زفرات حري
الانتباهـه 13 ديسمبر 2010
عاصفة من الاحتجاجات سمعتها وقرأتها تعليقاً على بعض المقالات الناقدة لاتفاقية نيفاشا أخذ بعضها منحى غريباً وما ظننتُ أننا بلغنا ذلك الدرك السحيق من التردي وقد أصابني غمٌّ شديد
ليس بسبب ما لحق بي من هجوم اعتدت عليه بل أراه أمراً طبيعياً بعد أن هيأتُ له نفسي واعتدته منذ أن جردتُ قلمي وأشهرته للدفاع عن رؤيتنا الفكرية والسياسية لحل مشكلة جنوب السودان والتصدي لمن يُنكرون علينا الصدع بها كونها تحتاج إلى قوة في الطرح وشجاعة في مواجهة سلطان العادة وروح القطيع التي هيمنت على العقول والأفئدة على مدى عقود من الزمان.. أقول أصابني غمٌّ شديد أن الاحتجاجات والنقد اتخذ منحى غريباً تراوح بين البُعد القبلي والبُعد التجريمي وقد أتقبل البُعد الثاني كونه من مظاهر العمل السياسي لكني أُنكر أن يظن بعض الناس فيما أكتبه بُعداً قبلياً فذلك مما أدهشني بحق وكشف لي درجة التردي في العمل السياسي التي انحدرنا إليها.
أعلم أن بعض محبي الأستاذ علي عثمان محمد طه قالوا إنني حمَّلته المسؤولية الكاملة عن كل مخرجات نيفاشا وكأن القرارات تصدر عنه وحده وليس عن مؤسسة الحزب الحاكم أو بدون تفويض من الرئيس وبالرغم من اعتراضي على الطريقة التي أُديرت بها مفاوضات نيفاشا والتي لم تُعرض حتى على مجلس الوزراء أو البرلمان إلا بعد توقيعها بالرغم من أنها أخطر وثيقة في تاريخ السودان السياسي منذ الاستقلال إلا أنني لم أخوِّن الأستاذ علي عثمان.. كيف أخوِّن رجلاً كان ولا يزال مثالاً للطهر والزهد والاستقامة والتجرد والأخلاق الكريمة؟
لقد كتبتُ من قبل مقالاً عن شخصية الأستاذ علي عثمان الذي عاصرته منذ المرحلة الثانوية وقلت إنه رجل بنى مجده الشخصي بمؤهِّلات ذاتية مركوزة في شخصيته القيادية التي تخطت به الرقاب وتجاوزت به الأكبر سناً وسبقاً منذ ترؤسه لاتحاد «الخرطوم الثانوية» ثم اتحاد جامعة الخرطوم ثم تزعمه للمعارضة إبان فترة الديمقراطية الثالثة في ثمانينات القرن الماضي ولا أزال مقتنعاً بقدرات الرجل وكنت حينها قد استشهدت بمقولة الإمام علي كرم الله وجهه: «إن قيمة كل امرئ ما يحسنه» ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يُولِّ أبابكر الصديق أعظم البشر بعد الرسل والأنبياء قيادة الجيوش كما لم يولِّ سيف الله خالد بن الوليد إمامة الأمة وخلافة المسلمين.
صحيح أنني كثفت من نقدي لنيفاشا خلال الأيام الأخيرة وما ذلك إلا لأننا نعيش أجواءها هذه الأيام التي تعتبر الأخطر في تاريخ السودان فنحن بين يدي إعادة تشكيل جغرافية وتاريخ وهُوية السودان ولم تبق لنا إلا أيامٌ قليلة هي التي تحدِّد مسار المستقبل ولا أخفيكم أني أرى أن تنازلات كثيرة قد قُدِّمت خلال مفاوضات نيفاشا وأرى أن أمريكا وأوربا وما يسمى بالمجتمع الدولي يتكأكؤون علينا هذه الأيام بنفس الصورة التي شهدناها قُبيل توقيع نيفاشا وهل أدل على ذلك من زيارة مجلس الأمن للسودان وهو الأمر الذي حدث خلال الشهور الأخيرة قبل توقيع نيفاشا حين زار مجلس الأمن حينها نيروبي مكثفاً الضغوط التي تتكرر هذه الأيام بغرض تقديم تنازلات جديدة حول القضايا العالقة التي أرى أنها ستحدِّد مصير الشمال الذي بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق استقلاله الحقيقي ومن تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الإنجليز في حقه حين زرعوا شوكة الجنوب السامة في أحشائه حتى تفتك بجسده وتُرديه قتيلاً.
على هذه الخلفية كتبت مقالاتي مذكِّراً بأجواء نيفاشا التي تهبُّ علينا مجدداً بضغوطها وعصاها وجزرتها وخواجاتها ومحذِّراً من تكرارها.
