تأليف /رضا الهجرسى
قصة قصيرة
ترانزيت
______
أخذت تقلب بصرها فى أرجاء الصالة علها تجد وجها مألوفا من أبناء وطنها الذى لم تغادره ألا من سويعات قليلة ..
لم تستطع أن تجد تفسيرا لهذا الإحساس الغريب الذى ينتابها كلما
ولجت داخل صالة الترانزيت فى إنتظار مواصلة سفرها ..
لكنها عادة إستحوذت عليها كلما سافرت لتغطية مؤتمرما.. فى بلد ما
غمرها إحساس بالسعادة عندما وقعت عيناها على غلاف مجموعتها
القصصية ..الأجابة نعم ..!!
كانت أحب وأقرب قصصها لقلبها ..
كان الرجل يرفع الكتاب أمام وجهه مستغرقا فى قراءته..
يرتشف قهوته فى تلقائية.. دون أن يرفع عينيه عن الكتاب ..
لا يظهر من حافة الكتاب.. ألا خصلات من شعره الأبيض ..
ألقت بجسدها المرتعش على أقرب كرسى ..
أغمضت عينيها ..وضعت يدها على قلبها ..الذى تسارعت دقاته ..
والسؤال يصرخ بداخلها ..
لماذا هذه القصة الآن ..
لماذا هذه الذكرى الآن..
دعتها صديقة دراستها الجامعية بكلية الأعلام ..إلى عرسها
حاولت أن تختلق الأعذار الواهية لعدم أمكانها لحضور ..
لكنها قوبلت بالرفض القاطع من أقرب وأحب صديقاتها إلى قلبها وعقلها ..
لم تستطع أن تقول لها أنها لا تملك الملابس اللائقة لحضور حفل زفاف بنت كبار العائلات وإبنه المسئول الكبير ..
إنتابها ولأول مرة.. إحساس بصغر وفقر والدها ..الذى تغلغل فى عقلها الباطن دون مقاومة منها ..
حتى بعد حصولها على شهادتها الجامعية ..
ربما يكون قد غير من ظاهرها ..لكنه لم يغير من باطنها شئ ..
صممت امها على بيع قطعة الذهب الوحيدة التى تمتلكها ..
كانت ميراث امها و كانت تعتز به .. لم تفكر يوما فى بيعه ..
إستماتت هى فى الرفض ..وإستماتت امها فى العرض ..
لم توافق ألا عندما رأت نظرة الأنكسار فى عين أبيها ..
وكأنه يقول لها ..
أبعد كل ما فعلناه من أجلك ..!ما زلتى تشعرين بالصغر وبفقر أبيكى ؟
فى هذه الليلة التى غرزت أظافرها فى وجدانها وكيانها ..
صمم أبيها أن يكون أحد أبطال هذه الليلة ..
جلست بجانبه فى سيارته التاكسى التى يعمل عليها وهى فى أبهى حللها وكامل زينتها وجمالها ..
جلس فى أنتظارها وسط سائقى وسيارات علية القوم وحكامها ..
إستقبلتها العروس فى فرحة غامرة ..وسحبتها من يدها فى مرح
وفجأة ..!! وجدت نفسها أمامة ..
فتى أحلام أى فتاة تقع عيناها عليه ..
فى إنبهار وذهول وإرتباك ..وضعت يدها فى يده الممدوة ..
حُفرت فى ذاكرتها كلمات صديقتها له ..
- هذه هى صديقتى التى حدثتك عنها ..هى من الآن مسئوليتك ..
وستعرف أننى لم أكن أبالغ فى وصفها ..وفى إنتظار إجابتك ..
أما أنتى يا صديقتى هذا أخى الأكبر..هومن الآن أمانة فى رقبتك
ورهن أشارتك ..ودعينى أعرف أجابتك قبل رقصة الزفاف ..
سحبها من يدها المستسلمة ليده إلى الفراندة الخارجية ..
لم تدرى كم من الساعات مرت عليها وهى تستمع إليه ..
اُختصر العمر فى هذه السويعات..أختفت الأماكن ..ظلت هذه الفراندة هى المكان الذى تَحجُ إليه ذاكرتها كلما شعرت بوحشة الأماكن ..
حدثها عن نفسه ..
خريج سياسة وإقتصاد يعمل فى أحدى السفارات يسير على منهج عائلته بالعمل فى السلك الدبلوماسى ومرشح لأن يكون سفيرا..
لذلك فكر فى الزواج .. رشحتها اخته لأن تكون الزوجة المناسبة ..
وهو يرى أنها كانت على حق فى وصفها لجمالها وذكائها ..ويريد أن
يعرف أجابتها ..؟؟ لم تمحى من ذاكرتها كلماته المرحة الأخيرة ..
- سأعطيكى مهلة خمس دقائق..أحضر لك فيها مشروبا من الداخل ..
وأعود لأسمع أجابتك ..
وجدت نفسها واقعة فى خضم مشاعر جارفة ..
كانت كلها تنصب فى كلمة واحدة ..
- نعم ..نعم موافقة ..أجابتى هى نعم ..
أخذت تلف حول نفسها ضامة يدها على قلبها فى سعادة ..وهى تردد
- نعم ..نعم ..أجابتى هى نعم ..
فجأة ..؟؟
وقع بصرها على أبيها واقفا وسط سائقى علية القوم ..
نظرت من خلال زجاج الفراندة إليه وهو يهمس لأبيه فى أذنيه ويشير إلى الفراندة ..وأبيه يهز رأسه بالموافقة ..
عادت تقلب نظرها إلى أبيها ..ويتسرب إلى السطح من عقلها الباطن إلى الواعى ..إحساسها بالصغر والضئالة ..
كالمغيبة تحركت قدماها دون رغبة منها ..تاركة الفراندة ..
جلست بجوار أبيها صامتة..
لا تتذكر أيا من كلماته التى قالها فى رحلة عودتهما..
فتحت عينيها عندما سمعت صوت المذيعة الداخلية تعلن عن النداء الأخير لأحدى الرحلات ..توجهت ببصرها إلى قارئها الذى يشاركها
قصتها ويعيش مع أحداثها ..كان ما زال يقرأ بتركيز تعجبت له ..
فجأة ؟؟
رفع الكتاب من على وجهه ..مستمعا للنداء الأخير للمذيعة الداخلية ..
واضعا فى عجالة الكتاب مقلوبا على الكرسى ..
تناول شنطته الدبلوماسية ورفع البالطو على يديه ..
مر بجانبها مسرعا إلى بوابة دخول الطائرة ..
كاد قلبها أن ينخلع من مكانه ..وصرختها إنحبست كخرساء تشير
بيديها ..وعينيها تتابعة إلى أن أبتلعته بوابة الركوب ..
صرختها التى لم تغادر شفتيها مرددة ..
- هو ..نعم هو ..كان يقرأ قصتنا ..
تحركت قدماها دون وعى منها إلى كرسيه ..وضعت أصبعها على الصفحة التى توقف عندها ..وصرخت فرحة ..
- كان يقرأ قصتنا ..نعم هذه قصتنا ..
شعرت بإنقباض قاتل وكأن خنجرا نارى مسموم غُرس فى قلبها صارخه..
- لم يَقلب الصفحة الأخيرة ..لم يعرف أجابتى ..
رفعت الكتاب وجرت ناحية البوابة التى إبتلعته ..أوقفها الأمن ..
فقد تحركت الطائرة ..
أرتدت بظهرها تبحث من خلال زجاج صالة الترانزيت عن طائرته ..
أخذت تشير بالكتاب فى يدها فى إتجاة الطائرة ..
(النهاية )