عندما يتابع المرء أخبار الثورات العربية
-سواء في وسائل الإعلام العربية أو الأجنبية- يدهشه كيف أن إدوارد سعيد ما
زال حاضرا في مركز تحليلات تلك الأخبار. يحتاج المرء فقط أن يأخذ في
اعتباره حجج إدوارد سعيد الصادقة حول المواضيع المتصلة بهذه الأحداث وفي
مقدمتها أفكاره عن الديمقراطية، الحرية، الحداثة، التنمية، الهوّية،
الإسلام، العرب، وسائل الإعلام وما شابه ذلك.
الثورات العربية والخطاب الاستشراقي
من
جانبي، تذكرت إدوارد سعيد عندما رأيت جون ألترمان يتحدث عبر قناة الـ"سي
إن إن" CNN في برنامج عن ما وراء الحدث محللا وجهة نظره عن الأوضاع في
تونس، بعد ساعات قليلة من هروب الرئيس زين العابدين بن علي.
تم
تقديم ألترمان في قناة "سي إن إن" بوصفه خبيرا بشؤون الشرق الأوسط، وهو
لقب مستعار يُمنح من قبل جامعات نيو إنغلاند للمستشرقين الجدد في عصرنا
الحالي. يعمل ألترمان مديرا وزميلا باحثا لبرنامج الشرق الأوسط في مركز
الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)، وهي مؤسسة بحثية أمريكية تزود
المسؤولين الأمريكيين بتحليلات استشارية للتعامل مع القضايا الإستراتيجية
في الشرق الأوسط.
كان مقدم البرنامج
مايكل هولمز قد طرح على ألترمان سؤالا نموذجيا عن كل ما يحدث في هذا الجزء
من العالم، سائلا إياه عن مدى ما يمكن التنبؤ به في تلك الرقعة الجغرافية
من المعمورة. وكما هو معروف في الثقافة الغربية فإن السمة الأساسية التي
تميز هذه المنطقة في السرد الاستشراقي هي عدم القدرة على التنبؤ بمواقف
وسلوك الناس الذين يعيشون فيها، لأن القدرة على التنبؤ هي عرض من أعراض
التفكير العقلاني والمنطقي، وبطبيعة الحال فإن التفكير المنطقي والعقلاني
هو أبعد ما يكون عن عقلية الشرق، على نحو ما تذهب الرؤى الاستشراقية.
طرح
مايكل هولمز على ألترمان سؤالا عما إذا كان قد توقع حدوث شيء مثل هذا بتلك
الطريقة السلمية والحضارية. كانت الإجابة نموذجية كما كان السؤال، حيث لم
يخيب خبير الشرق الأوسط توقعات مضيفه أو محاوره، مجيبا بأنه ما كان له أن
يتوقع ما جرى وبهذه الطريقة.
لم تكن
إجابة ألترمان مثيرة للدهشة على الإطلاق بالنسبة لي أو لأولئك الذين هم على
بينة من الصور الملفقة بشكل صارم حول هذه المنطقة وشعوبها في العقل
الغربي. وفي ظل وجود آلاف من السرديات الشرقية عن الشرق ككيان جغرافي
وسياسي وثقافي فإن العقل الغربي لا يمكنه قبول فكرة أن هذه المنطقة يمكنها
الوقوف خلف أي شيء إيجابي أو مفيد، وهو ما يحفظ الصورة التقليدية القبيحة
عن هذه المنطقة ذات النهج الغرائبي أو الإرهابي. فعلى مر التاريخ، تم نقش
مكان لهذا الإقليم الجغرافي في العقل الغربي على أنه "مكان للرومانسية،
والكائنات الغريبة، وذكريات الصيد، والمناظر الطبيعية، والتجارب الرائعة"
(Said, 1978, p. 01).
المناسبة الثانية
التي تذكرت فيها إدوارد سعيد في هذا السياق كان بعد أن شاهدت تقريرا مصورا
قصيرا على موقع النيويورك تايمز. كان المتحدث في هذا الفيديو توماس
فريدمان، الصحفي اليميني في صحيفة نيويورك تايمز. على المرء أن يتذكر أن
فريدمان معروف بكونه يهوديا صهيونيا ومن أشد المؤيدين لإسرائيل التي
يعتبرها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط؛ وهو مشهور أيضا
بدفاعه الشرس عن إسرائيل والسياسة الخارجية الأمريكية والنظر إلى إسرائيل
باعتبارها الحليف الجيوستراتيجي الأول في المنطقة، وبأنها جزء لا يتجزأ من
"العالم الحر".
بالنسبة لإدوارد سعيد،
فإن توماس فريدمان هو خصم تاريخي للشعوب العربية إن لم يكن عدوها الأول.
ولمن لا يعرفه، فإن السيد فريدمان مشهور بتشويهه المتعمد وتعليقاته
العنصرية ضد العرب. في هذا الصدد يقول إدوارد هيرمان المؤلف المشارك مع
نعوم تشومسكي لكتاب "صناعة الإذعان" إن "فريدمان يتعمد تشوية سمعة العرب
وصفاتهم العاطفية بانتظام، ويلصق بهم صفات الحماقة، والعداء للديمقراطية
والتحديث". يرى إدوارد سعيد أن فريدمان ليس سوى "معتوه/موهوب" وتلميذ جيد
"للمستشرقين القدامى المحترفين أمثال برنارد لويس" كما وصفه سعيد في مقالته
الشهيرة "الحياة بطريقة عربية" . فحوى الاستشراقية في أعمال فريدمان سافرة
بالنسبة لمن يتبع كتاباته المثيرة للجدل في القضايا المختلفة. كما وصفه
نعوم تشومسكي باعتباره بوق من أبواق جميع الحروب الأمريكية التي نشبت في
المنطقة خاصة بعد أن أشاد فريدمان بالقصف الإسرائيلي الإجرامي للمدنيين
العزل في غزة مشيدا بما قامت به إسرائيل من "تلقين" سكان غزة درسا مهما.
وأخذا
كل ما سبق في الاعتبار، يصبح من المثير جدا البحث عن مثل هذه الأصوات خلال
هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ المنطقة، وكان هذا مصدر قلق كبير في ذهني
عندما كنت أتابع الثورات العربية وتغطيتها في وسائل الإعلام الغربية. أردت
حقا أن أرى السيد فريدمان وحفنة من المحافظين الجدد الذين هم من أكثر
المنتجين والمستهلكين الحقيقيين لكل الأفكار الاستشراقية السياسية
والثقافية على حد سواء. تمنيت بصدق أن أقابل كل من برنارد لويس، صمويل
هنتنغتون، فرانسيس فوكوياما، فؤاد عجمي، ريتشارد بيرل، ودانيال بايبس،
وتشارلز كراوتهامر... وعددا لا يحصى من المنظرين ذوى التوجه اليميني، من
صحافيين وسياسيين، فقط لأقول لهم أهلا بكم في أجواء استشراقية جديدة.