تحت تعريشتها تجلس بت الجعيلي , وبين طواجنها وآنية القهوة .. , تلقي مكانها عامرا .. وحكاويها لا تنقطع , ويومها لا ينتهي حتى يبدأ من جديد .. , نارها لا تنطفيء , وزوارها لا ينقطعون , إنهم أبناء الأهل والحي والأصدقاء و أبناء الحصاحيصا يأتون إليها من كل
أنحاءها .
إنها إحدى الرموز الوضاءة من جيل أمهاتنا اللواتي بدأن في الإنسراب من بين أيدينا .. , وهيهات أن تأتي الأقدار بأمثالهن في طاقات الحنين والعطاء اللا محدود والايثار وسمو القيم والتصالح مع الحياة.. وسمح الكلام... رحم الله بت الجعيلي .
أحيانا التعليم يزحزح الأشياء من مكانها .. , ولذا كان صديقنا مختار حسن مختار كان يأسي لأنه تعلم ويقول كانت كل طموحاته أن يرعى في البادية وأغنامه أمامه وفي فمه صفاره .. !!
بت الجعيلي وأخواتها هن الأصل وهن البيت والعوافي والمحنة والكسرة.. , ولذا حق لصديقنا الصحفي الفنان هاشم كرار أن يقول : " حين تموت الأم – أي أم في الدنيا – تموت بعض الرحمة ..,
ويسرد واقعة سبقت رحيل أمه بسويعات , حينما أستيقظ ابنه في الرابعة صباحا مزعورا وهو يقول لهم : " حبوبه ماتت " !! .. فانتهرته أمه .. , فهم يقيمون في الدوحة بينما – حبوبه – في الجزيرة .. وتفصل بينهما آلاف الأميال ..
لكن في السابعة صباحا رن جرس الهاتف : " هاشم رحم الله أمك " !!
لم يكن من فراغ أن يولي الكاتب والصحفي الكبير هاشم كرار اهتمامه بقضايا المرأة .. , لتجدها ماثلة بين ثنايا صفحات كتابه الشيق : " طق .. طق .. توقف الزمبرك " وهو مجموعة أعمدة كتبها في صحيفة الوطن القطرية .
توزعت جل موضوعاته بين رموز نسائية علي امتداد المعمورة , فهو ينعي آنا بوليتكوفسكايا التي اغتيلت في موسكو علي خلفية تقاريرها الجسورة في الشيشان . يقول : إن أربع رصاصات اخترقت جسدها في الوقت الذي كانت منظمة مراسلون بلا حدود الفرنسية تدشن أول نصب تذكاري لشهداء الصحافة الذين بلغ تعدادهم ألفي صحفي , حيث يسقط كل عام ما لا يقل عن ( 60 ) صحفيا .
ويمضي إلي أم السودانيين فاطمة أحمد إبراهيم رئيسة الاتحاد النسائي السوداني , وينقل صورة ناصعة عن عظمة هذه المرأة التي امتلكت طاقات في العطاء الوطني والإنساني قل أن نجد لها نظير . حينما أعدم زوجها الشهيد الشفيع أحمد الشيخ .. زغردت .. , استحال البيت إلي تظاهرة .. كان لزاما تدخل الشرطة .. بخوزاتها وسياطها .. وبالرصاص في الهواء .. , اندفع جيب عسكري ترجل منه ضابط شاب .. حين أبصر فاطمة وسط الحشود .. باعد بين خطواته الثابتة ليقف أمامها ويحيها التحية العسكرية : تعظيم سلام .. !! .. وترك لنا هاشم كرار معرفة مصير ذلك الضابط الفارس الشهم.
فاطمة انتصرت للمرأة في ميادين المساواة في التعليم والعمل .. , وفتحت ( 61 ) مدرسة لتعليم الكبار .. , وأسست الصحافة النسائية .. وكان الاتحاد النسائي شعلة من النشاط .. تدخل عضواته كل البيوت .. ويعملن في كل المجالات من أجل الانتصار لحرية المرأة مساواتها واحترامها وخروجها من للحياة بعد أن كانت مكبلة , لا تخرج إلا لمنزل زوجها .. ثم إلى مثواها الأخير
العديد من المراحل والتحولات الاجتماعية خاضها الاتحاد النسائي بزعامة فاطمة أحمد إبراهيم .
الحرية عند هاشم كرار أنثي وللحرية طعم , وطعم الحرية في ميانمار بطعم إمرأة أسمها – سان سوكي – وسان تساوي دبابة !! (17) عاما وهي من سجن لسجن .. ومن اعتصام لاعتصام .. ومن إضراب عن الطعام لإضراب .. لافترت لا استكانت , ولا تنازلت , ولا كسروا فيها عظما ولا وهنّ منها الهتاف : الحرية لشعب ميانمار .
