئيَّاً، المشاركة في القمة الطارئة لدول الإيقاد بأديس أبابا، خلال مارس الماضي، وكانت قد خصِّصت لمناقشة سير تنفيذ (اتفاقيَّة السَّلام) التي أبرمت، أصلاً، برعاية هذه الدُّول نفسها، إلى جانب شركائها الأمريكيِّين والبريطانيِّين، والفرنسيِّين، والنرويجيِّين، والكنديِّين، مبرِّراً رفضه ذاك بأنه "لا يرى جدوى من هذه القمَّة، لأن الاتفاقيَّة قد (تمَّ تنفيذها!) خلال الأربعة الأعوام الماضية!" (الشرق الأوسط، 10/3/10) .. فتأمَّل!
هكذا، وفي ما يتصل، مثلاً، بإعلان المشير البشير، عقب الانتخابات، عن أنه سيتخذ من الإجراءات ما يدفع الجنوبيِّين لتفضيل خيار (الوحدة)، عاد الفريق سلفا، بالمقابل، لإطلاق تعليقاته الصَّادمة، مصرِّحاً للقناة المصريَّة الأولى بقوله: "الأمر يحتاج لمعجزة، فلم يتبق سوى شهرين أو ثلاثة لكي يجعل البشير من الجنوب أرضا تماثل الجَّنة .. سيواجه صعوبة في تحقيق ذلك، لأن الأمر ليس شفهيَّاً، وليس فقط على الورق، لكن هناك وضعاً قائماً، ويحتاج لإجراءات عمليَّة" (موقع "أخبار مصر" على الشبكة، 1/5/10). وفي السِّياق كشف سلفا عن أنه كان قد اقترح على البشير تأسيس مكتب له في جوبا "ليتجوَّل في الجنوب، ويرى ما يحتاجه الناس، ومن ثمَّ يمكنه تأسيس مشروعات تنمويَّة، وبهذه الطريقة يمكن جذب الجنوبيين إلى (الوحدة)؛ لكن هذا لم يحدث حتى الآن" (المصدر). كما أكد على أن "الجنوب ليس هو السَّاعى للتقسيم، بل نظام الخرطوم هو من يقسِّم السودان، وإذا استمر هذا النظام، فليس الجنوب وحده هو من سيسعى لـ (الانفصال)؛ فهناك حرب في دارفور، وفي الشرق، ولا بد من مواجهة هذا الواقع، بالإضافة إلى أن الناس في أقصى الشمال غير راضين عن الوضع الحالي، وبالتالي فإن هذا نظام هو من يقسِّم السودان إلى دول صغيرة!" (المصدر). وحول ما إذا كانت ثمَّة أطراف جنوبيَّة ترى أن الأفضل لها هو (الانفصال)، قال سلفا: "إن الجميع في الجنوب يلقون باللوم على الشمال، فهناك القادة، وهم لديهم القدرة على اتخاذ الإجراءات، وأسباب الحرب كانت دائما ما تأتي من الشمال، بينما كانت الحرب نفسها تجري في الجنوب، فليس الجنوبيُّون الذين بلا سلطات هم من يجب إلقاء اللوم عليهم، وإنما الخرطوم هي من تتحمل هذا اللوم؛ لقد كانت لدى أهل الجنوب، دائماً، روح الإيمان بـ (الوحدة)، لكن هذه الروح أحبطت، فمنذ مشاركتنا في الحكومة لم نشعر بالاستقرار، بل إننا نحارب من أجل تحقيق ما تمَّ التوقيع عليه في الاتفاقيَّة" (المصدر).