صحيح أنني ذكرت الأستاذ علي عثمان بالاسم في مقالين أحدهما وهو الأهم كان تعليقاً على تصريح أدلى به وزير بريطاني زار السودان مؤخراً ولم يقل ذلك التصريح إلا داخل منزل السفير البريطاني حيث قال إن علي عثمان تعهد له بأن الجنوبيين سيُمنحون الحريات الأربع في الشمال وهو أمرٌ أزعجني وجعلني أستفسر عما إذا كان ذلك قد تم بالفعل حيث إني أعتبر هذا الأمر «الحريات الأربع» من القضايا الخطيرة التي لا ينبغي أن تناقَش أو أن تقدَّم بشأنها تنازلات لارتباطها الوثيق بأمن الشمال القومي ويُفترض أن تُترك إلى وقت لاحق ويُقرَّر بشأنها في ضوء علاقة الدولة الجديدة بالشمال فإن كان الانفصال سلساً يمكن أن تُمنح واحدة من تلك الحريات بعد مُضي سنوات يطمئن خلالها الناس إلى أن الحركة لا تضمر شراً للشمال ولا تفكر في إقامة مشروع السودان الجديد في أراضيه ولا تسعى لزرع عملاء يفتّون في عضد الدولة خاصة وأن باقان الحركة وعرمانها أفصحا عن اعتزامهما العمل لإقامة مشروع السودان الجديد في الشمال بعد الانفصال فهل نزرع الشوك في أحشائنا ونُدخل أحصنة طروادة في أرضنا تمهيداً للاجتياح الكبير؟!
استنكر البعض كذلك دعوتي إلى انقلاب داخل الإنقاذ بعد نقد عنيف لنيفاشا التي قلت إني أرى أن روحها لا تزال تسري في أجسادنا مستشهداً بحالة الضعف التي تعاني منها والتي بلغت درجة أن يُعزل الرئيس داخل بلاده من قِبل زوار السودان من وسطاء الدول المعادية بعد أن عُزل في الخارج من قِبل من نستقبلهم بالأحضان رغم علمنا أنهم يحملون سكاكينهم للإجهاز علينا تماماً كما فعلوا للعراق وهو يستقبل مفتشيهم الذين كانوا يجوسون خلال الديار ويتآمرون إلى أن أطبقوا على عاصمة الخلافة الإسلامية وشنقوا رئيسها.
لم أقصد من كل كتاباتي إلا التحذير من أن تتلبسنا روح نيفاشا وتحملنا على تقديم تنازلات حول قضايا مصيرية توردنا موارد الهلاك ولم أقصد أن أسيء إلى شخص الأستاذ علي عثمان الذي لا أزال أحترمه وأكنُّ له تقديراً كبيراً لكني أرفض أن يتم التنازل عن شبرٍ واحد من أرض الشمال وأطلب أن نأخذ حِذرنا ونعدَّ العدة لأسوأ الاحتمالات ونستخدم الأوراق المتاحة لنا لا أن نهدرها ونمزقها بحسن نية لا تُجدي مع من جرّبنا غدرهم ولا نزال نقرأ عن مخططاتهم ومكرهم الذي تزول منه الجبال.
بلغني كذلك أن الأخ الفريق صلاح قوش ظن أني خوّنته بذكر تصريح أدلت به مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة جينداي فريزر لصحيفة الواشنطن بوست بالرغم من أني لم أذكر صلاح بالاسم وقلت «دعونا لا نصدق ما ذُكر» ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لما أوردت ذلك التصريح وأقر بأن عباراتي كانت حادة في تناول نيفاشا وتداعياتها وكذلك تناول القضايا العالقة التي يجري التفاوض حولها الآن، لكن أرجو ممَّن غضبوا جميعاً خاصة الأخوين علي عثمان وصلاح قوش أن يعلموا أنه لا توجد مشكلة شخصية مع أيٍّ منهم لكنه الحرص على مستقبل هذه البلاد من أن تضيع بين أنياب المغول الجدد وكل الذي أرجوه وأطلبه وقد تبين مكر الأعداء أن نرفض تقديم أي تنازل وأن نجهِّز أنفسنا ونعدّ شبابنا الذين ما خذلونا أيام الجهاد والاستشهاد.
إن السودان الشمالي يشهد هذه الأيام ساعات طلق الميلاد الجديد فإما أن يكون المولود مشوهاً وإما أن يكون معافى وينبغي أن تُحشد جميع الطاقات في سبيل الخروج بسودان شمالي قوي ومعافى، ولا يتأتّى ذلك إلا بالصمود أمام ضغوط الأعداء بما فيهم الحركة الشعبية ذات الارتباط الوثيق بالأجندة الصهيونية والأمريكية والغربية الأمر الذي يستدعي استنفار هذا الشعب للحفاظ على أرضه وهُويته «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ٭ إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
لقد سعدتُ والله أن القيادة العامة للدفاع الشعبي قد زأرتْ أخيراً وبشّرتْنا بأنها جاهزة بأكثر من مليون مقاتل للذود عن حياض هذه الأرض الطاهرة وها هي رائحة علي عبدالفتاح تعبق مجدداً وها هي روح اللواء عبدالمنعم الطاهرتطلّ علينا من وراء الغيب وها هي برامج ساحات الفداء يُنفض عنها الغبار من جديد وها هي البلاد تنزع عنها ثوب الاسترخاء لتعلن أنه لا تراجع ولا تنازلات عن شبرٍ من أرضنا ليدوس عليها باقان وعرمان وبنو علمان ويعيدوا سيرة أولئك العملاء ممَّن دخلوا بغداد على ظهور الدبابات الأمريكية.
أختم بأن أقدِّم اعتذاري لكل من أصابهم رشاش كلماتي في مقالاتي السابقة وليتهم قدَّروا أني ما كتبت ما كتبت لتحقيق أجندة شخصية وإنما حرصاً على هذه البلاد وهُويتها من أن تضيع ويفترسها الأعداء.
http://www.alintibaha.net/arabic/news.php?action=view&id=424