وفي دعواه لمحاربة سرطان الثدي يرسم هاشم لوحة جميلة حين يعلن : لست إمرأة , غير أني , مثلي ومثل أي رجل آخر في هذه الدنيا خرج من بطن إمرأة يعنيني سرطان الثدي .. أول تعارف لأي إنسان في هذا الوجود لا يبدأ إلا بالثدي أجمل وأطهر ( مصنع ) للغذاء في التاريخ .. ويسترسل في رسم الصورة : .. لعامين قبل الفصال تظل العلاقة : حميمية جدا ودافئة وغريبة ومدهشة ومصيرية لحد كبير بين أي منا وثدي الأم ...
في حديثه عن تسونامي الذي شغل العالم يقول بأسي إنه لم ينتقص من إنسانيته ومرؤته إلا خبر اغتصاب النساء اللواتي رمي بهم الإعصار في المعسكرات .. , يلتقط هاشم الخبر بحس صحفي فنان ماهر لينسج من حوله غلالة من الحزن والشجن ليعلن أن الاغتصاب أكثر قبحا وإيلاما وتدميرا من تسونامي الإعصار .. ويصف أولئك الرجال الذين يمارسون هذا الجرم .. بلا .. رجال .. ويقول إنهم شوهو الجنس ..
أنجلينا جولي جميلة الجميلات .. يلتقط خبر وصول طائرتها لمدينة الجنينة السودانية في دارفور .. حيث ذهبت لتتفقد أحوال الناس هناك .. , فهي سفيرة النوايا الحسنة .. وهي الأم المربية لستة من الأبناء من بينهم أطفال تبنتهم .. , ويرسم هاشم كرار لأنجلينا جولي صورة مشرقة ويصف حالها بأنها كانت مرهقة .. متربة , لم تمنعها الشهرة والمال عن أداء رسالتها الإنسانية العظيمة لتؤكد إن الفنان موقف والتزام وعطا لا محدود ..
وعن فيديو جلد الفتاة في الخرطوم .. يقول إن هذا الشريط أخرجه من جلده : " شو .. نزل السوط كضربة برق علي الجسد الأنسوي .. نزل كالصاعقة التي تشق الشجرة نصفين , نزل علي الظهر الذي تقوس راكعا , نزل علي البطن , الصدر , الثديين , نزل علي الوجه , أسفل الحجاب الحاجز .. " ..
يا للعار .. كان الجلاد يضحك في سادية غريبة وكان بعض الرجال منزوعين المروءة يتفرجون يتابعون السوط وهو يتلوى في الهواء , وإذ هو يتنزل شواظ من نار , وكان القاضي " المتكرفت " يستظل بشجرة لكأنما كان يحاول في لاوعيه – ولا وعيه يرتجف – أن ينجو من حر جحيم السوط البذيء الكافر , الزنيم .
ما حدث في الخرطوم , وجسده شريط الفيديو الذي هز ضمير العالم كله , لا يمكن الدفاع عنه إطلاقا . إنه يحدث كل يوم في السودان .
وفي أخري يصرخ هاشم مستعيرا هذه المرة صوت المواطنة الأمريكية تيري شافو تلك التي انتزعوا منها أجهزة التغذية في إحدى مستشفيات فلوريدا لتفارق الحياة .
ويلقي بالأسئلة القائلة: .. إن كانت الحياة مقدسة .. أم لا ؟ ويثير شكوكا في الضمير الطبي .. , ضمير أولئك الذين ارتبطت بهم صفة الرحمة .
وفي مقالة أخري ينقل هاشم كرار صوت الشيخة موزه من ريو دي جانيرو وهي تخاطب مجموعة تحالف الحضارات ليمضي إلي رسالته بصورة أكثر فاعلية , ويري في ذلك دعوة لتحويل الأفكار إلي برامج .
في تقدمة هذا الكتاب يقول الدكتور عبد المطلب الصديق إن العامل الإنساني هو القاسم المشترك الأعظم في كتابات الكرار .. وهو يجيد التماهي مع الإنسان العلاقة بين الرجل والمرأة ويصطحب هذه العلاقة حتى النهاية .. , ويضيف هكذا هو العمل الإبداعي يجيء كما زخات المطر .
الصديق الكاتب هاشم كرار قاص مبدع , وحكا من الطراز الأول , يجيد التفاعل مع لغة الكلام .. , ينمق حروفه وينتقي الجمل , ولولا الصحافة التي تمتص كل طاقاته وجهده الإبداعي لكان له
شأن آخر في القصة والرواية .. , لكن الصحافة زوج غيور .
علي تل من الرمال قرب شاطيء النيل الأزرق قرأ لنا هاشم قصة قصيرة يحفظها عن ظهر قلب- كان ذلك في الثمانينات – عالج فيها تناقضات الحياة وتحولات الأيام , وكيف إن العاشق الممسك بيد معشوقته ويدخلان الكافتريا لتناول الايسكريم .. , رآهما بعين الفنان وهما يخرجان من الطبيب ليدخلا إلي الصيدلية . .. !!
هاشم كرار تحية وأحتراما ,,,
إبراهيم علي إبراهيم
لندن –مايو 2012
هذا المقال نشر اليوم الجمعة 13/7/2012 في سودانيز أون لاين