(25)
خلاصة الأمر أنه، ومهما تكن التقديرات، وبرغم ما شاب مقاطعة الانتخابات من ارتباكات في مرحلة الاقتراع، وما سيشوبها منها في مرحلة ما بعد إعلان النتائج، فإنه يصعب، بإعمال أيِّ قدر معقول من التفكير الموضوعي، اعتبار أن شيئاً من هذه المقاطعة، على علاتها، مِمَّا يمكن أن يحسب كسباً لـ (الجَّماعة ديل)؛ وربَّما كان ذلك لثلاثة أسباب رئيسة يفضي واحدها إلى الآخر:
أولاً: صحيح أن الانتخابات، من حيث هي، تعتبر سُرَّة الديموقراطيَّة. ولقد أسهمنا، لدى بواكير ترتيباتها، في التنبيه إلى ضرورة عدم الإحجام عن خوضها إن توفر (الحدُّ الأدنى) لحريَّتها، ونزاهتها، وشفافيَّتها، اقتناعاً منا بأن (الديموقراطيَّة) إنما تتعمَّق بالممارسة، وأن أيَّ موقع تنحسر عنه (الممارسة الديموقراطيَّة)، تتقدَّم (النزعة الشموليَّة) لاحتلاله! لكن المقاطعة، حين لا يكون ثمَّة بُدٌّ منها، تصبح، بدورها، أحد أشكال التعبير الديموقراطي المهمَّة عن الموقف الرَّافض لـ (الاستكراد) باسم الديموقراطيَّة، وللاستغفال تحت شعار (حُرِّيَّة الاختيار)، بل وربَّما صارت، بالنسبة لمن تمَّ سلبه كلَّ وسيلة أخرى للتعبير عن إرادته، سلميَّاً وديموقراطيَّاً، المعول الوحيد المتاح لتجريد خصمه من (شرعيَّة) سعى ليتسمَّى بها، أمام العالم، لا بشروطها العادلة، ولو بالحدِّ الأدنى، بل بمحض التحايل والالتفاف على ذات الشروط، مِمَّا سيعيده، صاغراً، إلى مربَّع الحكم بـ (الأمر الواقع)! وحتى لو توفرت له، في أحسن النتائج، وضعيَّة (قانونيَّة)، فإنه لن يكسب، على أيَّة حال، ومهما ضرب رأسه بالحائط، أو شرب من ماء البحر، (الشَّرعيَّة) المطلوبة؛ فالوضعيَّة (القانونيَّة) مِمَّا يمكن أن تترتب على نصوص صمَّاء، أو تفسيرات مغرضة، أو اعترافات سياسيَّة مفتقرة للحياء! أما الوضعيَّة (الشَّرعيَّة) فهي أقرب إلى مفهوم (العدل)، تلتمس في الوجدان الجَّمعي، ويُستدلُّ عليها بالفطرة السليمة؛ إنها الوضعيَّة التي يستحيل بلوغها بدون (القبول الأخلاقي التلقائي) من غالبيَّة الناس في المجتمع المعيَّن، فهل يستطيع (الجَّماعة ديل)، وإن كذبوا على الآخرين، أن يكذبوا على أنفسهم، زاعمين أن (قبولاً أخلاقيَّاً تلقائيَّاً) قد تحقق لنتائج انتخاباتهم هذه؟!
ثانياً: الحزب الحاكم وحده، على أيَّة حال، هو من فقأ بإصبعه عين الفرصة النادرة التي واتته كي يثبت للعالم جدارته لدى شعبه، في ما لو كان مدجَّجاً، حقاً، بما يزعم من ثقة في النفس! ذلك أنه هو المسئول، مبتدأ ومنتهى، عن دفع المعارضة، دفعاً، بل ومعها شريكته (الحركة الشَّعبيَّة)، إلى وضعيَّة لا مجال للمفاضلة فيها إلا بين خوض انتخابات تقوم شكوك جديَّة في كون نتيجتها قد رُتبت، مسبقاً، لصالحه، أو مقاطعتها كوسيلة لحرمانه من قطاف حقٍّ غير مستحقٍّ له! والمقاطعة الحاليَّة، وإن بدت، للوهلة الأولى، متفاوتة الحزم ما بين حزب وآخر، ومتردِّدة ما بين المستوى الرئاسي فقط، وما بين المستويات الرئاسيَّة والولائيَّة والنيابيَّة معاً، ومحفوفة، إلى ذلك، باحتمالات تلجلج حزب، ضمناً، أو تراجع آخر، صراحة، سواء وقع ذلك أثناءها أو قد يقع في مقبل الأيَّام، إلا أنها، وبالنظر إلى حيثيَّات رسالتها المعلنة، وبحكم شمولها للغالبيَّة العظمى من القوى السِّياسيَّة الأقوى تأثيراً، قد كفلت، في المحصلة النهائيَّة، ضرب العمليَّة الانتخابيَّة في مقتل، بإفقادها حرارة المنافسة الحقيقيَّة، وإسباغ الطابع الشكلاني عليها، وإفراغها حتى من المحتوى (الديموقراطي!) الزائف الذي كان يراد إكسابها إيَّاه زوراً وبهتاناً، وتعريتها، من ثمَّ، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، كمحض ملهاة مشكوك في جدواها، وفي قيمتها! ولا يصدِّقنَّ كريم قول (شاهد زور) أجنبي أضمر أجندة خاصَّة، فثفل كلمتين من قناة فضائيَّة، أو صحيفة، أو غيرها، يخدم بها (علاقاته العامَّة)، ثمَّ ما لبث أن أدار ظهره يغمز ويلمز على العمليَّة برمتها، بل ويصرِّح، علناً، بأنه كان يعلم أنها (مزوَّرة!)، على غرار ما فعل السَّيِّد غرايشون (الشرق الأوسط، 27/4/10)، بعد أن كان ملأ الدنيا وشغل الناس بأنها انتخابات (نزيهة!)، فمن ذا الذي يمكن أن يسعده، وسط (الجَّماعة ديل)، مآل كهذا؟! وهل، ترى، يكفي، في تقديرهم للمقاطعة التي أفضت إلى كلِّ ذلك، قول قائلهم بأنها محض نتاج بائس لإحساس أحزاب المعارضة بضعف كسبها الشعبي؟!
أخيراً: فإن تكسير الحزب الحاكم لمجاديف التيَّار (الوحدوي) داخل الحركة الشَّعبيَّة، وتيئيسه من أيَّة نصرة يمكن أن يلتمسها في أيٍّ من ترتيبات (الفترة الانتقاليَّة)، ودفعه، من ثمَّ، دفعاً، لأن يولي (الاستفتاء) كلَّ اهتمامه، دون (الانتخابات)، حتف أنف (بروتوكول مشاكوس) الذي يقرن بينهما، ضمناً، كما قد رأينا، لا يعني، على أيَّة حال، استتباب الأمر، في نهاية المطاف، لـ (الجَّماعة ديل)، بما يشتهون، بل سوف يثير الزَّوابع، يقيناً، في طريقهم، غداً، من بابين رئيسين: فمن باب (السِّياسة)، سيلفون أنفسهم مواجهين، وحدهم، بتحمُّل عبء المسئولية التاريخيَّة عن (فصل) الجنوب، إن لم يكن عن (تقسيم) الوطن بأسره! ولعلَّ في هذا ما يكفي لتفسير سعيهم المحموم، حاليَّاً، من أجل (توريط!) قوى أخرى في تحمُّل هذا العبء معهم، إذا قبلت (مشاركتهم) في ما يسمُّونه (حكومة القاعدة العريضة) التي سيقع (الاستفتاء) تحت ولايتها! وإلا فاعجب لقوم (يكتسحون) الانتخابات بالمطلق، ثمَّ يسعون، جاهدين، لإشراك (خصومهم) معهم في الحكم، وهم من لم يُعهد فيهم، طوال سنواتهم السَّابقة، ذرَّة تجرُّد، أو نكران ذات! أما من باب (الاقتصاد)، فسيفيقون، غداً كذلك، على واقع مزر تلوح نذره، منذ الآن، نتيجة (الانفصال) الذي سيحرمهم، في أفضل السيناريوهات، من عائدات النفط، أو يقلل، في أفضلها، من نصيبهم فيها، فينقلبون، وهم الذين بدَّدوا موارد البلاد الأخرى جميعاً، إلى (محاولة) إبقاء الحال على ما هو عليه، إما عن طريق عرقلة هذا (الاستفتاء)، أو عدم الاعتراف بنتائجه، مِمَّا سيعني الحرب قطعاً! ويا له من عبء ثقيل عليهم وحدهم، فيحتاجون، أيضاً، لمن يشيله معهم!
(إنتهت) بقلم: كمال الجزولي